محمد حسن علوان : ذكرتُ في الجزء الأول من المقالة أن حملة مقاطعة السيارات جاءت (شرعية جداً، ومن منطلقات اقتصادية بحتة، وبريئة من أي ملامح نضالية فارغة)، إلا أن هذا لم يمنع أن تقع الحملة في أخطاء جوهرية أضعفت من سمعتها ومنهجيتها. ومن أهم هذه الأخطاء ترويجها عبر الإيميل لخطابات (تبدو مزورة) ونسبها لوكلاء السيارات. من أهمها الخطاب الذي زعم بعض المنتسبين للحملة أنه صدر من السيد محمد عبداللطيف جميل إلى وزير التجارة يسأله فيه العون في قمع هذه الحملة. والخطاب، بغض النظر عن شكله، لا يبدو منطقياً في محتواه، ولا يمكن أن ترتكب شركة كبرى هذه المخاطرة التسويقية الهائلة بإصدار خطاب كهذا، لاسيما وهو مليء بالأخطاء والمبالغات، (حتى اسم الوزير كان مكتوباً بشكل خاطئ!). وعلى أي حال، فقد نفت شركة عبداللطيف جميل رسمياً صدور هذا الخطاب من جهتها. وبغض النظر عن مدى مسؤولية الحملة عن نشره، فقد كان يجدر بالقائمين عليها نفي علاقتها به حتى تحتفظ الحملة بمصداقية عالية، واحترافية مجدية.
هذا الخطأ أعلاه لم يكن ليحدث لولا أن الحملة وقعت في خطأ ثان، وهو عدم تنصيب مرجعيات وأسماء محددة يمكن مخاطبة الحملة من خلالها، مما أدى إلى تحول الحملة إلى كائن هلامي غير محدد، يتيح لأي منتسب للحملة أن يتحدث بلسانها ويمارس كل ما يراه في صالح الحملة وهو في غير صالحها، مثل تزوير الخطابات، ونشر الإيميلات التي لا تتفق مع مبادئ الحملة نفسها التي تنهى عن (الغش) وتأتي بمثله. ولو أن الحملة اهتمت بالجانب التنظيمي، ومركزية تحديد سياسات الحملة وعلاقاتها العامة، وأنشأت موقعاً رسمياً يعمل كمرجع للمنتسب والمسؤول والخصم أيضاً، لتجنبوا بعض هذا العبث الذي يسيء للحملة في صميم مساعيها.
ومما يبدو أيضاً أن الحملة لم تسع إلى مخاطبة خصومها، وكلاء السيارات، بشكل مباشر قبل الشروع في الحملة، مما أدى إلى إحجام الوكلاء عن مخاطبة الحملة في المقابل حفاظاً على المقامات. وأخيراً، استخدمت الحملة في مادتها افتراضات اقتصادية ليست صحيحة بالضرورة، قد يستخدمها الوكلاء لنقض منهجية الحملة، مثل افتراضهم أن انخفاض أسعار السيارات في أمريكا يستوجب بالضرورة انخفاض سعرها في السعودية بدون النظر في أن لكل وكيل وضعاً مالياً مختلفاً يتطلب إجراءات تسعيرية مختلفة. فوكلاء أمريكا في الغالب هم وكلاء صغار، ويشترون عدداً قليلاً من السيارات بقروض بنكية مرتفعة الفائدة، ويكلفهم تخزين السيارات مبالغ كبيرة، وبالتالي يجدون أنفسهم أكثر اضطراراً لتصريف بضاعتهم (ولو بخسارة) من أجل توفير سيولة تكفي للوفاء بالتزاماتهم البنكية، بينما الوكلاء السعوديون (وبسبب الحصرية) أصبحوا شركات عملاقة يمكنها أن تتحمل تكاليف التخزين وشح السيولة لسنوات دون الحاجة إلى البيع بسعر منخفض. ناهيك عن اختلاف الشهية الشرائية للمستهلك الأمريكي الذي اعتصرته الأزمة المالية عن المستهلك السعودي الذي لا يكاد يشعر بها حتى الآن على الأقل.
