سارة مطر من الدمام : قبل أن أصل إلى الدوار الثاني الذي يأخذني باتجاه الجامعة في مدينة عيسى، أطلب دائماً من سائقي أن يهتم بالطريق أكثر مما يجب، وأن يتوخى الحذر حتى لا تعصف بنا أبواق السيارات، كل ذلك لأن اللوحة الموضوعة على السيارة هي لوحة سعودية. في البحرين، هناك غضب عاصف لأي سيارة سعودية، فنحن لا نعرف فن القيادة كما هم الناس العاديين، ونحن لا نحترم إشارات المرور، وأيضاً نحن بدو في علاقاتنا وأحاديثنا وحتى في مفهومنا للقيادة، ربما لهذا لم نرد لنسائنا أن يصبحوا أشباهنا، فمنعنا عنهم قيادتها!
سائقي الهندي، يرتبك كلما حاولت أحدى السيارات البحرينية معاكسته، أشفق عليه، وأكتفي بأن ألوم الطريق، والدوار المزروع بالخضرة، والسيارات الصغيرة والكبيرة، وحتى الشرطي الأسمر الذي أعتدت على وجوده في الجهة اليسرى من الدوار، وإشفاقي على سائقي ليس لأنه لا يستطيع القيادة كما يجب، أو لأنه يتعدى كل الإشارات الضوئية، وإنما كل قضيته الوحيدة، أنه يقود سيارة سعودية فقط!
لا أستطيع أن أفهم عقلية المجتمع البحريني حتى الآن، فدا زميلتي في محاضرة الإرشاد السياحي، تلخص لي المواد التي تغيبت عنها بسبب سفري المتكرر، وتبعث لي المحاضرات عبر بريدي الإلكتروني دون أن أطلب منها ذلك، وحسين زميلي في الجامعة وهو شاب مثقف وعلماني، جلست معه لأكثر من مرة في كافتيريا الجامعة، وتناقشنا في الكثير من المواضيع المطروحة عبر المشهد الثقافي والسياسي ايضاً، بعد فترة يدخل مدونتي ويشتمني بها، ويكيل لي السباب بأسماء مستعارة، ويحرض أصدقائه على شتمي بلا مبرر، كل ذلك لأن مدونتي نجحت أكثر من مدونته، لا أستطيع أن أفهم إذا ما كنت محبوبة في الجامعة أم لا؟ quot;لست وحدي من يمر بمثل هذا الشعور الغاضب وأحياناً الساخنquot;، فحينما أحرك دائرة الحوار أثناء المحاضرات، حتى أسمع الهمهمات تأتي من الأفواه والجدران، ومحاولة التنكيل بي فقط لأني سعودية، صالح زميلي فقد أعصابة ذات مرة، وهدد بأن يبلغ إدارة الجامعة عما يتحدث به بعض الطلاب، وخاصة الذين يعملون في الصحافة ويكملون دراستهم مساءً، لا أستطيع أن أستوعب إذا ما كان الجميع ضدي لأني مواطنة سعودية، أم أنهم ينظرون لنا وكأني متطفلين على مجتمعهم الخاص، أو لأننا نتقاسم معهم الدراسة في الجامعة!
محمد زميلي أيضا في الجامعة، وهو شاب مثقف جداً، ورب أسرة منذ أن كان في التاسعة عشر من عمره، سجن لعامين أثر اشتراكه في تنظيم يسعى لقلب نظام الحكم في مملكة البحرين، quot;خشيت مرة أن يفهم أننا أيضاً في السعودية مسئولين عن سجنهquot;، خرج بعد قضائه عقوبته ليعمل في محطة بنزين قريبة من بيتهم، وحاول أن يعمل جاهداً لكي يجد لنفسه مكاناً لائقاً ضمن مجتمعه البحريني، بعد أن حاول أن ينسلخ بشكل أو بآخر من آخر ارتباكات مذهبه الشيعي، لا يتوانى محمد عن السؤال الدائم عن المرأة السعودية، وكأنها امرأة تنام على غوايش وسبائك من الذهب، وتشرب النفط في الصباح بدل الحليب.
كنا نشترك في محاضرة الإلقاء، وأتصل يبحث عن رقم أستاذ المادة، وسارعت بإعطائه له، لكن ذلك آثار ضغينته، فقال لي متأثراً quot; أظن أن علي أن أتخلص من جنسيتيquot; قالها بصوت مالح ومفطور، لأني أملك رقم هاتف أستاذ المادة، بينما هو يتحصل عليه من خلالي!!
