صدر مؤخرا للمعماري العراقي رفعة الجادرجي كتاب عنوانه: quot;الخلاصة التنفيذية في سببية وجدلية العمارةquot;، عن دار quot;مركز دراسات الوحدة العربيةquot; في بيروت. وقد سمح لنا مشكورا الدكتور رفعة الجادرجي إعادة نشر مقدمته للكتاب.
1. مقدمة
نشرت هذه المجموعة من المقالات بين عامي 1995 و 2006. كان البعض منها بدعوة من قبل الناشر، و الأخرى دراسات هيئتها بهدف الاشتراك في ندوات و مؤتمرات عن
اقرأ أيضا: |
العمارة. كنت أهيئها لتوضيح الفكرة بالنسبة اليّ، و من ثم اعرض الموضوع عن طريق تخطيط بياني، و ليس كقراءة للنص. محتويات الكتاب: مقدمة: جدلية العلاقة بين التاريخ الاجتماعي و التراث العمراني ... بقلم د. مسعود ضاهر الفصل الأول: جدوى رصيد السلف في تكوين المعيش المعاصر الفصل الثاني: الهوية و الخصوصية في الفن و العمارة الفصل الثالث: عن المدن و مساحة الفنون ... ثانية الفصل الرابع: المعمار والمجتمع الفصل الخامس: التقانة الاجتماعية و بيئة الحرب الفصل السادس: إشكالية العمارة و التنظير البنيوي الفصل السابع: المسؤولية الاجتماعية لدور المعمار، أو المعمار المسؤول الفصل التاسع: دراسة مقارنة لعمارة الحضارة العربية الإسلامية الفصل العاشر: رؤيا لمفهومي الجمال و القبح الفصل الحادي عشر: مقارنة بين ثلاثة أنماط فكرية: الأمثال، واللاهوت، والفلسفة خلاصة
إن ما يجمع هذه المقالات، على رغم الفترة الزمنية، في أنها تنبني على مفهوم لبنيوية العمارة. أبيّن هنا في هذه الدراسة التوضيحية عموميات المفاهيم التي وردت فيها، و تتركز على حركة الدورة الإنتاجية، و تطور صيغها التي تحصل بسبب تفاعل جدلي لثلاثة مستقطبات، و هي:
الحاجة الاجتماعية و التكنولوجية الاجتماعية، و يحرك التفاعل بينهما المستقطب الثالث و هو الفرد المفكر و الفاعل الذي يمثل المجتمع. و المجتمع هو الذي يعي بالحاجة إلى عمارة ما، فيقدم على ابتكارها و تصنيعها، و من ثم تشغيلها كأداة بهدف إرضاء الحاجة المعينة.
أما السببية، فهي الترابط بين الحدث و النتيجة، بين الفعل و المحصلة، و المسبِب هو ذلك الذي يقرر و يحتم و يكيّف المحصلة، فيما تكون إرادة الفرد و قدراته الابتكارية و مخيلته هي المسبِب، فيكون المسبَب هي المصنَّعات.
و المصنَّعات هي تلك الكيانات المادية المحصلة للدورة الإنتاجية، بما في ذلك العمارة و العربة و الملابس التي تسخر من قبل الفرد و الجماعة بهدف إرضاء حاجة ما.
لا أعتقد أن هناك ضرورة لبيان التنوع و الاختلاف في مفاهيم الجدلية التي ظهرت منذ هرقليطس مروراً بأفلاطون و جوهان غوتيلب فيخته و هيغل و ماركس و كثيرين من الفلاسفة المحدثين، و بخاصة بعد منتصف القرن العشرين، لذا سأكتفي بالإشارة إلى أرنالد هاوزر (1) في مجال تاريخ الفن و الفلسفة، و إدورد ولسن (2) في مجال السوسيوبيولوجية (3).
