أخيراً جاء الباص، ووضع حدّاً لانتظاري الطّويل تحت سماءٍ ماطرةٍ. ظننتُه أنهى دورته الليلية الأخيرة قبل وصولي إلى المحطّة. أحياناً لا يأتي فيتذمّر النّاس. أغلَقْتُ المظلّة وصعَدْتُ إليه كأنّما أصعد إلى العالم من جديدٍ. فقدَتُ توازني حين اندفع بقوّةٍ هائلةٍ خلخلَت جميع الرّكّاب. وسّعتُ ما بين قدميّ ولذتُ بأحد المقابض، وأرسلْتُ بصري بحثاً عن مكانٍ شاغرٍ. رمَقَتُ مقعداً فارغاً فلجأْتُ إليه، وشرعتُ أُنقّل نظري بين الوجوه الصّامتة. شدّ انتباهي وجهٌ وسيمٌ لفتىً يجلس في مقعدٍ مقابلٍ. أحرجني بابتساماته المُتحبِّبة، فتصنّعْتُ الانشغال عنها بإعادة تصفيف شعري الّذي عبثَتْ به الرّيح، ثمّ سحبْتُ هاتفي من الحقيبة. شغّلْتُه، وشرعْتُ أنْقُر على شاشته، وبين حينٍ وحينٍ أَرُدّ على الإيماءات التّودّدية للفتى بنظراتٍ خاطفةٍ. رسمتُ له ابتسامة إعجابٍ حين توقّف الباص وتهيّأتُ للنّزول. لم أتوقّع أن يتبعني، ولكنّه فعل ونزل معي في نفس المحطّة. كانت السّماء قد أقلعت للتوّ، وآخِر قطرات المطر لا تزال تلمع تحت أعمدة الإنارة. الهدوء شاملٌ لا يتخلّله سوى حفيف الرّيح في الأغصان ومواء القطط حول صناديق القمامة. نظرتُ برهبةٍ إلى المنازل المُطفأة، بينما الفتى يتثاقل في مشْيَته ليبقى ورائي. وقْع حذائي على الرّصيف كان يَخِفّ كلّما التفتْتُ إليه. لعلّه يتخيّل أنّني أريده أن يتخطّاني، إلاّ أنّه لم يفعل حتّى بعد تَوَغّلي في الأزقّة النّائمة. تباطأَتْ خطواتي حين تكاثَف الظّلام، فلحق بي. ألقيتُ عليه التّحية بصوتٍ خافتٍ، وطلبتُ منه أنْ يرافقني في الطّريق. – «أخشى الأشرار، إنّهم يتربّصون بالنّساء في مثل هذه السّاعة المتأخّرة من الليل». لبّى طلبي، وسِرْنا جنباً إلى جنبٍ، نتحاور في العتمة الدّامسة. حمل إلينا السّكون، من بعيدٍ، موسيقى صاخبةً وضجيج فتيانٍ يُعربدون. سألني لِمَ تأخّرْتُ وأنا أخشى ما أخشاه، فأجبتُ: «بسبب عطبٍ أصاب سيارتي، لم أُفلح في إصلاحه». كفّ عن الحديث فجأةً وصار يخطّط لتوطيد علاقته بي (أو هكذا شُبّه لي). حاول أن يعرف إن كان يغمرني إحساسٌ مّا وأنا بجانبه، فاندهشتُ ولم أدْر بِم أجيب. فكّرتُ في أن أسأله عن أيّ إحساسٍ يتحدّث، ثمّ تراجعْتُ ولُذْتُ بالصّمت. الإحساس الوحيد الّذي كان يتملّكني، في الحقيقة، هو أن يأخذني بين يديه ويُقبّلني. لو كان قد تجرّأ وفعل، لكنت استسلَمْتُ له بلهفة الجائع المدعوّ إلى وليمةٍ؛ فمِشْوارنا موشكٌ على الانتهاء، وما تبقّى لي من خطواتٍ معه سأسيرها بتعاسةٍ – بدون شكٍّ – وسأُشير له في الأخير إلى باب منزلي وأُخبره بأنّني وصلتُ. سوف أشكره، وسوف أنصرفُ حاملةً معي بقايا حُلْمٍ كنّا نُمنّي نفسنا بتحقيقه. نظراتُه سوف تلاحقني بعدئذٍ بشغفٍ وحسرةٍ إلى أن أتوارى عنه (أو هكذا أتصوّرها). كنتُ، منذ البداية، ألمح فيها بريقاً قويّاً يخترق أعماقي ويأسرني. أغلب النّاس لهم نظراتٌ سطحيةٌ ولكنّ هذه كانت تهزّ كياني؛ شعرْتُ بها تتفاعل في وجداني حتّى بعد إذ فارقني هذا الفتي الّذي لا أعرف عنه شيئاً.
في المنزل، لجأتُ إلى غرفة النّوم بخاطرٍ مُنكسرٍ، وكِدْتُ أفقد صوابي لمّا أشعلتُ الضّوء ورأيتُه مُمدّداً في سريري – «كيف وصلْتَ إلى هنا؟ هل أنت من الجنّ؟»، قلت له بقلبٍ يدقّ مثل طبلٍ يُقرَع، فأجاب: «أنا سأكون كيفما شئتِ أن أكون! ولا تنسي أنّنّا في المنام» – «ها أنا ذي ماثلةٌ أمامك وأنا في كامل صحوي، يا رجل، فكيف تدّعي أنّنا نائمان؟»، قلتُ له بارتباك الخائف، لكنّه اكتفى برسم ابتسامة سعيدة على شفتيه وأشار عليّ بالاقتراب.
في الصّباح خرجتُ من النّوم بفرحةٍ لا توصف، وخامرني إحساسٌ قويٌّ بأنّه ما زال مُمدّداً بجانبي، إلاّ أنّني عندما فتحْتُ عينيّ وجدتُ نفسي وحيدةً في السّرير.
كانت قد أخذتني نومةٌ عميقةٌ وأنا جالسةٌ في الباص.
التعليقات