البحرينيون يشعرون دائماً أننا المسئولين عن كل ما يحدث لهم، وإذا حدث أن نبتت شجرة في وسط البحر، لاتهموا بذلك السعوديين، فنحن بدو لا نستحق أن نملك أو نتملك، وصديقتي زينب البحرانية إذا أرادت أن تدغدغني تقول لي quot; كم أحبك أيتها السنيةquot;، هناك دائماً سني وشيعي، وهناك أكثر من ذلك، أنت تملك سيارة فخمة لأنك سني، وأنا أضرب واسجن وأطرد أيضاً فقط لأني شيعي!
أنهم يعيشون مفاهيم متنوعة ومختلفة، ولكن ما دخلنا نحن السعوديين بكل هذه التقسيمات الأيدلوجية، وما دخل سيارتي التي تتعرض كثيراً لصراخ وشتائم الأصوات البحرينية، فقط لأن لوحتها سعودية!
أنا ممتنة للبحرين لأنها خلقت لي حياة أخرى، وبهجة تقودني إلى عوالمي المختلفة، أحب البحرين كثيراً ليس لأن فدا تكتب لي محاضراتي، ولا لأن نور تقرص خدي كلما ضحكنا سوياً، ربما يكون هذا جزء مهم وحيوي، ولكن لأن البحرين يمكنها أن تهبني الجنة، دون تكلف، ودون معاناة، فأنا أعشق السينما، وأهوى شراء الكتب، وحضور الحفلات الموسيقية، والمعارض الفنية التشكيلية المتعددة، وأحب كثيراً هذا التمازج الكبير بين الرجل والمرأة، إذ أن ما تجده المرأة في البحرين لا يمكنك أن تراه في أي مجتمع خليجي آخر، ولكني لست مسئولة أنك شيعي وأنا سنية يا صديقي البحريني!
وصلت إلى الجامعة، تحركت بسرعة فتدافعت الأجساد المختلفة للخروج من صف المحاضرة، نظرت إلى الساعة كانت تشير في يدي إلى أنها السادسة والربع، عجلت بالركض وحاولت أن أرفع طرف عباءتي وأنا أسير عبر الطريق الترابي، في المكان الذي اتفقت مع نور على اللقاء بها، وجدتها تنتظرني بهدوئها المعتاد الذي يحفزني كثيراً لأن أثور غضباً عليها، نور التي تتشارك معي في الحضور مساءً إلى الجامعة، لدينا مادتين يتوجب علينا الخلاص منهما، ولم نجد لنا مقاعد سوى في البرنامج المسائي، في الطريق الذي اتخذته أقدامنا، دون إرادة منا، لكنها تقودنا، وأنا ونور لا نرفض هذه القيادة لأنها تشعرنا بالتحرر المؤقت من أنفسنا. تحدثنا بشكل سريع ومقتضب، أشياء كثيرة باهتة، ونبحث عن طعم لها، مثل كل الأشياء التي بدأت تغتالنا، قبل أن نغتالها بالضحك عليها، لم يعد هناك شئ مهم، أو في غاية الأهمية، هناك أمور نندفع إليها دون مقابل، لذا حينما نثرثر، فكل ما نفعله أن نطرد العتمة من أرواحنا، وأن نشعل فتيل ضوء صغير داخلها، كي تتسلل إليها تلك الكائنات، التي بدأت تتوالد داخل قبائلنا الجسدية المصفحة، لتتحول إلى قنابل مؤقتة قابلة للأنفجار في أي وقت، وعلينا الخلاص منها، أو حتى الفرار لأجلها. لا أظن أن نور تسمعني، أن صوتي لا يخرج من فمي، لكني أؤمن كثيراً أن الأشياء التي بلا صوت تصبح أكثر أستماعاً من تلك التي نعلكها بالمفردات الصاخبة، وكنت أحدثها عن أشياء ربما لا تروق لها أو لا تعني لها شيء، وأنا في المقابل لا يمكنني بأي حال أن أصيخ السمع أكثر لأجلها، أننا نتكلم كي نعرف أن لأصواتنا معاني، يمكنها أن تمطر لحظات الملل وتدفئنا!
