رزق علي : كانت ذكراهم تمر على القلب فيخفق لها دونما استئذان ويهفو الفؤاد لسماع أنينهم متعاليا على الجراح التي أغرقته طوال سنوات عجاف. تشتاق العين لرؤيتهم ثانية في اماكن جلوسهم على ناصية الشارع المدمر من القصف الاسرائيلي.. تعتقد انك أصبحت مولعا بحبهم تحن الى عودتهم على عجل . كانوا قد مروا من هنا في يوم من الايام، يلبسون ثياب احلى من اريج الزهور المنبعث من جنبات الحدائق .. مشيتهم وكأنها السحابة فوق رؤوس الكرام لا يخشونها ان شاءت البكاء.
مضوا دون ان يراهم احد كيف رحلوا عن قريتنا الباكية.حملوا في جيوبهم اوراقا بيض, بينما حملت قلوبهم وعقولهم ذكرى الوطن المعشوق الذي ما فتيء يطلب من رجاله الاستمرار في البذل والعطاء.
انهم شهداء القرية صاحبة المقلتين الدامعتين ..وكأنها ما زالت تبكي حبيبا لن يعود اليها الا في سكنات الليل الهادئ يلقى على اهلها السلام دون ان يسمعه أحد.
كانوا كالفرسان الذين ركبوا الجواد السائح في فضاء الكون يطير بين سحابة واخرى يبحث عن مستقره ليجده في أعلى الاماكن صعودا وارتقاءً.
اكثر من مائة شهيد ودعتهم القرية على مدار ستة أعوام من الانتفاضة التي لن تمضي من دون ان قريتنا في تاريخها المعبد بدماء ابناءها وترسخه في اذهان احفادها الذين يمضون على ذات الدرب السامي...

الشيخ رضوان الواقعة في غرب مدينة غزة قرية بلغ ذكرها افاق الارض الفلسطينية ، جاءها المهاجرون من كافة القرى الفلسطينية حينما شاء القدر ان يبدأ الفلسطينيون مسيرة القهر الطويلة بحثا عن مستقر للبلاد التي ما فتئت تخرج من حرب الى وقد وقعت في شراك حرب لا زالت دمائها تنزف الى الان.
هيثم أسعد أبو شوقة الذي ما زال في ريعانه العشرين سقط ليروي الارض العطشى من دمائه معلنا نفسه كأول شهداء القرية.
هو فتى العائلة المدلل الذي ابكى برحيله فتيان القرية نساءها وشيوخها . كتب في وصيته التي وضعها قبيل ايام من رحيله quot; يا ابتاه لا تحزن وأنتي يا امي لا تحزني , فاني قد مضيت شهيدا .اروي دمي للارض التي عشقناها ونعيش من اجلها, وهذا الطريق الذي سلكته مع اخوتي المجاهدين نبتغى رضوان الله , وطمعا في جناته لذلك لا تحزنوا على رحيلي وادعو لي بالعفو والمغفرةquot;.
اختار والده حينها بيت العزاء لقراءة سطور خطها ابنه الذي لم يخيل له يوما انه سوف يمضي دون استئذانه .
هيثم المعروف بدمث اخلاقه ونبله وكرمه ولينه بتعامله مع الاخرين كان مؤمنا بالله يتردد الى مسجد القرية وقد اتم حفظ 16 جزءا من القرءان الكريم ...
يصفه أصدقاءه في القرية بأنه كان من المتفوقين جدا في دراستهم يحققون اعلى النتائج الدراسة وامين وصادق , ومتعاون , لا يكذب أبدا.الاصدقاء لم يفارقوا منزله علهم يجدوا شيئا من ذكراه تعود إليهم .

يوسف زقوت لم يكن قد بلغ ربيعه العشرين حين سقط شهيدا بعد ايام قليلة من رحيل quot;صديقه المقربquot; هيثم .
مضى سريعا بعد عودته من مدرسته ..كغزال الرنا لا يوقفه او يلحق به احد. حمل في جيبه سكينا ، اعتقد بأنه سوف ينال من الجنود المدججين بالسلاح على السياج الحدود لمدينة غزة. هناك قتله الاسرائيلين ، على بعد مئتي متر من السياج ليسقط شهيدا..لم يكتفوا برصاصهم بل اطلقوا الكلاب البوليسيةلتنهش لحمه .

كتب يوسف في وصيته quot; سامحيني يا أمي سامحني يا أبي فها أنا اليوم ارحل عنكم دون اذن من أحدكم , سامحوني ان كنت قد اسأت الى احدكم وادعوا لي ان يرزقني الله الجنة. ان كتبني الله شهيدا ادفنوني بجانب قبر الشهيد الشيخ أحمد ياسين , وسددوا عنى ديني للبقالة المجاورة, وأذيعوا القرءان الكريم طوال ساعات بيت عزائيquot;.
والقصص عديدة ..يتذكر اهالي القرية الاستشهادي محمود العابد باعوامه الـ 26 والذي نفذ عملية استشهادية قتل فيها ثلاثة اسرائيلين في شمال قطاع غزة.
لكن عابد لم يرحل من دون استئذان بل ودع والدته وهي تلبسه ثيابه العسكرية وتجهز له سلاحه فكانت كلماته الاخيرة لها quot; تسلم ايديك على هالتربايةquot; أي (اشكرك على تربيتك لي )
ولا يتوقف العد هنا ..غالبية الشهداء الذين سقطوا لم يتجاوزا الثلاثين من عمرهم ،وغيرهم كثر من الشيوخ والنساء والاطفال.
سامي الترامسي شهيد اخر ، توفيت والدته بعد رحيله باسبوعين . كان حزنها اكبر منها وفراق والدها اصعب من ان تتحمله .

لم تنته قصص شهداء القرية عن هذا الحد فهناك من لم نذكرهم لا زالوا يرقدون في مستقرهم هادئين ينتظرون ان تلحقهم الجموع التي تبحث عن سبيل للوصول اليهم ...
فكنت تجد اصدقاء الشهداء وهم يردودن عند دفن الشهداء مقولاتquot; خذني معكquot; والعيون تبكي دما وأسى على رحيلهم.... لتكون ذكرى شهداء القرية اجمل ذكرى يحتفل بها.