علي فواز: يسألني صديقي السعودي عن سر تعلقنا، نحن اللبنانيين المغتربين، بمتابعة أدق تفاصيل اليوميات اللبنانية متسائلاً عن المغزى من ذلك، ويزيد على ذلك بسؤال: quot;ألا تملّون؟quot;.

ليس هناك ما نخفيه، فكل شيىء يجري أمام ناظريه. موعد النشرة الإخبارية هو موعد مقدس. نتحلق أمام الشاشة (ثلاثة لبنانيين وهو) ونؤجل تعليقاتنا إلى ما بعد انتهاء النشرة، أو نستغل الفترات الإعلانية التي تتخلل الأخبار لنعّلق باقتضاب.
يخاطبني بالقول: quot;الأنكى من ذلك، أنك لا تبدأ يومك قبل أن تطّلع على الجرائد اللبنانية... ألا تكفيك نشرة الأخبار المسائية؟!quot;.
هكذا يضطر إبراهيم إلى أن يقطع حديثه عند الواحدة إلاّ ثلثاً بتوقيت الرياض في كل مرّة نجتمع فيها، وهذه الإجتماعات تحدث غالباً بحكم عملنا في الصحيفة نفسها، وبحكم العلاقة التي نشأت في ما بيننا، ناهيك عن ضيق الخيارات التي تتيحها الرياض للبناني أعزب، ما يجعل هذا الاجتماع الرباعي أقرب ما يكون إلى طقس يومي.

استقبلته إحدى المرات في منزلي، ولم يكن قد تعرّف بعد إلى حسن، الصديق الذي أتقاسم معه ذاك البيت متواضع. لم يكن على إبراهيم أن يقلق هذه المرة من أن يقاطعه أحد من أجل نشرة إخبارية quot;سخيفة ومتكررةquot;. هذا ما كان يحسبه، ربما لكونه يحلّ ضيفاً للمرة الأولى في هذا البيت. لكن عندما اقتربت الساعة من الواحدة إلا ربعاً قاطعه حسن معتذراً، وملمحاً يطريقة مهذبة إلى أن مذيعة الأخبار تمسّد حاجبيها للمرة الأخيرة على الأرجح، قبل أن تظهر مباشرة على الهواء.... قفزت عينا إبراهيم من مكانهما، وفهمنا منه أثناء انصرافنا إلى التركيز على النشرة، أنه كان يشتم لبنان ويلعن اللبنانيين ونشرات أخبارهم.


