صدر للقاص والروائي العراقي محمد حياوي مجموعته القصصية التي تحمل عنوان "طائرٌ يشبه السّمكة" عن دار نشر شهريار في البصرة، وهي تجربة جديدة على صعيد فنّ القصّة القصيرة جدًّا.
& &تقع المجموعة في 92 صفحة من القطع المتوسط وتضم 49 قصة قصيرة جدا ، وعلى حد قوله لنا (هي نصوص تحاكي في قسمها الأول "سعادة الفتى الجرئ"، فداحة يومياتي، في حين يركز قسمها الثاني "لا تخبروا أنجلينا أنَّني ميتة" على مأساة الموصل والأرواح البريئة التي ما زالت تقبع تحت الأنقاض (16 قصة) الكتاب تجربة متطرفة على الرغم من قصرها)، الجزء الاول يضم 33 نصا فيما الجزء الثاني 16 نصا ، والعنوان "طائرٌ يشبه السّمكة" مأخوذ من القصة الاخيرة التي تحمل عنوان (طائر) لكنها في المتن تحتضن المعنى كله ،والاجمل قوله لنا تعقيبا على هذا الاصدار : (مع كل إصدار جديد نغلق نافذّة للظلام وننشر أشرعة الروح في عالم الجمال والنّور).
&أسهم في إخراج المجموعة إلى النّور كل من الناشر صفاء ذياب والفنان عبد الكريم سعدون في التخطيطات ولؤي حمزة عبّاس في التقديم والفنان صدّام الجميلي في تصميم الغلاف.
على الغلاف الاخير للكتاب يكتب القاص لؤي حمزة عباس كلمة جاء فيها : يختار محمد حياوي في كتابه (طائر يشبه السمكة) القصة القصيرة جدا ااتعبير عما خفي من مشهد الحياة العراقية والانشغال بوقائع العنف القاهرة، ليدخل في اختبار مضاعف يتمثل في محدودية المساحة النصية مقابل اتساع الحدث الواقعي وتشابك ظلاله .
واضاف: ففي الوقت الذي يفكر بآليات نصه السردي يستحضر بشاعة ما مرّ &بالموصل،المدينة والانسان،ليحقق مشهدا بانوراميا تنجزه القصص القصيرة جدا تمثيلا لما مر ويمر بالعراق وقد استحال مساحة مفتوحة للاهوال .
واستطرد : ان ممكنات التجربة الابداعية في مجموعة حياوي تؤكد ،من جديد،جدارة التجربة السردية في العراق وقدرتها على الخلق والابتكار ،فما ضاق من مساحة النصوص القصيرة وجد متسعه في جهة الخيال وهي تفتح امام النصوص ،مهما اقتربت من مرجعياتها، سبلا جديدة للابداع بشحنتها الاستعارية التي تقترب من حدود الشعر من اجل كتابة وقائع الموت المريرة .
واضاف ايضا: في الوقت الذي نحتفي به بالقصة القصيرة جدا شكلا سرديا غير محدود ،انه (الشكل الحشري) جسب تعبير الكاتبة (لويسا فالينزويلا) التي تقارن الرواية بالثدييات ،سواء كانت برية كالنمر ام اليفة كالبقرة ، والقصة القصيرة بالطائر او السمكة ، اما القصة القصيرة جدا فغالبا ما تقارنها بالحشرو قزحية الالوان،مستمرة التطور ، والمجموعة ،بالوانها وثراء عالمها ،مثال اخر على رقعة هذا الفن وجماله .
& & قصص محمد حياوي القصيرة جدا ،حكايات مكثفة يختزل فيها الكلمات ويطوي فيها المساحات لتظهر الفكرة ملونة ولتكون على الصورة الجميلة التي تأنس يها عين القاريء ويتأملها ذهنه لتكون معانيها حاضرة من دون أي ارتباك قد تتركه كلمة هنا او جملة هناك ، انه يمتلك زمام الامور الى حد انك حين تنتهي من قراءة القصة لابد ان تتوقف لتأكل المشهد الذي مر امامك ، انه يحتويك كليا بقصره وبالمتعة التي فيه التي تأتي من التناغم السري البديع في سبك الحكاية والاهم المفارقة التي تحملها، انه يفتح بابها مواربا حد المفاجأة التي بدهشك فيها فتارة يجعلك تختلق عدة ابتسامات للدهشة والمرح والمفارقة ،وتارة تختلق عدة احزان والصدمة التي قد تسيل ادمع القاريء .
تلك قصص قصيرة جدا ابدع فيها محمد حياوي وأكد فيها قدرته على انجاز تميز في هذا الجنس الادبي الصعب .
&من قصص المجموعة :
&

سيلْفِي مع أَنجلِينا جوْلِي
&أَيْقَظَت الْأُمّ ابْنَتها المُرَاهِقة المَهْوُوسَة في الأَفْلام بَعْدَ أن تَناهى إِلى سَمْعها صَوْت أَنجلِينا جوْلِي ونَشِيجهَا وسط أطْلال أَيْمُن الموْصِل، "أنهْضِي يا اِبْنَتي. أَنَّها أَنجلِينا جوْلِي تجوب الخرائِب فَوْقَنَا. أَنَّها فُرْصتكِ لتحْقِيق حُلْمكِ بالتَّصْوِير معها". مسَحَت الفَتاة عَيْنيهَا وعَدَّلَت شعْرها وراحَت تتَسلَّق الأَنْقاض. صادفَتها الكَثِير من الجثث في طَريقها إِلى الأعلى. وهُناك، وجدَت أَنجلِينا جوْلِي تَجْلِس باكيَة، وما أَن رأتها مُقْبِلة، حتَّى ابْتَسمَت لهَا وفرَّدت ذِراعيّها لتَحضّنها، فأخْرَجَت هاتِفها والتقطَت سيلفِي مَعَهَا وعادَت مُسْرِعَة إِلى الأَسْفَل لِتَرِي أُمّها الصُّورة، لكنَّها اِنْدهشَت حين لَمْ تر وجْههَا بجانِب وجْه أَنجلِينا المُبْتَسِم وسط دُموعها. لقد نَسِيَت أَنَّها مَيْتة مُنْذُ أَشْهر تحتَ الأَنْقاض.