و بما أن قاعدة جميع المقالات هي مفهوم جدلي و سببي، ضمن مفهوم عام لبنيوية ظاهرة العمارة، فقد ارتأيت أن أعرض هنا ما تحتوي هذه المقالات من تنظير، و ما تشير إليه
مقدمة
أولاً: التعرف على بنيوية العمارة
ثانياً: مقومات المعاصرة
ثالثاً: التشخص و الفردانية
رابعاً: المركزية الغربية
خامساً: موقف الفكر العربي في مجال العمارة من المركزية الأوروبية
سادساً: الفصل و الوصل
سابعاً: حركة الفصل و الوصل
ثامناً: رصيد السلف و المعالم التراثية
تاسعاً: أهمية استحداث الهوية المعاصرة
عاشراً: خصوصية المعاصرة
حادي عشر: المقومات العالمية و أصناف العموميات
مقدمة
أولاً: مقومات المعاصرة
ثانياً: التذاوت المتبادل
ثالثاً: توازن إرضاء الحاجات
رابعاً: سيميائية الإنتاج
خامساً: أصناف المتعلمين و ضمير المجتمع
أولاً: الناقد و دوره في المجتمع
ثانياً: التغذية الاسترجاعية (Feedback)
ثالثاً: البنيوية و البنى
رابعاً: مفهوم البنيوية
خامساً: مفهوم الحاجة و أصنافها
سادساً: الحاجة الاستطيقية
سابعاً: آليات إرضاء الحاجة الاستطيقية
ثامناً: المعرفة و القيم في الدورة الإنتاجية
تاسعاً: الاختصاص
عاشراً: سيميائية بنيوية العمارة
حادي عشر: مصطلح الرمزية
ثاني عشر: تفاعل الأقطاب الجدلي
ثالث عشر: الحوار في الدورة الإنتاجية
رابع عشر: خصائص المادة و صفاتها
خامس عشر: تلوث البيئة المعمّرة
سادس عشر: السبريانية
مقدمة
أولاً: تكوين المجتمع و الفرد و الجماعة
ثانياً: النقص في تكوين بايولوجية الفرد و ظهور الحاجة اللاغريزية
ثالثاً: توليد المُصنَّع و ظهور الإنتاج اللاغريزي
رابعاً: أصناف الحاجة الاجتماعية
خامساً: الدورة الإنتاجية و دور الفرد فيها
سادساً: ظهور الاختصاص
سابعاً: سيميائية المراحل الانتاجية
ثامناً: مراحل تطور الإنتاج
تاسعاً: عصر النهضة
عاشراً: الإنتاج الممكنن و المعاصرة
حادي عشر: العلوم المعاصرة و الاختصاص
ثاني عشر: المعمار و التقني
ثالث عشر: الحداثة
رابع عشر: ما بعد الحداثة
خلاصة
أولاً: صفات وجودية الإنسان
ثانياً: أداة التعامل مع البيئة
ثالثاً: التقانة الاجتماعية
رابعاً: المطلب الاجتماعي
خامساً: العلاقة المتبادلة بين المطلب الاجتماعي و التقانة الاجتماعية
سادساً: أصناف المطلب الاجتماعي و توازنهاسابعاً: مقومات التقانة
ثامناً: الدورة الإنتاجية
تاسعاً: تركيب سيرورة الاتصال
عاشراً: إفساد سيرورات التذاوت يُفسد التضامن الاجتماعي
حادي عشر: خفة حدة فساد الإيصال في المجتمع التقليدي
ثاني عشر: الإنتاج المعاصر و ظهور التنحي
ثالث عشر: الحرب الأهلية و خلل تقانة الإيصال
رابع عشر: مراحل آليات تلوث العمارة
خلاصة
أولاً: التنظير البنيوي للعمارة
ثانياً: وظيفة العمارة
ثالثاً: بنيوية العمارة Structure))
رابعاً: الإنتاج التقليدي و المعاصر
خامساً: الحداثة
سادساً: ما بعد الحداثة
سابعاً: العالمية و العولمة ثامناً: إفساد العمارة و تلوثها
تاسعاً: الحاجة إلى تنظير بنيوي
أولاً: بنيوية العمارة
ثانياً: العمارة التقليدية