طالعت نور إلى ساعة هاتفها، بينما لا تزال مشغولة مع قدميها، تمضي إلى حيث تريد أو لا تريد، دون أن تتوقف ودون النظر إلي، ربما كانت مشغولة في البحث عن أسباب تواجدنا، في ذات اللحظة، وذات المكان، ونحن ننتمي لدولتين مختلفتين وعالمين أيضاً مختلفين، الأجساد تتدافع بالركض أمامنا، أتخذنا طريقاً مظلماً لم نسمع فيه إلا صوت وقع الأقدام القادمة من بعيد، أو التي تتشارك في الذهاب معنا إلى حيث لا نعلم تحديداً، أحب نور جداً، صارت أقرب لي من زينب علوي، لم أتصور أن يتضاءل دور زينب بهذه الطريقة، لا أعرف ما لذي حدث، ولماذا أصبح دور زينب يتقلص في الظهور في حياتي، في الاختباء خلف إطار الصورة، حتى أني أكاد لا أراها رغم إستمرارية وجودها في حياتي، لم تعد لديها القدرة كما كانت في السابق على احتوائي، وعلى شدي من عباءتي السوداء، كما كانت تفعل فيما مضى، والآن جاء دور نور التي اتخذت مكان زينب بصورة مختلفة، فنور هادئة للحد الذي تخشى على الهدوء منها، لكن ما أن تتكلم معها، حتى تسقط الدموع من عينيك، كشهادة حية على خفة دمها التي أحتاجها، ما أن أسمع صوتها عبر الهاتف يأتيني، إلا ويمتلئ فضائي بالضحكات والأبتسامات ونوادر أساتذتنا في الجامعة، إنني أبتسم لمجرد أن تقول آلو، فلصوتها مذاق السكر البلدي، كما و أنها ذات إبتسامة واسعة مشرقة، يمكنها أن تصافح وجهك الصباحي، حينما تتكاسل في البحث عن رغوة صابون تغسل به ملامحك المتجعدة، وكانت هي ملاذي الذي أدفن فيه زغب الصباحات الأولى، وعجائن الفطائر التي نلتهمها في ممرات الجامعة على عجل..

أعادة مرة أخرى النظر إلى شاشة هاتفها الجوال لتتعرف على الوقت، إذ أن من النادر أن تجد شيعية تضع على معصم يدها ساعة، ولم أسأل أي واحدة منهن عن ذلك، لكني كنت أستغرب من عدم ارتدائهن الساعات، ويبدأ الجميع في المحاضرات السؤال عن الوقت، حينما يتأخر الأستاذ في إنهاء محاضرته، وخشيت أن اسألهن فأضع نفسي في ورطة السؤال والإجابة أيضاً..
قالت نور:
- حان الآن موعد دخول صلاة المغرب.
سألتها مستفسرة عن اختلاف الوقت معنا، ردت عليّ:
- يدخل موعد صلاتنا بعدكم بأكثر من عشر دقائق، والآن عليّ أن أذهب إلى المسجد.
- سأذهب معك، عليّ أن أصلي المغرب.
مشينا خطوات متلاصقة، في الجامعة التي تقع في مدينة عيسى، دخلنا المسجد، الذي قسم على هذا النحو، الحمامات في الطابق الأول، ومكان الصلاة في الطابق الثاني، هناك حمامات عادية ذات أبواب مغلقة، وحمامات مفتوحة بلا أبواب للوضوء، كنت لا أزال على طهارتي منذ أن صليت العصر، المكان مزدحم حتى أنك لا تجد متسع، لأن تحظى ببعض الخصوصية، نظرت إلى مكان الوضوء، الأنابيب المعدنية التي بدأت تصدأ، البلاط البيج ممتزجاً بقطع بنية اللون، شكرت الله في سري، أنها لم ترصف بقطع بيضاء، كما هو الحال في مستشفيات الحكومية، وإلا لشعرت بأضطراب في معدتي على الفور.
أستعدت نور للوضوء فآثرت حمل كتبها، حتى تنتهي من وضوءها، طلبت مني بخجل أن أضع كتبها فوق الرف الخشبي، الذي وضع على جانب الحمام، لكني لم أستمع إلى ما طلبته مني.
