د. أيمن الهاشمي

التبرع لأعمال البر أولى من تكرار الحج والعمرة كل عام ومن يريد تكرارها ليكن كل خمس سنوات
لا أدعي أنني عالم في الأمور الشرعية, وبالتالي فإنني لست في موضع تقييم الفتاوى الدينية تأييداً أو اعتراضاً, ولكنني اليوم وجدت نفسي منحازاً بشدة وبقوة إلى فتوى سماحة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي أمد الله في عمره ونفع الأمة بعلمه وجرأته في الحق, وملخص فتواه بأن ترك تكرار الحج والعمرة أولى, ناصحاً الإخوة المُتدينين الحريصين على تكرار شعيرتي الحج والعمرة بأن يكتفوا بما سبق لهم من ذلك, وإن كان لابد من التكرار, فليكن كل خمس سنوات. ورأى فضيلته لو أن مئات الالاف الذين يتطوعون سنويا للحج والعمرة رصدوا ما يُنفقون في حجهم وعُمرتهم لإقامة مشروعات إسلامية خيرية, أو لإعانة الموجود منها, ونُظم ذلك تنظيمًا حسنًا, لعاد ذلك على الأمة وعلى المسلمين عامة بالخير وصلاح الحال والمآل. وأضاف فضيلته ان كل من يتطوع بالحج أو العمرة ويبخل بإخراج الزكاة المفروضة عليه كلها أو بعضها, فحجه وعمرته مردودان عليه.
فالملاحظ خلال السنين الأخيرة, بعد أن تيسرت أمور الحج والعمرة, وبعد أن زادت إمكانات المسلمين المادية, صار الكثير منهم يحرصون على أن يحجوا كل عام, وربما حرصوا - أيضاً - أن يعتمروا في كل رمضان, أو أكثر من مرة في العام, مع ما في الحج من زحام شديد, يسقط معه بعض الناس صرعى, من كثافة التزاحم وخصوصا عند الطواف والسعي ورمي الجمار, أفليس الأولى بهؤلاء أن يبذلوا ما ينفقونه بدلاً من حج النافلة, وعمرة التطوع, في مساعدة الفقراء والمساكين, أو في إعانة المشروعات الخيرية, وإغاثة المنكوبين بالكوارث, من خلال المؤسسات الخيرية, التي كثيرًا ما يتوقف نشاطها, لعجز مواردها, وضيق ذات يدها, وأني لأرى أن هذه الفتوى رغم أنها تأخرت بعض الشيء, لكنها جاءت الآن أيضا في وقتها, بسبب الظرف الصحي الطارئ الذي يمر به العالم, ومنطقتنا العربية خصوصاً من تفشي الأمراض الوبائية المعدية التي طلعت علينا حديثا مثل quot;إنفلونزا الخنازيرquot; وquot;إنفلونزا الطيورquot;, وغيرها من عناوين quot;الفايروساتquot; الفتاكة التي حشدت منظمة الصحة العالمية والمؤسسات الصحية في العالم إمكانات هائلة لايقاف وتطويق خطرها. وبينما يقترب موسم الحج من فعالياته, وسط تردد كثير من الدول العربية والاسلامية عن ارسال مواطنيها لموسم الحج هذا العام, بل أن هناك بلداناً أعلنت صراحة quot;منع الحجquot; على مواطنيها هذا العام, خشية الاصابة بالامراض الانتقالية الفتاكة التي ازداد خطرها هذا العام, وبالتالي فإن تأجيل من سبق له أداء الحج خلال السنوات الخمس الأخيرة, أو أبعد من ذلك, أداء تكرار الفريضة الى موسم آخر يُسهم في تقليل فرص المخاطر الصحية, كما أنه يفسح في المجال لمن لم يحج سابقا لأن يؤدي الفريضة هذا العام, وبالتالي فالفتوى لا تطلب حجب الحج او منعه, بل تناشد المسلمين الذين يحرصون على تكرار الحج والعمرة الى تأجيل ذلك الى أعوام مقبلة, وأن يكتفوا بما سبق لهم من ذلك.
