أميرة كشغري

في صباح الأربعاء، كانت السماء تناجينا وكنا نناديها. ومع بروق السماء ورعودها وعلى زخات المطر استيقظت جدة متهللة ومرحبة بسقيا السماء. وكعادة أهل جدة الذين لا يرون المطر إلا مرة كل عام استيقظت مبتهجة لهذا الطقس الذي طال انتظاره. لم يكن لي أن أدرك حجم الكارثة التي تنتظر جدة ذلك اليوم. إلا أن اختلاط أصوات الرعد بأصوات سيارات الإسعاف والشرطة، وأصوات طائرات الدفاع المدني التي حلقت ذهاباً ومجيئاً فوق منزلنا، بدأ يرسل إشارات غير خاطئة بأن الأمور لن تكون عادية. لم يتكشف لي حجم المأساة الحقيقي إلا عندما اتصلت بي إحدى صديقات الطفولة (السيدة ح. ف.) والتي تقطن في مخطط quot;أم الخيرquot; هي وثمانون عائلة أخرى لتوصل لي صورة الكارثة التي حلت بهم وتطلب العون بعد أن غرق الدور الأول لمنزلها وهربت هي وأطفالها للدور الثاني مستغيثة بالنجدة ثم بالدفاع المدني. عندها بدأت الأخبار تتواتر عن عدد الضحايا: عشرة... تسعة وثلاثون... أربعة وأربعون... ثلاثة وسبعون... إلى أن فاق المئة مساء السبت، وبدا جلياً أن العدد النهائي الذي لن يعرف إلا بعد أسبوع على الأقل وقد يتعدى المئات.
أعترف أن هذا أصعب موضوع أطرقه. وأعترف أن حقيقة شعوري حيال بعض الأحداث الكبيرة قد يكون أحياناً هو أن quot;الصمت موقفquot; وقد يكون أبلغ موقف. ولكن إزاء مأساة المواطنين في جدة يوم الأربعاء الماضي لن يكون الصمت خير موقف ولا أبلغ موقف. فالكل يجب أن يعبر عن مشاعره ويرفع صوته مطالباً بوضع حدٍ لأشكال التقصير والإهمال والخلل بكل أنواعه ما ظهر منها وما بطن، ما قل منه وما كثر.
وصعوبة الكتابة في هذا الموضوع إنما هي نابعة من غصة في القلب وألم يعتصر في الصدر، وانحشار بين الألم واليأس: الألم لهول المصاب، فالعروس المنكوبة لم تختر أن تقدم نفسها قرباناً لطقس مائي مخيف واليأس لأن القصور في مفاصل الجهاز الإداري المختص لا يبشر بالقدرة على حلحلته بين يوم و ليلة. وصعوبة الكتابة إنما هي نابعة أيضاً من أنه على مدار الأيام الثلاثة الماضية طرق الموضوع من كل جوانبه تقريباً. وما لم يتطرق له الكتاب تطرق له القراء في تعليقاتهم بجرأة وقوة. وأرى، صدقاً لا مجاملة، أن تعليقات القراء كانت أبلغ من كلمات الكتاب بما لا يقارن. لذا أدعو المسؤولين الذين يتابعون هول الكارثة عن كثب إلى تجاوز ما كتبناه نحن معشر الكتاب والانتقال سريعاً إلى تعليقات القراء على تلك المقالات، ليس بالضرورة لأن التعليقات تحوي الحلول السحرية، أو تتوخى الدقة والمنهجية العلمية، ولكن لأنها تعبر بصدق عن المشاعر.
المشكلة في جوهرها لا تتمثل في عاصفة مطر جاءت شديدة فأحدثت دماراً وأوقعت ضحايا. فمثل هذه الكوارث تحدث باستمرار في كل مناطق العالم، ونحن نقبلها من قبيل الإيمان بالقدر خيره وشره. غير أن المشكلة تكمن في الذين يبحثون عن الثراء السريع على حساب المواطن.
والحلول الحقيقية والجذرية إذن إنما تبدأ من هيكلة تضع المواطن في الصدارة وتنطلق من محاربة شاملة وعلنية لأشكال الخلل وانعدام الكفاءة فتسمي الأمور بمسمياتها ولا تستثني أحدا، فلا أحد يعدل الوطن وأمنه الحقيقي.
نقطة أخرى أرى أنها في غاية الأهمية: ظاهر الأمر، والله أعلم، أن الخلل كبير. إلا أنه معاذ الله أن يتم اتهام أي مواطن أو مسؤول دون وجه حق، ودون تحرٍ وبحثٍ واستقصاء. فهذا من الظلم ومن الإجحاف ومن عدم شكر الناس على عملهم واجتهادهم. فالأصل في الأشياء افتراض الأمانة في كل من أنيطت به مسؤولية أو قلد منصباً. ولكن من حق الوطن والمواطن أن يكشف كل مسؤول عن ماله ومن أين أتى، وعما اعتمد له من ميزانية وأين صرفت. فنعرف من أساء إلى وطنه ومن لم يسئ.
أقف الآن لأدعو بالرحمة على من قضى. وأصمت الآن برهة... في انتظار الأجوبة التي ينتظرها الوطن بأسره.