ثالثاً: المعاصرة
رابعاً: الحداثة
خامساً: العالمية و العولمة
خلاصة
الفصل الثامن: العمارة المقدسة
أولاً: المقدس و هوية الفرد
ثانياً: مقومات هوية الفرد
ثالثاً: ظهور تصور laquo;الروحraquo; و الإنسان النيناندرتالي
رابعاً: الدورة الإنتاجية و متطلبات الحاجة الرمزية
خامساً: أصناف الحاجة
سادساً: مصطلح الرمز
سابعاً: مقومات الهوية
ثامناً: الحاجة الرمزية
تاسعاً: صفة المقدس
عاشراً: ظهور مفهوم المقدس من السحر إلى الدين
حادي عشر: توليد شكلية المقدس للوجود المادي
ثاني عشر: نقلة الفكر إلى مادة
مقدمة
أولاً: الحاجة عند الإنسان
ثانياً: الدورة الإنتاجية - مراحل الدورة الإنتاجية، آلياتها و مقوماتها
ثالثاً: تطور القدرات الاستطيقية في العالم الإسلامي
رابعاً: النقلة إلى الحداثة
خامساً: النقلة في العمارة
مقدمة
أولاً: الإنتاج
ثانياً: صيغ الإنتاج في حضارة الإنسان
ثالثاً: الحاجة الاجتماعية Social Need))
رابعاً: الحاجة الاستطيقية (Aesthetic need)
أولاً: الأنماط الفكرية
ثانياً: الأمثال، صفاتها ووظائفها
ثالثاً: ظهور نمط الفكر اللاهوتي
رابعاً: ظهور نمط الفكر الفلسفي
خامساً: مقارنة بين الأنماط الفكرية الثلاثة
في مجالات متعددة في تفهم العمارة، أي اختزال المفاهيم التي جاءت بها، بدلا من اختزل مواضيعها بحسب ظرف تقديمها. و سيتضح من سياق عرض هذا المختزل الصيغة التي سخرت فيها مفهوم الجدلية، مقارنة مع صيغها المتعددة التي ظهرت في تاريخ تطورها.
لقد انبنت جميع المقالات على مفهوم لبنيوية العمارة، و هو مفهوم وضعت مبادئه الأولية في عام 1950، و أقدمت منذ ذلك الوقت على توسيع و تطوير هذا المفهوم في مجالاته النظرية و التطبيقية، أي في مجال ممارسة العمارة. و بمرور الزمن، أصبحت هيكلية البنيوية و الحركة الجدلية، كما يلي: لكل ظاهرة، سواء أكانت جامدة أم حياتية، فكرية أم مادية، لا بد لها من مقومات قائمة في الوجود، وإلا لما وجدت. و كل ظاهرة، لا بد من أن تكون في حالة حركة و تغيير مستمر، سواء كان التغيير ملموسا أم لا، و لذا فهناك علاقات من تفاعل و تفعيل بين مقوماتها. و لأن هناك تفاعل، فلا بد من أن تستقطب هذه المقومات بمقررات متضادة و متفاعلة في سيرورات من تفعيل جدلي. و فيما اعتمد مفهوم الجدلية بعامة مستقطبين تحرك سيرورات تفاعلها، فقد اعتمدت ثلاثة مستقطبات.
تتجمع في مجال ظاهرة العمارة و المصنعات بعامة مقومات تستقطب، فتؤلف ثلاثة مقررات: الحاجة الاجتماعية التي تتضمن الحاجة النفعية، والحاجة الرمزية، و الحاجة الاستطيقية. كل من هذه الحاجات متأصلة في وجودية معيش الإنسان، كما إنها متأصلة في سيكولوجيته. و في المقابل، هناك مقرر التكنولوجية الاجتماعية الذي يتضمن المادة الخام، و الطاقة المسخرة في تحريك الدورة الإنتاجية. إن محرك سيرورة الجدلية هو المستقطب الثالث، و هو الفرد كإرادة متضمنة المعرفة و الأوهام و المزاج و القدرات الابتكارية. و تحقق هذه المستقطبات تحريك الدورة الإنتاجية التي تحقق إرضاء الحاجة.