ومناشدة الشيخ القرضاوي لجعل الحج مرة كل خمسة أعوام في الأقل, مناشدة معقولة وواقعية وفيها مصلحة للأمة. فلو أن مئات الالاف الذين يتطوعون سنويا بالحج والعمرة رصدوا ما ينفقون في حجهم وعمرتهم للتبرع من أجل إقامة مشروعات إسلامية, أو لإعانة الموجود منها, ونظم ذلك تنظيمًا حسنًا, لعاد ذلك على المسلمين عامة بالخير. ومعلوم أن المؤسسات الخيرية الاسلامية تعاني في الوقت الحاضر من ضيق ذات اليد, وقلة الموارد, واذا ما نجحنا في حملة لتأجيل الحج المتكرر والعمرة المتكررة لوفرنا مبالغ بالمليارات يمكن ان تصرف في اوجه العون ومساعدة الفقراء والمحتاجين واقامة المشروعات التي تؤمن فرص عمل للعاطلين من العمل وغيرها من المشروعات المباركة. ثم ان كثيراً من هؤلاء المتدينين يحرصون على تكرار الحج والعمرة وصرف عشرات الالاف من الدولارات أو غيرها من العملات, بينما تراهم يمتنعون عن أداء فريضة الزكاة, التي هي على المسلم المتمكن فرض واجب في حين ان تكرار الحج هو نافلة. وإن الله تعالى لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة, وبناء عليه, يرى الشيخ القرضاوي أن كل من يتطوع بالحج أو العمرة وهو مع هذا يبخل عن إخراج الزكاة المفروضة عليه كلها أو بعضها, فحجه وعمرته مردودان عليه. والأولى عليه بدلاً من إنفاق المال في الحج والعمرة أن يُطهره أولاً بالزكاة. ومثل ذلك من كان مشغول الذمة بديون العباد من التجار وغيرهم, ممن باع له سلعة بثمن مؤجل فلم يدفعه في أوانه, أو أقرضه قرضًا حسنًا, فلم يوفه دينه. فهذا يجب ان يسعى إلى قضاء ديونه بدلا من التنفل بالحج أو العمرة. وعزز الشيخ القرضاوي فتواه بالقول: quot;إن الله لا يقبل النافلة إذا كانت تؤدي إلى فعل مُحرَّم, لأن السلامة من إثم الحرام مُقدمةٌ على اكتساب مثوبة النافلة. فإذا كان يترتب على كثرة الحجاج المتطوعين إيذاء لكثير من المسلمين, من شدة الزحام مما يسبب غلبة المشقة, وانتشار الأمراض, وسقوط بعض الناس هلكى, حتى تدوسهم أقدام الحجيج وهم لا يشعرون, كان الواجب هو تقليل الزحام ما وجد إلى ذلك سبيل. وأولى الخطوات في ذلك أن يمتنع الذين حجوا مرات عدة سابقاً عن الحج ليفسحوا في المجال لغيرهم, ممن لم يحج حجة الفريضةquot;. كما أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح, وخصوصًا إذا كانت المفاسد عامة, والمصالح خاصة. فإذا كانت مصلحة بعض الأفراد أن يتنفل بالحج مرات ومرات, وكان من وراء ذلك مفسدة عامة لمئات الالاف من الحجيج ممن يلحقهم من الأذى والضرر في أنفسهم وأبدانهم, وهؤلاء المتنفلون أيضًا يتأذون من ذلك فالواجب منع هذه المفسدة بمنع ما يؤدي إليها وهو كثرة الزحام.
ان الاولى بعشاق تكرار الحج والعمرات ان يُنفقوا جزءا من المال الذي قد ينفقونه في حجهم المكرر على الجمعيات الخيرية, خصوصاً وان أبواب التطوع بالخيرات واسعة وكثيرة, ولم يضيق الله على عباده فيها, والمؤمن البصير هو الذي يتخير منها ما يراه أليق بحاله, وأوفق بزمانه وبيئته. فإذا كان في التطوع بالحج أذى أو ضرر يلحق بعض المسلمين فقد فسح الله للمسلم مجالات أخرى, يتقرب بها إلى ربه من دون أن تؤذي أحدًا. فهناك الصدقة على ذوي الحاجة والمسكنة, ولا سيما على الأقارب وذوي الأرحام فقد جاء في الحديث: quot; الصدقة على المسكين صدقة, وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة quot; وقد تكون نفقتهم عليه واجبة, إذا كان من أهل اليسار وهم من أهل الإعسار.. وكذلك على الفقراء من الجيران, لما لهم من حق الجوار بعد حق الإسلام, وقد ترتفع المساعدة المطلوبة لهم إلى درجة الوجوب, الذي يأثم من يفرط فيه. ولهذا جاء في الحديث: quot; ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع quot;.
وهناك الإنفاق على الجمعيات الدينية, والمراكز الإسلامية, والمدارس القرآنية, والمؤسسات الاجتماعية والثقافية التي تتعثر وتتخبط, لعدم وجود من يمولها ويعينها. على حين تجد المؤسسات التبشيرية مئات الملايين من الدولارات أو غيرها من العملات, ترصد لها, لإنجاحها في سبيل التشويش على الإسلام, وإخفاق كثير من المشروعات الإسلامية ليس لقلة مال المسلمين, فمن الأقطار الإسلامية اليوم ما يعد أغنى بلاد العالم, ولا لقلة أهل الخير والبذل فيهم, فمازال في المسلمين الخيرون الطيبون, ولكن كثيرًا من البذل والإنفاق يوضع في غير موضعه.
ولو أن مئات الالاف الذين يتطوعون سنويا بالحج والعمرة رصدوا ما ينفقون في حجهم وعمرتهم لإقامة مشروعات إسلامية, أو لإعانة الموجود منها, ونظم ذلك تنظيمًا حسنًا, لعاد ذلك على المسلمين عامة بالخير, وأمكن للعاملين المخلصين للدعوة إلى الإسلام أن يجدوا بعض العون للصمود في عملهم.
إننا مع الشيخ القرضاوي في مناشدته الإخوة المتدينين المخلصين الحريصين على تكرار شعيرتي الحج والعمرة أن يكتفوا بما سبق لهم من ذلك, وإن كان لابد من التكرار, فليكن كل خمس سنوات, وبذلك يستفيدوا فائدة كبيرة لهم أجرها ألا وهي توجيه الأموال الموفرة من ذلك إلى اعمال الخير والدعوة إلى الإسلام, ومعاونة المسلمين في كل مكان من عالمنا الإسلامي, أو خارجه حيث الأقليات المسحوقة.
اكاديمي عراقي مستقل
[email protected]