للبارانويا أو للذُّهان الهُذائيّ أنماطٌ متعدّدة، لعلَّ أبرزها جنون الارتياب. فالشخص المُصابُ بهذا المرض يعتقد اعتقاداً راسخاً بأنه ضحيَّةٌ لمؤامرات الآخرين، وبأنهُ مُحاصَرٌ ومُستهدفٌ ومُهدَّدٌ من قِبلهم طوال فترة حياته! لذلك فهو دائمُ الإحساسِ بالخوفِ والشكّ من أيِّ موقفٍ يواجهه، ويتعامل مع أيّ مبادرة تجاهه على أنها مكيدةٌ هدفها الإيقاعُ به والنيلُ منه! ولا بدّ من التنبيه إلى أن المريض هنا لا يعاني انفصالاً عن الواقع، بل يقوم بمواءمة هذا الواقع بما يتناسب مع فكرته الثابتة المُسبقة (وهذا ما يميِّز البارانويا عن الفُصام). إضافةً إلى أنَّ عُصابهُ هو نتيجةٌ لذُهانهِ، بمعنى أنَّ ما يرشحُ من وعائه الذُّهانيّ يصبُّ في كأسهِ العُصابيّ. وللاقتراب أكثر من الشكل الذي تبدو عليه الشخصيَّة الارتيابيَّة، سنضرب هذا المثال: شابّ في الخامسة والثلاثين من عمره، وبعد انفصاله عن زوجته بسبب شكِّه الدائم وغيرته العمياء، ومكوثه فترةً من الزمن من دون عمل، وشعوره بالعزلة والوحدة الدائمتَيْن، وقع فريسةً لمرض جنون الارتياب. ومع مرور الوقت تناقصت ثقته بالناس

رويداً رويداً، حتى باتت شبه معدومةٍ، ووصلَ به الأمر إلى حدِّ الشكِّ المُطلق! فإذا حصل أن دعاهُ أحد أصحابه إلى تناول شيءٍ ما أو شرب شيءٍ ما، ظنَّ بأنَّ في الطعام والشراب سُمَّاً أو مخدِّراً. وإذا سمع صوتَ حديثٍ في الشارع، اعتقدَ بأنه موضوع ذلك الحديث. حتى صار يشكّ في كل شيءٍ إلى درجة أنه قد يسألك في أوَّل لقاءٍ بينهُ وبينك: ماذا قال لك عني فلان؟ هل أخبرك بشيء عني؟! والأمر لم يتوقف فقط عند الشكّ والفزَع والذُعر! فهناك السوداويَّة والتشاؤم، واعتبار العالَم بأنهُ مكانٌ غيرُ آمنٍ! وعلى الرغم من أنَّه شخصٌ متعلِّمٌ، وفي بعض الأحيان يقوم بربط الأحداث بطريقةٍ منطقيَّة للغاية، إلَّا أنَّ سيطرة هذا النوع من الأمراض على جزءٍ لا بأس بهِ من ذهنه، قد غيَّبَ الملكة النقديَّة عن آرائه واستنتاجاته. هذا المرض هو مرضٌ شخصيّ، ويمكن له أن يكون جماعيَّاً، من حيث الشكل والسلوك الظاهريّ. إكلينيكيَّاً، لا يوجد علاجٌ جذريّ لهذا المرض، وجميع العقاقير الطبّية المُقدَّمة لا تمثِّلُ أكثر من حلول إسعافيَّة أو ترقيعيَّة، لكن بالإمكان مساعدة المريض من الناحية المعرفيَّة، في فصل مشكلته وتمييزها وعزلها عن باقي حياته. وتدريبه على مُحاججة كلّ فكرة ارتيابيَّة تزوره، وعلى التمحيص المنطقيّ حيالَ أيّ موقفٍ يساوره الشكُّ فيه،

حول نوايا شخصٍ ما تجاهه، وإعادة بناء ثقته بنفسه وبسلامته الذهنيَّة أولاً، كي يتسنَّى له، في ما بعد، استعادة الثقة بالآخرين الجديرين بها.

باحث سوري في علم النفس التحليلي