و بما أن حركة الدورة الإنتاجية هي التفاعل بين المقررات الثلاثة، فيصبح المحتوى Content، بكونه مطلباً، أحد مقومات الحاجة الاجتماعية، فيصبح الشكل في هذا التنظير عبارة عن التعبير المادي للمطلب/المحتوى. و لذا السجال في تاريخ التنظير الذي يفاضل أهمية المحتوى مقابل الشكل أو العكس، هو تنظير ظهر منذ العصر الكلاسيكي الإغريقي، و يؤلف قاعدة السجال القائم بين الرومانتيكية و الواقعية، و مختلف تسمياتها و صيغها التي اشتدت صيغها السياسية في منتصف القرن الماضي، بين laquo;المنظر الاشتراكيraquo; الذي يفاضل المحتوى، في مقابل laquo;المنظر الغربيraquo; الذي يفاضل الشكل، سجالاً لا ينبني على قاعدة جدلية بنيوية مادية، بل مثالية، على الرغم من الادعاءات لخلاف ذلك، لأن الخلاف الحقيقي بين الطرفين في السجال ليس المحتوى مقابل الشكل و أيهما أفضل، و إنما في الواقع هو حول الصيغ المتعددة للمحتوى، أي الوظائف المتعددة لإرضاء الحاجات المتعددة و المتباينة التي تظهر في المجتمع المركب. و لذا جاء واقع الخلاف حول الصيغ المتعددة لإظهار المحتوى كشكل بكونه محصلة للدورة الإنتاجية (4)، من غير أن يعي هذا السجال واقع جدلية الحركة ضمن الدورة الإنتاجية و موقع الشكل فيها.
و من هنا نؤكد بأن شكل المصنّع ما هو إلا محصلة للتفاعل الحاصل بين المقررات الفعالة ضمن الحركة الجدلية و واقعية الدورة الإنتاجية، و التنظير هنا في هذه المقالات يستند الى هذه القاعدة.
2.البنى و البنيوية
إن غالب ما كتب عن تاريخ الفن و العمارة و التنظير فيهما، جاء مهتما أساساً في التكوين الشكلي Form للمُصنَّعات و مقتصراً عليها، و هو وصف يركز على شكلية الظاهرة في حالاتها الواقعية الملموسة بكونها كتلاً لها جسم مادي، أي البنى Construct، و البنية كما هي الكيان المادي القائم في الزمان و المكان.
إن البنية هي مادة كأداة تُصنَّع و تُسخَّر لتؤدي وظيفة محددة. و من هنا يتعامل معها الفكر و يقف منها موقفاً كمؤرخ مدوّن لواقعية وجودها، و كمنظر لتصنيف و تقييم أنماط أشكالها القائمة أو السائدة في الزمان و المكان.
أما النهج البنيوي Structure، فيسعى إلى إجراء استقراءات للوقائع التاريخية المتعددة و لشكلية عدة بنى'، و لا يتحدد بزمان أو بمكان. تتركز وظيفة هذا التنظير البنيوي، شأنه شأن التنظير البنيوي في المجالات الاجتماعية و الطبيعية الأخرى، في تهيئة مفاهيم معممة لبنيوية المُصنَّعات، فهو مفهوم يجرد شكليات هذه المُصنَّعات من تاريخها الخاص، و من خصوصيات ظروفها الاجتماعية، و يسعى إلى التعرف على الظاهرة، و إلى مقوماتها المادية و الفكرية، كأنماط و ليس كوجود مادي في الزمان و المكان.