رِيْبَة
ما إن وصَلَ مقَرَّ عمَله في الجَريدَة حتَّى راح الجَميعُ يُخْبِرُه بضرُورَة التَّوجُّه إِلى مكْتَب رئِيس التَّحْرير. اِنْتَابهُ الخَوْف، ومَا إنْ رَآه حتَّى هتَف بوَجْهه “ما الَّذِي فعَلْتَهُ أَيُّها الشُّيُوعي؟ إنَّهُمْ يطْلُبُونَك في الرّئاسَة”، فتجَمّد الدَّم في عروقِه وكادَ يَفْقِدُ وعْيه. في نقْطَة الحِرَاسَة الأُولى قُرْبَ القَصْر، كبَّلُوا يدَيْه وأَلْقَوا بهِ في غُرْفةٍ مُهْملَة، ثمَّ حَضَر اِثْنَان من الحرَس الخاصّ وجَرّاه جرًّا إِلى القَصْر. كَانا طُولَ الطَّريق يتوَعَّدانه بالوَيْل والثُّبُور لأَنَّهُ مطْلُوب في الرّئَاسَة. في المَكْتَب الفَخْم، اِبْتَسَم الرّئِيس المُخِيف بِوَجْهِه وقَال “أَعْجبَتْني مقَالَتكَ المَنْشُورة فِي الصَّفْحَة الأَخيرَة فَقَرَّرت تَكْريمَك”.

مقارعة
بِالنِّسبَة للعَجُوز المُصَاب بسرَطان الدِّمَاغ يَنْتظرُ المَوْت، كانَتْ اِبْتِسامَة المُمْرضَة الشَّابَّة، حِينَ تُطِلُّ عليه صَباحا بوجْهِها الدَّائِرِيّ الصَّغِير وعيْنيْها الخَضْراوَيْن، جُرْعَة يَوْميَّة كافِيَة لمقارعة المَوْت المُتَربّصُ به. وذَات يَوْم، اِنْشَغلتْ المُمَرّضَة بِمُكالمَةٍ طَوِيلةٍ مع حَبيبها، فَطلبَتْ من زميلٍ لَهَا تَفقد العَجُوز. لَمْ تدرك أَهَمّيّة اِبْتِسامَتها بالنِّسْبَة لِإِصْرارهِ على الحيَاةِ، فَمَات كَئيبًا ذَلِكَ الصَّبَاح.

&طَائِرٌ
لَمْ يَكنْ يتَوَقَّع أَنَّ المَاء بَارِد إِلى هَذا الحَدّ حِينَ نزلَ إِلى النَّهْر، كانَتْ سَاقَه المَبْتُورَة تَتْرُك خَيْطًا من الدم خَلْفه، وعندما نَظَر إِلى الضِّفَّة الأُخْرى، لَمْ يلَمح رفَاقه هُنَاك. في طِين الشاطئ وقَفَ ذَلِكَ الطَّائِرُ على خَشَبَةٍ يهّزها المْوَج الخَفيف. كانَ شَكْلهُ غَريبًا ويَتَطلَّعُ إِليه بِغمُوض، وعِنْدَما ابْتعَد قليلًا، شَعَر بالوَهْن، ولَاحَ الرِّجال المُلَثَّمون ينزلون الجُرْف باتِّجاهه، كمَا لوْ كانُوا ذئابا تتشمّم رائِحَة الدَّم، ثمَّ أخذوا يُطْلِقون الرَّصَاص الَّذي بدا مِثْل جَمرَات حَارِقة تَنطفِئ في الماء. كانَتْ الضِّفَّة الأُخْرى لا تزَال بَعيدةً، وسَاقهُ النَّازِفَة أَفْرَغَتْ الدَّمَ تَمَامًا من جسَدِه، وحين غَطس متجنبا الرَّصَاص، لمحَ ذَلِك الطَّائِر الغَريب يَسبحُ تَحْتَ المَاء. لَمْ يَكُنْ طَائِرًا! أو هوَ طَائِرٌ يَشْبَهُ السَّمَكَةَ ربَّمَا، يَقُودهُ إِلى الظُّلَّام في المِيَاه البَارِدَة.
&
يذكر أن محمد حياوي سبق وصدر له: ثغور الماء (رواية، 1983، بغداد)، فاطمة الخضراء (فازت بجائزة أفضل رواية عراقيّة، 1985)، غرفة مُضاءة لفاطمة (مجموعة قصص، 1986، بغداد)، طواف مُتَّصل (جائزة الرواية العراقيّة، 1988، بغداد)، سلسلة ألف ليلة وليلة للأطفال (1990، بغداد)، شكرًا يا أُيّها الفيل للأطفال (بالهولنديّة، 2010، أمستردام)، خان الشّابندر (رواية، 2015، دار الآداب، بيروت)، لا عذارى في حلب (رواية) .
&