ترجمها عن السويدية وقدم لها: باسم المرعبي

ولد توماس ترانسترومر، في ستوكهولم في العام 1931 لأب صحفي وأم معلمة. أصدر اثنتي عشرة مجموعة شعرية منذ العام 1954، مستهلاً نشاطه الشعري بـ "17 قصيدة" وآخر مجموعة له صدرت قبل نحو شهرين، هي "اللغز الكبير" التي ترجمنا منها مختارات نُشرت في "إيلاف". تتقصى قصائد ترانسترومر، في واحد من اهتماماتها، أطوار مصائر البشر العابرين على الأرض، مفسحةً حيزاً واضحاً للظلال، منفتحة ًعلى دواخل الإنسان، " فقصائده يمكن أيضاً أن تشهد على ماهو داخلي، روحي". وليس مستغرباً أن تتكرر هذه الظلال أو الظلمات، لكن المخترقة ببصيرة الشعر، كلازمة في الكثير من هذه القصائد، كما ـ لغزـ(الرسائل اللامجابة) التي يتجاوب صداها من قصيدة الى اخرى. إذ ربما هي حيرة الكلمات وصمت الأجوبة أمام أسئلة الوجود الكبرى: الرسائلُ اللا مُجابة تتراكم في الأعالي، كسُحب تنذر بعاصفة تجعل من أشعة الشمس أكثر كدراً. ذات مرة سأجيب." (من قصيدة "أجوبة رسائل" ـ الساحة البرية ـ 1983) ومن ديوانه الأحدث، "اللغز الكبير"، يصلنا:
لغز الرسائل غير المُجابة
يغرق عبر البريق البارد.
قصيدة "واجهات"
وبقدر ما تنشغل قصائده بالقضايا الكبيرة فإنها في الوقت ذاته لا تغفل التفاصيل الصغيرة. أو بتعبير آخر " تربط في نفس الوقت الآني بالأبدي ". وقد عبّر أحد النقاد عن أهمية ترانسترومر بقوله: " كل الشعر الذي كُتب بعد العام 1954، له بطريقة ما صلة بما يفعله ترانسترومر". كما أشار الى هذه الأهمية الشاعر والناقد السويدي "يوران برينس ـ فولسون" الذي يتمتع بقيمة كبيرة ويأتي في طليعة نقاد الأدب، كما يصفه "معجم المؤلفين السويديين". عبر قوله: " واحد من شعراء زمننا الرئيسيين والأكثر أصالة ".
يستخدم ترانسترومر كلاً من الأشكال الشعرية الأقدم والأكثر تحرراً، والقصائد الخمس التي اُختيرت هنا من بين عدد غير قليل من قصائد النثر التي كتبها على امتداد سنوات ومجموعات تبيّن مدى استفادته من الإحتمالات التي يمكن أن تتحقق عبرها القصيدة من دون الإمتثال لاحتمال أو شكل واحد يغدو الشاعر وربما الشعر رهينته. وأخيراً، وبمناسبة هذه الترجمة، يُعدّ ترانسترومر أكثر الشعراء السويديين ترجمةً، فهو متاح للقراءة بأكثر من أربعين لغة.
وقد نال جوائزَ عديدة عن شعره داخل السويد وخارجها.
أجوبةُ رسائل

في الدُرج الأسفل للخِزانة أجدُ رسالة قد وصلت أول مرّة قبل ستة وعشرين عاماً. رسالة ذُعر، لا تزال تتنفس عندما وصلتْ للمرة الثانية.
منزلٌ بخمس نوافذ: عبرَ أربع يضيئ النهار رائقاً وهادئا ً. الخامسة ُ تواجه سماءً سوداء، برقاً وعاصفة. أجلسُ أنا عند النافذة الخامسة. الرسالة.
أحياناً تتسع الهوة بين الثلاثاء والأربعاء، غير انّ ستة وعشرين عاما يمكن أن تمرّ في لحظة. الزمن ليس خطاً مستقيماً بل الأصَح متاهة، وإذا التصقتَ بالجدار من موضع صحيح تستطيع أن تسمع الخطوات العجلى والأصوات، تستطيع أن تسمع نفسك تمرّ هناك في الجهة الأخرى.

هل سبق وان اُجيب على هذه الرسالة؟ لا أتذكّر، كان هذا من زمن ٍ طويل. عتباتُ البحر غير المحدودة تابعتْ تجوالها. القلبُ تابع قفزاته من ثانية الى ثانية، مثل ضفدع في عشب ليل آب النديّ. الرسائلُ اللا مُجابة تتراكم في الأعالي، كسُحُب، تُنذر بعاصفة تجعل من أشعة الشمس أكثر كدراً. ذات مرة سأجيب. ذات مرة حين أكون ميتا ويُتاح لي أخيراً، أن أركز. أو في الأقل بعيداً جداً من هنا أستطيع أن أجد نفسي. حين أسير في المدينة الكبيرة، التي أصلها للتو، في الشارع 125، في الريح العاتية، في شارع النفايات الراقصة. أنا الذي اُحبّ أن أضِلّ وأتلاشى في الحشد، حرف T في مادة النص اللانهائية.