و هنا مصدر أهمية بيان العلاقة بين البنية Construct و البنيوية Structure و ترابطهما الجدلي: عندما تكون البنية هي واقعية الوجود، المادي و المعنوي، في الزمان و المكان للمقومات الفكرية و المادية، و محصلتها هو كيان قائم و مقترن بوظيفة اجتماعية. و تؤلف واقعية البنيوية، من جهة أخرى، تلك الحالات من معممات و أنماط للمتكررات و للمتشابهات لمختلف المقومات و الحركات ــ الثوابت و الإطراديات ــ التي لا تتحدد بزمان أو بمكان. و التنظير البنيوي هو، إذاً، المعرفة لهذه الثوابت و الإطراديات، سواء كانت ظاهرية أو لاملموسة، و التي تنظم بموجب مفاهيم عقلانية واضحة. أدى التطور الهائل في علوم بنيويات الكثير من الظواهر، منذ القرن السابع عشر، من قبل علماء كغاليلو و نيوتن و دارون، إذ اكتشفوا الكثير من بنيويات الظواهر ضمن علوم الفيزياء و الكيمياء و الحياتية و الطبية و اللسانية و النفسية. إلا أن ظاهرة العمارة بقيت، و معها ظاهرة الفن بعامة، تفتقر إلى مفهوم بنيوي، إذ لم يزل ينحصر غالب التنظير و التدوين في العمارة، بما في ذلك في المجال الأكاديمي، و هي محتبس غالبه في بردمية Paradigm)) مسألة التكوين الشكلي. و يركز جمّ اهتمامه في مقارنة الشكل، و تدوين تاريخ ظهور طرز الأشكال، و وصف معالمها و انتشارها و مقارناتها. إن الشكل في هذا التنظير هو كيان يعرض غالباً كما لو كان خارج الدورة الإنتاجية، و يهمل الإشارة إليه، و ليس بكونه محصلة لها، كما يعرض في صيغة المثالثة و اللاهوتية بكونه منزّلاً أو ملهماً، أي مثالاً أعلى و خارج قوى إرادة البشر ـ كما في التنظير الأفلاطوني و اللاهوتي.
تؤلف العمارة مقوماً متأصلا في سلوكيات الفرد مع البيئة الاجتماعية، المتمثلة بالدار و المعبد و المخزن و غيرها من بنى' أخرى، أي إنها أساس في تفعيل القدرات الحسية البصرية و الوجدانية للفرد في معيشه اليومي، إضافة إلى وظيفتها كأداة ترضي الحاجة النفعية. إنها أداة فعالة في الحوار العاطفي و الوئامي في تكوين العاطفة الجمعية للمجتمع، و في صياغة همومه عامة. و بقدر ما يُسخِر فكر المجتمع العمارة في إفعال حوار جمعي و صحي و شفاف بين مختلف أفراد الجماعة، بقدر ما تكون أداة فعالة في تحقيق تماسك اجتماعي صالح. لذا هي أداة ترضي حاجة متأصلة في تكوين كيان الإنسان الجسدي و الفكري، إن كانوا أفراداً أو جماعات. و لذا فإن التنظير الموضوعي ليس ترفاً في ظاهرة المصنّعات، العمارة و الفنون، و إنما ضرورة لبناء مجتمع يستمتع بالفنون، و يواكب تطوراته و تنوعاته، و هو يؤمن لنفسه تماسكاً اجتماعياً صالحاً.
3. مركب الحاجة
أشرنا الى أن مقرر الحاجة في التفاعل الجدلي يتكون أو يظهر في ثلاثة أصناف، و هي:
ـ الحاجة النفعية
ترضي الحاجة النفعية المتطلبات الأساسية و القاعدية في تأمين الوجود، و المتمثلة بمُصنَّعات كالملجأ و المخزن و النقل و الحماية. و يتجسد هذا في شكلية وظيفة الدار و القلعة و العربة و السيف و الكرسي المريح.
ـ الحاجة الرمزية
ترضي الحاجة الرمزية متطلبات هوية الفرد و المجموعة، و ترضي حاجة الذات الواعية بذاتها لتؤمن موقعاً مناسباً لذاتها بين مختلف الأشياء. و تتجسد هذه العلاقة عن طريق تصنيع أجسام مادية ملموسة تحمل معالم تعبر عن هوية الذات. يتمثل هذا التعبير بفخامة الدار أو القصر و رقي شكلياته، و في اللباس الإثني للفرد، و طرز المعابد و ضخامتها.
