محمد كركوتي: إنهم يحزمون حقائبهم.. بل أن بعضهم اختفى بدون أمتعته. إنهم يحتالون للهروب من موقع quot;الجريمةquot;.. يحاولون المرور عبر بوابات المطارات والمناطق الحدودية، بأقنعة المسافرين والسياح العاديين. فعدد ضحاياهم في تزايد، بينما الدائرة تضيق عليهم. إنهم مثل الديدان التي تظهر على الجثث بعد تحللها. فهم مختفون طالما أن الروح لا تزال في جسد الضحية. إنهم مواليد الطفرة.. ولنقل: الفقاعة. هذه أو تلك، وإن خلقتا مجالات للتنمية، فهما توفران أيضا حاضنات للمحتالين. هؤلاء المحتالون ليسوا حكرا على منطقة بعينها في هذا العالم. فللمحتال العربي ndash;مثلا- quot;زميلquot; بريطاني وآخر أميركي وفرنسي ونيجيري وإيطالي وسنغالي وتايلندي وبرازيلي.. إلى آخر جنسيات هذه الأرض. ولعل هذه quot;الزمالةquot; هي الوحيدة التي لا يعرف أطرافها بعضهم بعضا، بصورة صادقة.
في خضم الطفرة يظهر هؤلاء.. وفي سنوات التصحيح يهربون، لا لأنهم سينكشفون، بل لأنهم سيسيرون بتثاقل إلى السجون. ولذلك ظهرت الأسماء تباعا في المنطقة العربية وخارجها. محتال سرق على مدى أشهر ndash; وليس سنوات- عشرات الملايين من الدولارات الأميركية، وآخر بنى أبراجا سكنية من الوهم، وثالث جمع ما تيسر له من أموال الأفراد الجشعين. فلا الأموال عادت، ولا المباني عمرت. مرة أخرى تثبت نظرية الأكاديمي الاقتصادي جون ماينارد كينيز صحتها في حقب quot;الطفراتquot;. فهو يقول: quot;إن الطلب يحدد عرضه الخاص، وفي ظل أي طفرة يتم صنع الثروات ويصبح الأفراد جشعين، ويتقدم المحتالون من أجل استغلال ذلك الجشعquot;. في المنطقة العربية لا نقص في عدد المحتالين والجشعين. وعمليا فإن الشرط الوحيد المطلوب لإغراء وإغواء الجشع.. هو وجود قصة جيدة، ولا بأس أن تكون جميلة. فمنذ أن أطبق فكا الأزمة الاقتصادية العالمية على العالم أجمع، ظهرت صور المحتالين ndash; أفرادا ومؤسسات- وظهرت معها الحقائق الأكثر إيلاما، لاسيما لأولئك الذين فقدوا مدخراتهم.
في المنطقة العربية.. حاولت الجهات الحكومية طوال السنوات القليلة الماضية، نشر التوعية المطلوبة في أوساط المستثمرين ndash; لاسيما البسطاء منهم - وحذرت من التعامل مع الأشخاص المشبوهين أو الجهات غير المرخص لها. فعلى سبيل المثال في شهر واحد من العام 2007، نشرت وسائل الإعلام السعودية أسماء أشخاص استغلوا الطفرة الاقتصادية، واحتالوا على ما أمكن لهم من الناس. وكذلك الأمر في بقية دول الخليج، على اعتبار أن هذه الدول عجت بالسيولة وحركة الأعمال في السنوات الماضية. وهذا يدل ببساطة على أن عدد المحتالين الحقيقي كبير.. وكبير جدا. وفي العالم الماضي أظهرت دراسة استبيانية لـ quot; المجموعة العالمية للشركات المتخصصة في تقديم خدمات التدقيق والخدمات الضريبية والاستشاريةquot; ، حول عمليات الاحتيال في دول مجلس التعاون الخليجي أن قيمة الخسائر الناجمة عن الجرائم المالية في المنطقة قد تصل إلى مليارات الدولارات الأمريكية سنوياً. ومضت الدراسة أبعد من ذلك بإظهارها خسائر فردية للمشتركين في الاستبيان، بلغت قيمتها ما يقارب الـ 100 مليون دولار. إذا القضية كبيرة، وتحتاج إلى الكثير من العمل، ليس فقط للتقليل من عمليات الاحتيال، بل للقبض على أما أمكن من المحتالين، قبل أن يهربوا إلى ملاذاهم الآمنة. وهناك الكثير منها حول العالم.
لقد استطاعت نسبة من هؤلاء المحتالين الفرار من الضحايا والعدالة، واللجوء بحقائبهم المليئة بأموال غيرهم، إلى المناطق التي توفر لهم الأمان، مع غياب وخز الضمير. لكن أيضا تظهر هنا مشكلة كبيرة جدا. فغالبية المحتالين يمتلكون القدرة والوسائل quot;المتميزةquot; على تأمين الحماية للأموال المسروقة، لا لإعادة ما تبقى منها إلى أصحابها، بل للاستمتاع بها ما تبقى لهم من حياتهم. بمعنى أنهم ndash; وإن ضبطوا- فليس بالضرورة أن تضع السلطات المختصة يديها على كل هذه الأموال. فعلى سبيل المثال لا يملك أكبر محتال في العالم - هذه الأيام - رئيس بورصة ناسداك الأميركية السابق، والمستثمر الشهير برنارد مادوف، من الخمسين مليار دولار أميركي التي ضيعها وسرقها، أكثر من 300 مليون دولار. وفي التاريخ يبرز المحتال الأميركي تشارلز بونزي، الذي وعد في العام 1920 ndash; قبل الكساد الكبير عام 1929 - بدفع فائدة تبلغ 50 في المائة على الودائع لفترة 45 يوماً. وفي الواقع كان يقوم بما قام به مادوف -وغيره من quot;المادوفينquot; - باستخدام نقود المستثمرين الجدد ليدفع إلى المستثمرين السابقين. فالسلطات التي قبضت على بونزي الذي سرق ما يقرب من 8 ملايين دولار ndash; بأسعار العشرينات من القرن الماضي ndash; لم تجد بحوزته سوى 61 دولارا فقط لا غير.
إذا.. المحتالون لا يظهرون عادة إلى مع قصة جميلة.. وطفرة اقتصادية غير محددة المعالم، ولا ضوابط لها. ومع أنهم يخلفون ورائهم كل الأدلة الدامغة التي تدينهم، وأبشع صورة لـ quot;القصة الجمليةquot;، إلا أنهم لا يتركون quot;سلاحquot; الجريمة ndash; وهو في هذه الحالة أموال الضحايا - ورائهم. ومع ذلك فإن ظهورهم أمام العدالة، لاشك يقلل إلى حد ما مع هول الصدمة التي يعيشها الضحايا. فالقضية لا ترتبط فقط، في ضبط المجرم، بل أيضا في سن القوانين الصارمة التي تقف حائلا بين المحتالين وأموال الجشعين، كما أنها ترتبط بأهمية نشر ثقافة متوازنة، تطرح قضية رئيسية هي أن الطفرة ndash; أية طفرة- وإن جلبت المال بسرعة وسخاء، إلا أنها هي أيضا أكبر مختبر تتحول فيه الأموال بسرعة قياسية إلى مجرد فقاعات.
[email protected]
التعليقات