عندما تنزح الضاحية الجنوبية من نفسها
ثلاثون شخصاً معوقا يختفون... من مبنى بيروت مول
تصوير عماد الدين رائف
عماد الدين رائف : لم تكن الشمس قد أشرقت على وجه فاطمة بعد، كان وجهها الملائكي يسبح في ضوء الفجر ملتصقا بقميص أبيها المستلقي إلى رصيف مبنى الأونيون في محلة الصنائع. ابنة السنوات الخمس كنظيراتها اللواتي غادرن مع أهاليهن أحياء الضاحية الجنوبية ليل الخميس ndash; الجمعة حاملين ما ألقته السماء عليهم من قصاصات منذرة بالويل والثبور، عممت عليهم الهيئة العليا للإغاثة بالتوجه إلى منطقة العدلية، حيث ستحملهم باصات شركة نقل خاصة إلى حيث يجهلون.
قبل تسع ساعات
أوقف الشرطي دراجته الضخمة ساداً الطريق في وجه السيارات المتدفقة إلى حديقة الصنائع، كانت المآذن تصدح معلنة غياب شمس آب، تسرب المشاة حاملين أمتعة نزوحهم الثاني أو الثالث إلى الحديقة المكتظة بالوجوه المنتظرة.
كانت الحافلات قد أخذت أماكنها وبدأ سائقوها بالتدخين في انتظار امتلائها. عبّر علي عن امتعاضه الشديد لتدفق النازحين إلى quot;حديقتهquot;، يقول: quot;يجب أن يخرجوا بأسرع وقت ممكن كي نقفل الأبوابquot;.
علي، 37 سنة، لديه بتر في رجله اليسرى تحت الركبة نتيجة إصابة في حرب سابقة، يحس نفسه من السكان الأصليين لهذا المكان، فهو نزح إليه من الضاحية نفسها قبل شهر تقريباً وتأقلم مع المكان. يمكنه أن يصب جام غضبه على إسرائيل التي ألقت بمناشيرها اللعينة. لكنه يفضل أن يلوم النازحين أنفسهم. بدأت الباصات تمتلئ واحداً بعد آخر، وتتوجه إلى منطقة العدلية، كان علي أن أنطلق تاركاً بعض رجال الشرطة يتصايحون مع شاب ينتمي إلى قوى أمر واقع مخلوق للتو. خرج الشاب الغاضب من باب الحديقة شاتماً كل شيء، أطاح بحركة مرتجلة من يمناه بقبعة القش التي غطت رأسه طوال فترة تنظيمه لتجمعات النازحين.
العدلية
حملتنا سيارة السرفيس الصغيرة معلنة مرحلة جديدة، quot;أريد أن آخذ منكما ثلاثة آلاف ليرة بدلاً من الفين، فالتنكة (عشرون ليتراً) في السوق السوداء بخمسة وثلاثين ألفاًquot;، نظرت إلى محمد المرافق لي نظرة استغراب، ثم تذكرت أن النظرة لا تكفي، فمحمد مكفوف، دفعت الثلاثة آلاف. أخذ الحديث عن كارثة إنسانية يتردد أكثر على لسان صديقي، محمد لطفي، منسق مشروع الإغاثة في اتحاد المقعدين اللبنانيين، هدفه أن يبحث بين الفارين من مناشير الضاحية الجنوبية عن أشخاص معوقين لعله يقدم لهم من يد العون ما يسد جوع طفل أو يداوي مريض.
كانت الطريق نحو سبيرز ملأى بالنازحين الجالسين على الرصيف، هناك فوق جسر فؤاد شهاب حيث تقع جزيرة خضراء بين خطي الأوتوستراد احتل النازحون المقاعد القليلة وأطفالهم أخفوا خضرة الجزيرة بأجسادهم.
في منطقة العدلية، تفرق رجال الشرطة بين مئات من النازحين القادمين بالباصات، الفانات، أو سيارات أجرة. كان ضابط من الشرطة ينظم بالتعاون مع مسؤول من شركة النقل تسيير رحلات قسرية إلى مدينة شكا الشمالية. تقدمت حنان، عشر سنوات من الضابط، دفعها إليه رجل ملتح، قالت بصوت خفيض: quot;إلى أين تحملون الناس؟ أن أبحث عن أهلي الذين سبقوني في باص، بحثت عنهم ولم أجدهمquot;، كانت حنان قد قضت ساعتيها الأخيرتين في الـ quot;بيروت مولquot; باحثة بين الوجوه الكثيرة عن أمها وأبيها، اللذين قادهما رجال الدفاع المدني إلى الباصات على عجل. quot;شكا، القلمون، طرابلسquot;، الجواب الوحيد الذي تسمعه من النساء والأطفال، بعضهم يردد أسماء تلك المناطق للمرة الأولى.
تقدم حسن وزجته وثلاثة من أطفاله من الضابط راجياً إياه أن ينقله إلى منطقة المكلس، رفض الضابط ذلك، quot;لدي أوامر واضحة بنقل الناس إلى الشمالquot;. ارتد حسن على عقبيه لتنهال على الشرطي آلاف الأسئلة والطلبات. وحدها كانت ام رضا صامتة، كانت تهز عربة طفل تموضع فيها ابنها المعوق فادي. فادي لديه شلل دماغي حاد، لا يمكنه التحكم بحركة أطرافه، 25 سنة، لا يتكلم إنما يتواصل من خلال أصوات معينة مع والدته، يحرك كلتي يديه بعصبية واضحة في كل الاتجاهات. وزنه الذي لا يتعدى 40 كيلوغراماً سمح له بحرية الحركة في عربة الأطفال تلك.