ـ الحاجة الاستطيقية
هناك ظرفان سببا ظهور الحاجة الاستطيقية في سيكولوجية الإنسان، و هما البيولوجية و الإنتاجية. و مع تطور دماغ الإنسان العاقل ظهر تناقض تأصل و دام في سيكولوجيته. من جهة تطلب التجوال في بيئات متنوعة الفطنة و الانتباه الدائمي، و تدريب الفكر على القرار السريع، و إلا عجز عن تأمين البقاء. و قد أصبح تكرار التعامل بالنسبة إليه تعاملاً من دون الوقوف على معرفة مستجدة، و هي حالة تؤدي إلى الملل، فقفزت بيولوجية قدرات الاصطفاء الطبيعي التي ورثها من الإنسانيات، و ابتكرت قدرات ابتكار التنوع في التعامل مع متطلبات المعيش بعامة، بما في ذلك المصنَّعات. و بهذا تمكنت سيكولوجية الإنسان من تخفيف حدة ملل وجودها.
من جهة أخرى، بقدر ما أخذ عقل الإنسان يتأمل بواقعية وجود ذاته، أخذت هذه الذات المتأملة بوجودها تعي بأن حقيقة بقائها ليس أكثر من صدفة بيولوجية، أي أن بقاءها لا معنى له، سواء أكان هذا وعياً واضحاً أم ضمنياً.
لذا ظهرت و تطورت و نضجت حاجة مساءلة عبثية الوجود، فظهر في وعي سيكولوجية الإنسان منحى يهدف إلى منح قيمة للوجود عن طريق الاستمتاع، و هذا بعد أن يتحقق الإرضاء، بالقدر المناسب. يؤمن البقاء عن طريق إرضاء حاجتين: النفعية و الرمزية، سواء في الواقع أو مفترض في المخيلة، فيتحول عندئذ الوجود في سيكولوجية الذات، من حالة الاكتفاء بـ laquo;السرورraquo; إلى ابتكار وجود laquo;ممتعraquo;، فيتجاوز بذلك واقع عبث الوجود.
4. الدورة الإنتاجية
4.1 ليس في قدرة الإنسان العاقل المعيش من دون تسخير مصنَّعات كأداة إرضاء الحاجة، و لذا أصبح الإنتاج بالصيغة التي يمارسها مجتمع الإنسان ضرورة بيولوجية كلجرية Culture.
4.2 إن آلية تفعيل الدورة الإنتاجية، و تحقيق المصنَّعات للوجود هي تغيير حالة مادة خام، منتزعة من الطبيعية، إلى شكل المصنَّع، و ذلك عن طريق معرفة موروثة و مكتسبة اجتماعياً، و مبتكرة من خلال التعامل نفسه. و يتحقق هذا التعامل حينما تستقطب مقوّمات متعددة بثلاثة مقررات.
هناك نوعين للقوى التي تحرك الدورة الإنتاجية: أولاً، التفاعل بين قدرتين، قدرة الابتكار و الذاكرة. و هما قدرتان ترث بيولوجياً، و تبقى كامنة سابتة، و لا تؤلف سلوكيات معينة، و إنما إمكان محتمل في انتظار تفعيل. و لا تتحرك ما لم تنشط. لذا يقدم المجتمع و يهيئ الظرف المناسب لتفعيل هذه القدرات التي يرثها الفرد المعيّن، و بقدر ما يتمكن من ذلك يتقدم الإنتاج، و عكس هذا بقدر ما يعجز، يعجز و يفسد، و يخرج عن مجال المنافسة. و في تداخل مع القوى المحركة الأولى هناك التفاعل الجدلي بين المقررات الثلاثة التي تؤلف القوى المحركة الثانية في تفعيل الدورة الإنتاجية.
و من بين أهم ما تشير إليه بنيوية المصنّعات هو أن الدورة الإنتاجية تتضمن أربع مراحل متعاقبة بالضرورة. و هي كما يلي:
ـ المرحلة الرؤيوية: يعي الفرد بحاجة ما، أو يبتكرها، مع ابتكار المعيش معها و بواسطتها، و يبتكر في المخيلة شكلاً لأداة إرضائها، و يرسل صورتها إلى مرحلة التصنيع.
ـ مرحلة التصنيع: تستلم صورة المصنَّع، و تفاعل المادة الخام، و تحولها إلى شكل المصنَّع، فيظهر هذا المصنَّع للوجود.
ـ مرحلة التلقي: يستلم المتلقي المصنَّع و يشغله في وظيفة إرضاء الحاجة.