في الواقع أنا لا أحب نشرات الأخبار، أشعر أنها توترني، ولا تفيد أي محاولة لصد اليأس والقرف والخيبة التي تنتابني بعيد انتهاء النشرة. في هذه الحالة أنا أضيف إلى أسباب أرقي المزمن سبباً آخر يمنعني من النوم... التوتر. لكن ما العمل؟ كلما حاولت وضع حد للمسألة، أجدني مشدوداً وأكثر توتراً. أشعر أنني مدمن بكل ما للكلمة من معنى. لا أستطيع الإقلاع عن تعاطي الأخبار، وأعلم في الوقت نفسه أنها تضر بصحتي النفسية. أخاف أن يفوتني شيء إذا ما أغفلتها، وكأنني أخشى أن تقوم الحرب وأنا نائم أو غافل عنها بمتابعة حديث إبراهيم.
ما المهم في نشرة الأخبار؟ لا شيء سوى أنه في كل يوم تزداد قناعتك باستحالة شفاء هذا الوطن الغريب الذي تعشقه، وتهتدي إلى دليل آخر على سقم السياسة، وعلى ازدياد أعداد المراهقين السياسيين... فالكل يتهم، والكل يصرّح، وجميعهم خائفون على الوطن!
هذه هي المعادلة إذاً أيها الصديق السعودي، أناس مدمنون على التصريحات والتعبير عن خشيتهم على الوطن، وأناس مدمنون على متابعة التصريحات وعلى شتم أصحابها، ويعذبهم هوى الأرز.
يكاد يتقيأ المنطق وهو يشاهد ما يحدث. أَنظر فقط إلى الفترة التي تلت أحداث الأشرفية، وإلى الاتهامات التي يكيلها كل فريق ضد الآخر.
يعلن فريق 14 أذار أن مندسين من أتباع سورية قاموا بأحداث الشغب في الأشرفية وبتخطيط مسبق من النظام السوري. يعلن السيد نصرالله أنه مع تحقيق مهني وشفاف لكشف ملابسات الحادث، ولا يستبعد أياً من الفرضيات، سواء كان هناك مندسين أم لم يكن، لكنه فيما يعلن ذلك، يستتبع حديثه بالقول إن القوى الأمنية ألقت القبض على بعض العمال السوريين وأن هناك اتجاهاً لتسييس التحقيق باتجاه إلصاق التهمة بسورية. ما دليل السيّد على محاولة التسييس؟ لا يقول لنا. لا أحد يعرف. ما الحاجة إلى دليل إذا ما كان مناصرو نصرالله يصدقونه، وإذا ما كان أتباع جنبلاط يصدقونه، وأتباع سعد الحريري يصدقونه، وأتباع جعجع يصدقونه... وكلهم يفعل ذلك من دون حاجة إلى دليل. الدليل الوحيد أن زعيمهم تكلم وأعلن ذلك. يصادر نصرالله التحقيق، ويستبقه بالإعلان عن أنه مسيس، بعد أن كان طالب بالتحقيق!
من نصدّق نصرالله أم قوى 14 آذار؟
يتهم سليمان فرنجية سمير الجسر بأنه أعطى شيكاً بقيمة 130 ألف دولار لأحد المنشقين عن التيار العوني، وينشر صورة عن الشيك على الإنترنت. يرد الجسر بأن الشيك مزور مصدره quot;مصرف لا أملك فيه حساباً... وأنا أستجمع الأدلة للاعاء، وقد طلبت من البنك المذكور إفادة في هذا الخصوصquot;.
من نصدّق؟ السيد فرنجية أم الجسر؟
يتهم فرنجية قوى 14 آذار بالتضليل الإعلامي في التحقيق باغتيال الرئيس الحريري، مدّعياً أن بحوزته معلومات أنه تم ضبط 13 عنصراً من تنظيم القاعدة هرب أحدهم وهو خالد طه quot;لأنه تبين أن له علاقة باستشهاد الحريري والذين بقوا اعترفوا أنهم جنّدوا أبو عدس فظلوا يضربونهم حتى غيّروا إفاداتهم وأحالوهم على النيابة العامة بتهمة حيازة أسلحةquot;، وأشار إلى أن لجنة التحقيق الدولية طلبت منذ شهر معلومات حول هذا الموضوع quot;ولم تحصل عليها بعدquot;.
لماذا نصدّق فرنجية صاحب سجل من التصريحات الغريبة؟ ولماذا لا نصدقه طالما تبيّن أنه كان محقاً في الاتهامات التي سيقت ضده من جانب قوى 14 آذار، والتي قيل فيها أن في منطقته معسكرات تدريب!؟
بعض الشهود السوريين في التحقيق يقولون إنهم تعرضوا لإغراءات وعمليات ترهيب من قبل سياسيين ومسؤولين لبنانيين.
كيف نصدّق الشهود في وقت لدينا نموذج عن هسام هسام، الممثل من الدرجة الرابعة الذي فقد فرصه بالاحتراف في المسلسلات الرمضانية السورية، والتي بلا شك تغلبت على المسلسلات والمسرحيات الاستخبارية؟ ولماذا لا نصدقهم ونحن أعرف الناس بأخلاق سياسيينا وذممهم الواسعة؟
أين الحقيقة من كل ذلك؟
الحقيقة في ما قاله صديقي السعودي.... quot;نشراتكم الإخبارية سخيفة ومتكررةquot;. وهذا يضعني في موقف حرج... فبعد قليل من التفكير سوف أضطر إلى مواجهة حقيقة من نوع آخر. هل أدمن حقاً السخافة والتكرار؟