الإسم


أنعسُ خلال رحلة السيارة وأنا أقودُ تحت الأشجار عند جانب من الطريق. أكوّر نفسي في المقعد الخلفي وأنام. كم من الوقت؟ ساعات. الظلامُ أدرك.َ
فجأةً أستيقظ ولا أتعرّف علي. صاحٍ تماماً، لكن لا جدوى. أين أنا؟ من أنا؟ أنا شيءٌ أفاقَ في مقعد خلفي، يدور حول نفسه مذعوراً مثل قط في كيس. مَن؟
أخيراً تعود حياتي. اسمي يأتي مثل ملاك. خارج الأسوار تُطلق اشارة البوق (كما في Leonorauvertyren)1 وخطى المنقذين تهبط سريعاً سريعاً السلمَ الطويل أكثر مما يجب. هذا انا! هذا أنا!
لكن من المستحيل أن أنسى صراع الخمس عشرة ثانية في جحيم النسيان، بضعة أمتار من الطريق الرئيسي حيث السير ينساب ماراً بأضواء ساطعة.



العندليب في بادَ لوندا(2)
في منتصف الليل الأخضر هذا، عند الحد الشمالي للعندليب. أوراق ثقيلة تتدلّى بانتشاء، السيارات الصمّاء تندفع باتجاه خطّ النيون. صوت العندليب لا يخطو نحو هذا الجانب، هو يُشبه بنفاذه صياحَ ديك، غير انه جميل وبدون غرور. كنتُ في السجن وزارني. كنتُ مريضاً وزارني. لم ألاحظ هذا وقتها، لكن الآن. الوقتُ يتدفق من الشمس والقمر وإلى كلّ تكْتكَات الساعات الممتنة.لكن، بالضبط، هنا لا يوجد وقت. فقط صوت العندليب، النغمات الحقة الرانّة التي تشحذ مدية سماء الليل المضيئة.


Madrigal
(3)
ورثتُ غابة ًمظلمة، الى هناك نادراً ما أذهب. لكن يأتي يوم عندما الأموات والأحياء يبدلون أماكنهم. حينئذ تبدأ الغابة بالحركة. نحن لسنا بلا أمل. الجرائم المعقدة تبقى عصيةً، بالرغم من مساعي الكثير من رجال الشرطة.
بنفس الطريقة يوجد في مكان ما من حياتنا حب كبير عصيّ. ورثتُ غابة مظلمة، لكن، اليوم أذهب الى غابة اخرى، مضيئة. كلّ شيء حي يغني، يتلوى، يهتز ويزحف! هذا هو الربيع والهواء قوي جداً. لدي شهادة من جامعة النسيان وشبيه ٌأنا بأعزل، كقميص على حبل الغسيل.


خزانة الكُتب

اُحضرتْ من شقة ميت. ظلّت فارغة بضعة أيام، فارغة، قبل أن ملأتها بالكتب، كلّ المجلدات، ثقيلة. وأنا أفعلُ ذلك تركتها تلج العالم السفلي. شيءٌ قدمَ من الأسفل، خَطى ببطء وصلابة مثل عمود زئبق هائل. ما كانَ لأحد أن يلتفت بعيداً.
المجلدات الداكنة، وجوه مغلقة. تشبه الجزائريين الذين وقفوا عند نقطة العبور Friedrichstrasse وانتظروا لأجل ان تدقق الشرطة4 جوازاتهم. جواز سفري موجود، منذ زمن طويل، في الداخل، بين الأقفاص الزجاجية. والضباب الذي وجد في برلين ذلك اليوم، يوجد هو أيضاً في خزانة الكتب. يوجد يأس قديم هناك في الداخل، له مذاق Passchendaele 5، ومعاهدة فرساي 6، له مذاقٌ أقدم من ذلك. المجلدات الثقيلة السوداء ـ أعود اليها ـ هي في الواقع، نوع من جواز السفر وهي سميكة جداً بسبب أختام كثيرة جداً تجمعت فيها خلال مئات السنين. المرء لا يستطيع، على ما يبدو، أن يسافر بحقيبة ثقيلة كفاية، الآن عندما يغادر، عندما هو أخيراً....
كل المؤرخين القدامى هناك، لهم أن ينهضوا هناك ويدققوا في عوائلنا. لا شيء يُسمع، لكن الشفاه كانت تتحرك طوال الوقت خلف الزجاج "... Passchendaele" قد يفكر المرء في دائرة خدمة قديمة (الآن يتابع قصة أشباح نظيفة)، مبنىً حيث صورٌ منذ عهد طويل لرجال أموات معلّقين خلف الزجاج وذات صباح كانت ثمة غشاوة في الداخل تشفّ من الزجاج. بدأوا يتنفسون خلال الليل. خزانة الكتب لا تزال أكثر متانة. نظرات عَرضية فوق منطقة الحدود! غشاء لامع، الغشاء اللامع في نهر معتم كغرفة ينبغي أن تنعكس فيه. ولا يمكن لأحد أن يلتفت بعيداً.


الهوامش:

1ـ اسم افتتاحية اوبرا، لبيتهوفن
2 ـ منطقة في السويد بالقرب من ستوكهولم.
3 ـ شكل من أشكال الموسيقى والغناء، بدأ في ايطاليا نحو 1300 وشهد ازدهاراً في الفترة: 1530ـ1630. غير ان قاموس المورد يفسرها بـ: قصيدة غزلية قصيرة.
4 ـ بالألمانية، بالأصل.
5 ـ منطقة في الفلاندرا (الموزعة بين فرنسا وبلجيكا)، شهدت وقائعَ حربية ابان الحرب العالمية الأولى.
6 ـ معاهدة فرساي، عقدت بعد الحرب العالمية الأولى بين فرنسا، بريطانيا، الولايات المتحدة، وألمانيا. وقعت المعاهدة في 28 حزيران 1919 في قصر فرساي قرب باريس. وقبل ذلك شهد المكان ذاته توقيع معاهدة نهاية حرب استقلال الولايات المتحدة في العام 1887.