ـ مرحلة التغذية الاسترجاعية: بعد أن يمارس المتلقي تشغيل المصنَّع في وظيفة إرضاء الحاجة، يرسل تجربة جدوى المصنَّع كأداة إرضاء للحاجة إلى المرحلة الرؤيوية في الدورة الإنتاجية اللاحقة، فترسل التغذية الاسترجاعية معلومات إلى المرحلة الرؤيوية تبيّن سواء كان الكرسي المصنع مريحاً أو عكس ذلك.
و تشير بنيوية العمارة بأنه ظهر في تاريخ تطور الإنتاج في حضارة الإنسان مرحلتان من العلاقة بين الفكر و المخيلة في مقابل التغيّر الحاصل في المادة الخام: تؤلف المرحلة الأولى قاعدة الإنتاج التقليدي الذي ينبني على العلاقة السبريانية Cybernetic interaction، و ذلك منذ ظهور الإنسان العاقل، و لغاية نهاية القرن الثامن عشر. و ظهرت المرحلة الثانية مع ابتكار الإنتاج الممكنن، و مع تقدم استعمالها بهذا القدر أخذت تتعطل هذه العلاقة، و تخرج عن الدورة الإنتاجية.
السبريانية، هي تلك العلاقة الحسية المباشرة و الملموسة بين حركة يد الحرفي و الفكر المحرك لها من جهة، و التحول الحاصل في المادة الخام، و التأمل في هذا التحول خلال أنيات التوقف الميكري Micro المتعاقب للحركة من جهة أخرى، فيقيم الفكر محصلة الحركة و يعيد استراتيجية سيرورتها اللاحقة.
و جاءت الماكينة لتأخذ موقع الوسيط بين حركة التحول و حسية اليد. و لذا أحدثت المكننة تحولاً جذرياً في تاريخ الإنتاج، و في العلاقة مع ابتكار الشكل. لقد عجز الكثير عن التنظير في تقدير أهمية هذا التحول، بمعنى، أن غالب الحس الذي يتعيّن أن يتضمنه شكل المصنَّع انتقل من مرحلة التصنيع إلى مرحلة الرؤيوي، أي أصبح ضمن وظيفة المعمار المعاصر. أدى هذا التحول في موقع توليد الحسّ إلى إحداث قطع جوهري في سيرورة تطور تاريخ الشكل، و تغيير جذري في ابتكار شكل المصنع: الممكنن عن ذلك التقليدي اليدوي. لقد أخذ يؤلف عجزاً في تفهم هذا التغيير الجذري في العلاقة بين التصنيع الممكنن عن ذلك اليدوي الذي أصبح من بين أهم مسببات توليد أشكال خرقاء للمصنّعات، وأدى تبعاً لذلك إلى تلوث البيئة المعمّرة.
5. سيميائية الدورة الإنتاجية
إن وظيفة سيرورة الدورة الإنتاجية هي تحويل المادة الخام إلى شكل المصنَّع، كما أن وظيفتها الأخرى الأساسية هي في إيصال المعلومات بين المراحل الأربع للدورة. إن أي عجز في هذا الإيصال سيؤدي إلى إفساد الدورة. و بما أن هناك ثلاثة أصناف من الحاجة، فتبعاً لها هناك ثلاثة أصناف من الإيصال كل منها يقوم بوظيفة إيصال المعلومات التي تخصّ الصنف المعين من الحاجة: النفعية و الرمزية و الاستطيقية. و تتخصص المعلومات التي تنقل من مرحلة الى أخرى بالعلاقة المعرفية المتطلبة إيصالها بين مراحل الإنتاج.
هناك في العلاقات السيميائية في مجتمع الإنسان نوعان من الإيصال:
1- laquo;الإيصال الزائلraquo;، و هو الذي يسخر واسطة إيصال زائلة، البصرية و الصوتية و الشمّية، متمثلة بالنطق و الغناء و الرقص و المايم (5).