كانت أم رضا قد نزحت من مدينة بنت جبيل إلى الضاحية، ثم نزحت من الضاحية إلى مكان أكثر أمناً في الضاحية، ثم ها هي تجد نفسها وحيدة مع ابنها المعوق، مسلوخة عن زوجها الذي فقدت أثره في أحد الملاجئ في منطقة الجاموس، وابنها الذي لا تعرف عنه شيئا، وابنتها التي فر بها زوجها إلى الجبل. لم تثمر محاولة محمد من التحدث إلى صهر المرأة المكسورة كي يستقبلها في مكان نزوحه، كان عليها أن تلحق بأول حافلة متوجهة إلى الشمال. حمل رجال الدفاع المدني أغراضها القليلة وابنها إلى الحافلة، وزودها محمد بورقة صغيرة تحوي اسم المستشفى البعيد الذي وافق على استقبال فادي.
بعد دقائق، يعلم الضابط محمد بأن ثلاثين شخصا معوقا ما يزالون عالقين في مبنى بيروت مول، يجري كل شخص منهما اتصالاته السريعة، يلتقيان مجدداً وسط الزحام، quot;ستنقلهم حافلة خاصة بهم مباشرة إلى طرابلس حيث تمكن فريق الاتحاد من التواصل مع بعض الجمعيات الأهلية في الشمال لاستقبالهمquot;، يأتي رجال الدفاع المدني بخبر طازج من الشياح quot;لم يعد هناك أحد في البيروت مولquot;، يدور محمد حول نفسه في المكان المزدحم، quot;أين اختفى ثلاثون معوقاً؟quot;.
يجري الرجل اتصالاته بالشباب الذين أخلوا المعوقين من مبنى بيروت مول المؤلف من أربع طبقات تحت أرضية كانت تغص بالبشر. يأتي الصوت رتيباً من خلال اللاسلكي quot;لا يوجد أحد، تم إخلاء المبنى بالكامل، أوكد لا يوجد أحد في المبنى، حوّلquot;.
يهز رجل الدفاع المدني بكتفيه، تظهر نظرة حائرة للحظة على وجه ضابط الأمن الذي تنهال عليه الطلبات والشكاوى والرغبات من الهاتف واللاسلكي والأفواه الغاضبة. quot;لدينا حالة واحدة هنا، فاديquot;، يؤكد مسؤول شركة النقل انه أقل ثلاث حالات قبل وصولنا، لكن ليس من مبنى بيروت مول. يثور في هذه الأثناء نازحون لا يريدون التوجه إلى الشمال، يغضب مسؤول شركة النقل الذي لا يكف عن استشارة كبير له يتخذ من حافة البناء مكانا مريحا للجلوس. يجيب: quot;الناس لا يريدون الذهاب، إنهم يتدلعون، اتركوهم وفلّواquot;.
يتدخل الضابط ليخير المنتظرين الثائرين من النازحين بين الشمال والعودة إلى حديقة الصنائع، يختارون الصنائع. بعد نصف ساعة تحمل ثلاثة باصات كل quot;الثائرينquot; من حيث قدموا. تخلو هذه الجهة من الشارع إلا مني ومن محمد ورجال الشرطة.
على الرصيف المقابل كان عدد من النازحين القادمين بواسطة فان قد تموضعوا إلى جانب حاجياتهم وبدا أطفالهم الرضع يستريحون في الـ quot;بورت بيبيquot; بالقرب من الأقدام، على مقربة منهم جلست عجوز طاعنة في السن على كرسي بلاستيكي صغير، يظن من يراها أنها تنظر إلى الأرض لكثرة انحناء ظهرها، يعلمنا رجل الدفاع المدني انها وحيدة، ليس لها من ولد أو أهل.
اقترب منها أجلس على الأرض قبالتها، يجلس محمد إلى جانبي، هي لا تريد المغادرة إلى الشمال. quot;أعيدوني إلى حي السلم، أعيدوني إلى الضاحية، من أخبركم أنني أريد مغادرتهاquot;. تضم إليها أغراضها المضبوبة في أكياس بلاستيكية سوداء، هذه الأغراض التي استنقذتها من البيت المدمر. يزودها محمد بورقة أخرى لاستقبالها في عاصمة الشمال التي لا تعرفها، تنحدر دموعها وهي تنظر من خلالنا إلى ظلام الشارع.
ابتسامة فاطمة
لم يكن علي أن أضبط أي منبه فجر الجمعة، أيقظتني الغارات الاثنتي عشر على الضاحية من سبات قلق، توجهت إلى بيروت التي ارتد إليها من لم ينزح إلى الشمال وفق توجيهات الهيئة العليا للإغاثة والقوى الأمنية، عليّ أن أجد أثر ثلاثين شخصاً معوقاً تحدث عنهم ضابط الأمن. كانت الأجساد الملتصقة بالأرصفة بين السيارات تتناثر بدءاً من البسطة الفوقا حتى حديقة الصنائع. أبحث بين الوجوه والأجساد. البسطا الفوقا، التحتا، الباشورة، زقاق البلاط، الصنائع، كلية الحقوق، السبيرز، مبنى الأمن العام القديم... إلى أن وصلت إلى وجه فاطمة. ما هي إلا سويعات حتى لمست شمس الجمعة بأول أشعتها بشرة وجهها النقي. استفاقت الطفلة في أول يوم نزوح لها في حياتها، سرعان ما أغمضت عينيها بقوة كي لا تزعجها أشعة الضوء، أخفقت في أن تبتسم لأبيها كما كانت تفعل كل صباح، كانت قد تركت ابتسامتها الطفولية في الضاحية.
التعليقات