إلا أن كل هذه الأخطاء الجوهرية التي وقعت فيها الحملة تعتبر مبررة بنظري قياساً على حداثة تجربة حملات المقاطعة في السعودية، وغياب التمويل الذي يزيد من فعالية الحملة، وكذلك لوجود اللامركزية المفرطة التي أخلت بتكاملية رسالة الحملة (integrity). بينما وقع وكلاء السيارات، الذين لا تنقصهم الخبرة ولا التمويل ولا النظام الإداري الفعال، في أخطاء جوهرية أكبر منها من خلال بيانهم الرسمي الذي نشر في عدة صحف يومية، فالبيان الذي كان يفترض به أن يكون على مستوى الحدث المهم، وحجم الوكلاء الكبير، ويخاطب شريحة كبيرة من المتلقين، بدا جامداً وتقليدياً وفضفاضاً ومشوباً بالتعالي على القضية برمتها.
وفي رأيي أن مجرد ابتداء البيان بديباجة متكررة تمجّد متانة الاقتصاد الوطني كان خارج السياق، وبالنسبة للمتلقي الذي كان يفتش عن رسالة مباشرة تفسر له سبب ارتفاع أسعار السيارات، كانت ديباجة كهذه يمكن أن تفسر على أنها ذر للرماد، لاسيما أن ما جاء بعدها لم يكن كافياً، وبدا وكأنه بيان مسبوك على عجل للرد على حملة مقاطعة مستفزة ولكنها ما تزال، في رأي الوكلاء، أصغر من أن تضطرهم إلى سبك بيان أفضل.
محاولات البيان لدحض فرضية ارتباط الأزمة العالمية بأسعار السيارات كانت واهية جداً. وبغض النظر ما إذا كان هناك علاقة بين الأزمة والأسعار أو لا، فإن البيان لم يأتِ بما يكفي لتبيان ذلك، بل اكتفى بنفي الفرضية فقط كما جاء بالنص (تود اللجنة أن تؤكد أن هذه الأخبار غير صحيحة)، والمقصود هو أخبار تأثر أسعار السيارات بالأزمة المالية، ثم لم يرد في البيان أي إثبات لهذا النفي، وكأن مجرد النفي من وكلاء السيارات يعدّ إثباتاً كافياً لدحض الفرضية رغم شهادتهم المجروحة بصفتهم خصماً وطرفاً في القضية، وليسوا مرجعيتها التي تفصل بين الخصماء.
وفي نقطة أخرى، انصرف البيان إلى وصف الاقتصاد على أنه اقتصاد حر وتنافسي. (لاحظوا أن هذا التصريح يصدر من وكلاء أغلبهم حصريون!)، والحقيقة أن الاقتصاد يبدو حراً وتنافسياً في هذا العصر من الناحية الإجرائية، إلا أنه ليس كذلك ما دامت جهود وزارة التجارة لحماية المنافسة، ومنع التكتلات، ومحاربة الاحتكار محدودة وغير ملموسة. في البيان أيضاً تباهى الوكلاء بارتفاع الطلب على السيارات في عام 2008 بنسبة 20%، علماً بأن الأزمة المالية لم تضرب بأطنابها إلا في الربع الأخير من العام، وبذلك لا يمكن الاستدلال على عدم تأثير الأزمة المالية باستخدام إحصاءات 2008. ولكن، حتى ولو سجلت الإحصاءات زيادة في الطلب في قلب الأزمة المالية، فإن ارتفاع الطلب يعني زيادة في حجم المبيعات Volume، وهو ما يعني أن الوكلاء قادرون على تخفيض هامش ربحهم من السيارة الواحدة دون أن تتغير أرباحهم الإجمالية.
آخر نقاط البيان جاء فيه (يعمد البعض - غير معروف الهوية - إلى تحريض الناس بدون دليل لتأجيل قرار الشراء لبعض السلع). ولاشك أن الوكلاء تعمدوا عدم ذكر اسم الحملة في بيانهم حتى لا يمنحوها كينونة تستحق الالتفات. وأعتقد، برأيي، أن هذا خطأ جوهري،لأن غالبية المتلقين لهذا البيان هم من المتعاطفين مع الحملة وفق نظرية التعاطف مع الأضعف. وإمعان البيان في تهميش خصمهم (الحملة) إنما يؤدي إلى زيادة شعبيتها، وليس إلى إسقاطها في مغبة النسيان كما يحاول البيان أن يفعل. والتعالي على حملات المقاطعة يدل أيضاً على حداثة تجربة الحملات في السعودية. وكنا نتمنى بالفعل لو أن البيان احترم الحملة والمتلقين حتى يجبرهم في المقابل على احترام دورهم الاقتصادي الوطني كشركات كبرى في الوطن.
التعليقات