نور الهدى غولي:في تلك المدينة التي عنت لها الكثير، وقفت الكاتبة أحلام مستغانمي تأخذ وسام استحقاق من الرئيس بوتفليقة ، وهج قسنطينة المتألق كان يمنحها عربون محبة عمّا كان بينهما من أسرار.. فقد كانت أحلام هي الروائية التي دونّت أدق تفاصيل مدينة لم تكن قد زارتها قبلا.quot;ذاكرة الجسدquot;.. ليس هناك من لم يسمع بالرواية في الجزائر، ولئن كانت من أكثر الكتب قراءة بين أوساط المثقفين والناس العاديين وان كانت قد لاقت في بداياتها بلبلة غريبة أشعلها صحفي تونسي حين اتهم الكاتبة بسرقة الرواية من الشاعر العراقي سعدي يوسف، هذا الذي التزم الصمت في الوقت الخطأ.

بؤس الحال لم ينطلق من تهمة السرقة وحسب، فقد كانت quot;ذاكرة الجسدquot; قد نشرت قبل سنوات في الجزائر ، ولم يلتفت لها أحد في أي بقعة ، إلا بعد أن نالت باستحقاق جائزة نجيب محفوظ للرواية. حينها فقط كثر التصفيق وزادت حدّة الحديث عن عرس لغوي يختبأ خلف ذاكرة جسد هذه المرأة التي تخلت عن ثوب الشعر لصالح الرواية بصورة نهائية.
حتى وان كانت تبدو أسباب واهية، فإنّ المتتبعين للفضاء الثقافي يؤكدّون أن الغلاء المعيشي وارتفاع سعر الكتاب أدى إلى انخفاض نسبة القراءة بدرجة كبيرة جدا ومعه صار اقتناء الكتاب المستورد أمرا يقتصر على عدد محدود من الذين يخوضون التجربة quot;لحكم تخصصهم quot; لا أكثر، اما صعوبة تطبيق سياسة توزيع الكتاب فتبقى مشكلة أخرى أكثر تعقيدا.
خلال معرض الكتاب الدولي الأخير أبدى صديق لي استغرابه من ذاك الإقبال الكبير على ثلاثية أحلام مستغانمي، قال ساخرا: quot;ألا يجدر بهم اقتناء كتب أخرى أكثر عمقا، كتحليلات حسنين هيكل، مذكرات رفسنجاني، وغرائبية نيتشه..quot;.كان يقول ذلك مع أنّه يدرك تمام الإدراك أنّ ndash; ظاهرة - أحلام مستغانمي (إن صحّ التعبير) أمر لن يتكرر قبل عقود من الزمن ، وليس هناك من طريق أجدى من أجل إعادة المطالعة والقراءة إلى اهتمامات ضرورية لدى الجميع.

أسوء ما قيل عن كتابتها لم يكن بالقليل ، على العكس كان من الكثرة والكثافة بمكان ومنها ما صرّح به الروائي الجزائري أميز الزّاوي والذي رأى في الرواية مجرد quot;فاست فودquot;.. كناية عن الالتهام السريع للكتاب دون فائدة تذكر لاحقا، الأمر الذي يعجز عنه مع غيره كثر. فكانت ذاكرة الجسد كالخبز بالنسبة للكثيرين فهناك من لم يقرأ في حياته كتابا - خارج المقررات المدرسية - غير هذا الكتاب.
الحقيقة التي لا يمكن نكرانها أيضا هو أن الإعلام المكتوب والثقيل قد ساهم في توسيع خيوط الدعاية للكاتبة ومؤلفاتها، وكثر هم أولئك الذين لم يندموا على اقتنائها مباشرة أو عبر الانترنيت، ولم يعد حيز الحديث عن السرقة مفتوحا بعد أن لجمت الكاتبة كل الأقوال بنشر quot;فوضى الحواسquot; وquot;عابر سريرquot;.. فكانت الثلاثية الأكثر شهرة ، والتي تربعت لفترة طويلة على سلم أكبر الكتب مبيعا خلال معارض الكتاب.
طبعات كثيرة مقرصنة ومزورة، نسخ طبق الأصل للرواية.. اعارات متداولة ، تجدها هنا وهناك، في الجامعات، الثانويات، وأماكن العمل.. تمّ تناقل عدد من النسخ إلى أن صارت مهترئة، ومع ذلك لم يخفت وهج الاطلاع على هذه الذاكرة أكثر من أي كتاب آخر في الثلاثية التي صدرت تباعا ليعاد نشرها في الجزائر.

كتبت أحلام مستغانمي قبل شهر في مجلة الحوار مقالا تناقض فيه الفرق بين الحكام في الغرب وعندنا، وقد استوحت فكرته من مقال كانت قد طالعته في مجلة نسائية فرنسية بعنوان quot;أولئك الرجال الذين نتمنى لو استعرناهم من زوجاتهمquot;! وبعد أن كشفت عن العلاقة التي تربط بين الحكام والمثقفين هناك، صرخت بعنوان آخر تقول: quot;أولئك الحكام الذين نتمنى لو استعرناهم من شعوبهمquot;.. مسرّبة في معرض مقالها لبعض الشخصيات السياسية كنماذج يصعب تشبيهها بأي نموذج عربي آخر كجورج بومبيدو وفرانس ميترون...

طبعا حين نقلت في البداية خبر التكريم الذي خصّه بها رئيس الجمهورية، لم يكن يعني أبدا أنّ هذا الرجل قد يشبه النماذج السابقة الذكر في الهاجس الثقافي، ولا في علاقتهم الطيبة جدا مع الكتاب والمثقفين، ولكن لأنّ فرحتها كانت تبدو عارمة وهي تنال وسام الاستحقاق.. أجلّت الكاتبة سفرها إلى بيروت وانتقلت من العاصمة إلى مدينة قسنطينة في طائرة الرئيس الخاصة ليحتفى بها في يوم العلم المصادف للسادس عشر من شهر آذار.كل من قرأ الرواية التي صدرت قبل حوالي العقد (1997) يعرف زخمها اللغوي الجميل الذي جعل الشاعر نزار قباني يشعر بغيرة الكتاب، وتمنى لو أنه يستطيع وضع اسمه عليها، لمن لم يقرأها بعد، هو على موعد جميل مع عالم يتمناه له، أو لو أنه عاش فيه على الأقل.. حتى ولو جاءت قراءته متأخرة نسبيا.. فلحسن الحظ، طبعا، أنّّ الكتابات الجميلة هي نصوص لا تموت..