شعرت بالأشمئزاز، هل يمكن لي أن أعترف بذلك، لماذا أجامل الحقيقة التي تولدت بداخلي، هل برجوازيتي هي من دفعتني لأن أمر بهذا الشعور الطاغي، الذي كاد أن يخرج من فمي، كدت أستفرغ، لم أحب رائحة الحمامات، أو مشاهدة المياة المتدفقة، أمتلئ المكان على آخره بالطالبات من المذهب الشيعي، كن يصفعن وجوههن وأيديهن بالمآء، وهاهو ينسكب في كل مكان على الأرض، بأهمال شديد، حتى تصل إليك رائحتة النتنه، فبعضه لا يذهب إلى المجاري مباشرة، وإنما يظل طافحاً، على مستوى أعلى من الأرض، الأصوات تتعالى، اللهجة الثقيلة التي تميزهن، أحاديثهن المشتركة، ضحكاتهن العالية الخارجة من القلب، سؤال بعضهن البعض، النظرات الظامئة تحدجني بلا رحمة أو حتى غفران، وكنت أتعمد وضع الكلينكس على أنفي، لم أتحمل رائحة المكان ولا مشاهد الوضوء، أو حتى النظرات المدببة التي صوبت ليّ، رغم أننا سنكون في حضرة الله بعد دقائق، وسنتساوى في كل شيء، الضعف والقوة، الألم والفرح، الكراهية والحب، الفقر والغنى، المسئولية والإهمال، منا العذراء والمتزوجة، كلنا سنشبه بعض، ربما سنختلف في صيغة الدعاء، سأطلب أشياء وأبكي، وستطلب هي أشياء أخرى، ربما أملكها ولم أعد بحاجتها، وستكون هي في أمس الحاجة لها، ولا أعرف إذا ما كانت ستبكي،

لاحظت أن الفتيات يقمن بالوضوء بيد واحدة، خلعن أوشحتهن السوداء، وعلقنها على المشب الخشبي، الذي يقع خلف الحمامات مباشرة، ظهرت شعورهن بإهمال مضطرب، وكنت في حالة من التطلع، وأستراق النظر إلى هذه الكائنات البشرية المندفعة لحب الله، وهي تتهيأ للعبادة والصلاة، وقد بدت أكثر حرصاً منا نحن السنة، على إتمام فريضة الصلاة، رغم أنه سيكون هناك تأخير لدقائق عن المحاضرة، والتي ستبدأ في السادسة والنصف، لكن لم يشغلنهن الوقت الضائع، وإنما الأهم أن يكن بين يدي الله في الوقت ذاته.
صعدت السلالم ووصلت إلى بوابة المسجد الكبير، رأيت العشرات من الأحذية القديمة، والصنادل التي ملئت بالأتربة من أثر الطريق، ملقاه بإهمال عند باب المسجد الأخضر الزجاجي، تركت صندلي الذي بدا أكثرهم نظافة، مع أثر بسيط للتراب، نظراً لأن المسجد يقع على زاوية رمليه، في مكان بعيد بعض الشئ، حتى ما أن أخرج إلا وأجده في مكانه، سبقتني نور في الدخول، وأتخذت سريعاً مكاناً قصياً وبعيداً عني، وطلبت مني أن أتصرف كما أريد، وكما يحلو لي، سواءً رغبت في الصلاة، أو في إنتظارها، قلت لها وأنا أضغط على مفرداتي بقوة، إنني سأقوم بصلاة المغرب، لم أجادلها ولم أطلب منها أن تصلي بجانبي، لا أعرف ما لذي جعلها تندفع للصلاة بعيداً عني، نظرت إلى بقية الموجودات في المسجد، أردت أن أعرف السنية من الشيعية، ووجدت إن معظم الفتيات وضعن الترب أمامهن، مما يعني التأكيد على مذهبهن الشيعي، أنزويت في مكان معين من المسجد، وصليت بلا تربة، وضعت يدي عند منتصف صدري، وبدأت صلاتي، كل ما فعلته في ثواني، أثبت على تأكيد مذهبي الذي أنتمي له، هويتي، دمي، مستقبلي، قيمتي بالنسبة للبقية، صليت ورأسي تأخذني إلى أكثر من عالم، فلم أفهم إذا ما كان المسجد هي حسينية مصغرة، ودخلتها خطأ، أم أنا في مسجد عام.
