إبراهيم عمر: عامٌ كامل وبضعة أشهر مرت على الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، لتكون النتيجة عودة مساحات واسعة من الأرض لسكان القطاع الذين عانوا خلال 38 عاما الكثير من الويلات بسبب جثوم 21 مستوطنة على أراضيهم لم تكن تصدّر لهم سوى الموت، كان مليون ونصف مواطن يقطنون في غزة يحلمون بذلك اليوم الذي ستخلى به هذه المستوطنات التي نهبت خيراتهم وقضت على أي أمل بمستقبل أفضل قبل أن ينبت، العشرات من أبنائهم دفعوا حياتهم على جدران تلك المستوطنات المحصنة من أجل هذا اليوم الذي جاء أخيرا.. لكن ليس كما كانوا يحلمون.

طوال هذه الفترة لم يُبنى أو يشيد مبنىً واحداً على هذه الأراضي يستطيع المرء أن يصفه بإنجاز كبير يستحق تلك التضحيات التي قُدمت على مدى سنين طويلة من المعاناة والصمود.. لاشيئ سوى quot;جامعةquot; رأت النور أخيراً بعد طول انتظار، ولم يكن ليتحقق وجودها لولا رغبة جامحة لدى قلة أخذت على عاتقها القيام بهذا المشروع رغم كل ما واجهته من مصاعب وعقبات.

فمنذ اليوم أصبحت البقعة التي كانت تقام عليها quot;مستوطنة نيفيي ديكاليمquot; quot;جامعة الأقصىquot;، أو بالأحرى الفرع الثاني للجامعة التي تتخذ من مدينة غزة مقراً لها، بينما يقع الفرع الجديد في جنوب القطاع وعلى الأراضي المحررة من مدينة خان يونس.عندما انسحب المستوطنين من تلك المستوطنة تركوا خلفهم دماراً وأنقاض يحتاج رفعها فقط إلى أشهر، وبدا واضحاً أنهم لا يريدوا لمن سيعودون إليها التمتع بما فيها من خيرات، لذا هدموا كل شيئ تقريباً، ولم يتركوا سوى أكوام من الأنقاض استعصى رفعها في البداية لكن الوقت كان كفيلاً بإزالتها وترميم ما تُرك حتى أصبحت اليوم جامعة يحلم الآلاف من الطلاب بالدراسة فيها بالنظر لموقعها الاستراتيجي، المطل على البحر الذي لا يبتعد عنها سوى مئات الأمتار.

اليوم الأول من هذا العام الدراسي كان استثنائيا عند حسام الذي بدأ عامه الثالث في جامعة الأقصى، ولكن في مقرها الجديد، يبدو الانبهار واضحاً عليه وهو يخطو خطواته الأولى على أرضها التي طالما كانت مرتعا للمستوطنين ومن حولهم المئات من الجنود المحصنين في دباباتهم وآلياتهم والذين كانوا مستعدين لقتل من يفكر بالاقتراب منهم.

quot;لا أستطيع التعبير عن الفرحة التي اشعر بها، سيتغير مسار حياتي منذ هذا اليوم، طوال السنوات الثلاث الماضية واجهت الكثير من المصاعب من اجل الذهاب إلى الجامعة في غزة، وكانت الحواجز الإسرائيلية تشكل عائقاً مقيتاً بالنسبة لي ولغيري من الطلاب من سكان جنوب القطاع، لكن مع افتتاح هذا الفرع من الجامعة سينتهي كل شيئ، لن احتاج سوى لدقائق لأصل إلى الجامعة بعدما كانت تضيع ساعات وأيام في الطرق وعلى الحواجزquot;.

هكذا يعبر حسام عن فرحته بافتتاح الفرع الجديد من الجامعة على أنقاض المستوطنة، بينما يجلس صديقه عبد الرحمن في حرم الجامعة على عشب أخضر تحيط به أنواع عديدة من الزهور في مشهد تفتقده كل الجامعات الغزية، التي تضيق بمبانيها ومنشئاتها ويقول مازحاً quot;الآن استطيع أن أعدكم بأنني لن أتغيب عن الجامعة يوماً واحداً، سأقضي يومي هنا، على هذا العشب وبين تلك الزهور، وفي هذا الجو الرائعquot; لكن صديقاً ثالثاً يخرجه من أوهامه quot;هيا يا صديقي.. لقد آن موعد المحاضرةquot;!.

ابتسامة وقلق!

لا تفارق الابتسامة وجوه الجميع بهذا الافتتاح لجامعتهم الجديدة، فالشعور بأن حلماً تحقق بعد طول انتظار يبدو جلياً، لكن ما يلبث أن يعودوا إلى حالة القلق والترقب من جديد في ظل الأوضاع التي وصل إليها قطاع غزة بعد هذا العام من quot;التحريرquot;، لكل منهم تفسيره وتبريره للموقف، فطارق مثلاً يرجع هذا الحال المزري الذي تعيشه الأراضي الفلسطينية عموماً وقطاع غزة خصوصاً إلى quot;فشل جميع الإطراف الفلسطينية بالتعامل مع الواقع الذي طرأ عقب الانسحابquot;، ويعتقد جازماً بأن quot;المشكلة تكمن في القيادات الفلسطينية التي لا تستطيع التعامل مع كل مرحلة كما يجبquot;، quot;اعتقدوا أن إسرائيل تركت لهم كعكة كبيرة وتصارعوا من اجل الحصول عليها، لكن النتيجة كانت قاسية، ولم ينل أي منهم شيئاً، وخرجوا جميعاً خاسرينquot;.

كان هذا رأي طارق، بينما كان رأي أحمد يختلف عنه quot;لقد كان من نتائج الانسحاب الإسرائيلي من القطاع إجراء انتخابات نزيهة أفرزت فوزاً كاسحاً لحركة حماس، وهو أمر لم يلقى قبولاً من المجتمع الدولي ومن حركة فتح التي كانت هي المسيطرة على الحكم، فكانت النتيجة هي هذا الوضع المتأزم الذي نعيشه..لم لا يتركوا حركة حماس تبني وتعمر في هذه الأراضي الشاسعة، لماذا لا يمنحوها فرصة بسيطة لنرى إن كانت قادرة على البناء أم لا؟؟quot;.

هذه الأسئلة لم تجد سوى تجهماً من شبان آخرين سمعوا ما يقول، فتكفل أحدهم بالرد quot;الجامعة التي نقف على أرضها الآن تتبع لحركة فتح، وهي من قام بتعميرها لتخدم الجميع وليس أبناء الحركة فقط، لقد قامت بذلك وهي في المعارضة، فما الذي أنجزته حماس وهي في الحكم ؟!quot;.إلى هنا كان يجب إنهاء هذا الجدال، فأي نقاش هذه الأيام في غزة قد يتطور إلى مواجهة لن تحتاج سوى للحظات لتتحول إلى صراع، ولا لغة للصراع سوى لغة السلاح الذي باتت رائحته تزكم الأنوف.

[email protected]