أثناء الصلاة لاحظت بعض النظرات القاسية، التي استولت على وجوه البعض، ثمة إنتصارات وهزائم متتالية، يمكنك أن تقرأها جيداً من خلال الوجوه وإن لم تتكلم، ما أن انتهيت من صلاتي حتى وجدت أنهن يتغامزن عليّ، تجاهلت النظرات التي كان عليّ أن أقبلها، الأبتسامات التي تنفلت دون معاهدة، الوشوشات التي تصلني بوضوح وأتجاهلها، كالعادة وضعت يدي على رأسي، لأعيد ترتيب الطرحة السوداء على شعري، وتنبهت إلى أني لم أغطي شعري الطويل بشكل كامل، إذ أن نصف شعري بدا أنه لم تصله الطرحة السوداء، وهنا عرفت سر تغامز الفتاتين عليّ، وحينما عدلته شهقت بحسرة، وتساءلت لماذا لم تتبرع واحدة منهن بترتيب غطاء شعري، كما نفعل نحن السنة، لماذا تركا شعري ظاهراً، ولم يسعيا لتنبيهي على الأقل، أحسست بحسرة ووجع في قلبي، فلم أكن أريد ثمة أثم يوجز في قلبي عليهما.
تربعت على أرضية المسجد، السجاد العادي بلونه الأزرق والأخضر، المكعبات التي رسمت على السجاد، رائحة الآلة الكهربائية التي تنبعث منه بقوة، يبدو أن العامل الهندي قد قام بتنظيفة قبل ساعة من الآن، لازلت أستشعر حرارة المكنسة الكهربائية على سطح السجاد، تحسست سطحه بيدي، وأكتفيت بنظرة حادة إلى الفتاتين، اللاتي لم ترق لهن نظراتي المصوبة، تطلعت على الترب الموضوعة بكثرة، إما على الأرض أو داخل أدراج المكتبة الخشبية، التي حوت على الكثير من كتب القرآن، مددت يدي ووجدت كتيب صغير، فتحته وقرأت بتمعن الدعاء الأول الموجود به، تأثرت كثيراً من الابتهالات الجميلة، قلبت الكتيب الصغير بين يدي، وسألت جارتي التي أتخذت من المسجد مكان للدراسة، إذا ما كان يمكنني أن آخذ الكتيب معي، نظرت إليّ نظرة يملئها العجب، وكأني موعودة اليوم بالنظرات، وقالت بسخرية فظة: أظن أنه لا بأس في ذلك، أبتسمت لها، وشكرتها، وحاولت التطلع على بقية الكتيبات الموجودة، وحالما تصفحتهم، حتى أكتشفت أنهم كتيبات شيعية.
أنهت نور صلاتها وقدمت إليّ لتصحبني معها إلى الخارج، خلال حواري مع نور أنتبهت إلى أن الفتاتين اللاتي كلنا لي الحقد، دون معرفتهما بي، تهامستا بصوت مرتفع، كوني قمت بتعديل الغطاء على رأسي، quot;وكأن الله سيقبل صلاتها، أنها سنية الأفضل لها أن لا تصليquot;!
هذا بالضبط ماسمعته وبصوت شديد الوضوح، يا ترى ماذا نفرق عنهم أنهم يكفروننا، ونحن بدورنا نكفرهم، أنهم يتهموننا بالعداء ببشاعة لهم، ولو أعطيت الفرصة لهم، فلن يبخلوا عن التفنن في إيذاءنا، يشعرون بأننا مجرد منافقون، نركض وراء المال والقبيلة، أما هم فسيظلون مخلصين حتى أخر عمرهم لآل بيت الرسول، عدا ذلك فليذهب الجميع للجحيم.
حاولت نور أن تسحبني من ذراعي، حتى لا أتورط في خناقة لن تأتي بخير لا لي ولا لهما..
- اتركيهما.. لا يعنيان الأمر تحديداً لك!
- هل تريديني أن أصدق أنهما لا يعنيان ما قالتا لي..
- صدقيني.. وبعدين ما تلومينهم.. كل واحد حر في الكلام اللي يقوله..!!

لحقت صف الإحصاء في المبنى الخامس عشر، غرفة 115، تأخرت لأكثر من خمسة عشر دقيقة، كانت كافية لأن يتجاهل دخولي أستاذ المادة الأردني، ما أن أخترت الجلوس على كرسي يقع على الممر، حتى بدأت أحصي عدد الطلاب، أنهم على التقريب أربعين طالب وطالبة، معظمهم تخرج هذه السنة، يبدو أن الصف قد أمتلئ على آخره، لذا سأتمكن من أن أحصي الطلاب السّنة، أصبت بخيبة أمل كبيرة، إننا نكاد أن نكون خمس طالبات وطالبين فقط، فيما الباقي كانوا من المذهب الشيعي، أنهم يكسبون .. في صف الأحصاء يكسبون، لم يعودوا هم الأقلية، وإنما نحن أمامهم نصبح quot;ندرةquot;..