2- laquo;الإيصال الباقيraquo;، و هو الذي يسخر واسطة إيصال باقية نسبياً، متمثلة بالمعالم المادية للمصنَّعات التي تمتد قدراتها الاتصالية في الزمن. تستند كفاءة وظيفة المصنع كأداة إرضاء الحاجة الى كفاءة إيصال المعلومات. فهي دائماً نوعان: الأول صنف المعلوماتية، تتمثل بمعلومات كيفية الجلوس على كرسي، و قيادة عربة، و استعمال المطرقة. و الثاني صنف الحس الذي يحمل الناحية العاطفية و التعاطف و الفنتزة، ما يدل على أن سيميائية العمارة شديدة التعقيد، لأن أدوات و معالم الإيصال هي أدوات تبتكر في ظرف متطلبات و زمن الحاجة، و غالباً ما تسخر المعالم نفسها للدلالة على أكثر من معنى واحد معيّن. و يؤدي هذا أحياناً إلى الالتباس و الغموض. إن توظيف المعالم بدلالة معنى معيّن هو ابتكار اعتباطي، و تصبح المعالم دلالة فعالة فقط حين نقلها إلى المرجعية المشتركة. و لذا تتعرض آليات الإيصال السيميائي إلى عقبات و عوائق و صعوبات في تحقيق إيصال مناسب بين مختلف المؤدين في مختلف مراحل الإنتاج. مع ذلك، تمكن البشر من تحقيق بقدر مناسب إيصال حقق التطور الحضاري. و حينما تعجز حضارة ما عن ذلك، فستخرج عن مجال المنافسة، و تتقدم حضارة غيرها لتنقل الحضارة عامة إلى مرحلة أخرى من التقدم. و للسبب ذاته يتضمن هذا التقدم الحضاري ردات تؤخر التطور أحياناً، و يؤدي أحياناً أخرى إلى زوال حضارات من مسيرة التقدم الحضاري. و هذا هو تاريخ تطور طرز العمارة في حضارة الإنسان.
تظهر الطرز و تنمو و تنضج، ثم تنحط و تستبدل بغيرها، و أحياناً تحتبس البعض منها في بردميات طرزية/ كلجرية، فتستمر في الزمن بصيغ تقليدية أو تفتقر إلى الحسّ و الابتكار.
5.1 الفائض
يؤلف الفائض في الإنتاج الذي ظهر بخاصة مع الإنتاج الصناعي وفرة في كمّ قوت المعيش، فيهيأ ظرف تعطيل ضرورة تفعيل القدرات الابتكارية، ذلك في ابتكار المعالم المناسبة لتحقيق إرضاء الحاجة، أو إيصال مناسب لها. و هو ما يهيئ ظرفاً في إفساد التوازن بين إرضاء الحاجة و استنفاده الطاقة، أي هدرها، و يعجز الإنتاج بهذا القدر عن تحقيق صفة الإبتمال المناسب، فيحصل ظرف إخراج الإنتاج من مجال المنافسة. هذا ما يفسر ظهور الأشكال الخرقاء التي ظهرت مع الإنتاج الممكنن. وهذا لا يعني أبداً أن زيادة الفائض و المكننة يسببان تلقائياً هذا العجز، لأن السبب الحقيقي لهذا العجز في سيميائية الإنتاج هو عجز المجتمع في تهيئة الظرف المناسب لحرية القدرات الابتكارية و تفعيلها.
5.2 الاغتراب/التنحي
يؤدي الاغتراب ضمن الدورة الإنتاجية إلى تنحّي الذات الواعية بذاتها إلى نكران دور الفرد في الدورة الإنتاجية، سواء أكان هذا النكران يُفرض على الذات من خارجها، و الذات واعية به، فيؤلف حالة استلاب للذات، أو يكون نكراناً ذاتياً لاواعياً، فيؤلف حالة انسلاخ للذات.
كان غالب أفراد المجتمع يتمتعون في المجتمع التقليدي، ما قبل المعاصرة و الإنتاجي الصناعي، بصيغ إيصال مناسبة بين مراحل الإنتاج، و لذا لا يتعرضون إلى حالات من عجز في الإيصال، أو استلاب الذات من حقها في التمتع بإيصال مناسب. و لكن مع المعاصرة، و ظهور الاختصاص، و من ثم المكننة، كان الحرفي أول من استلِب من ممارسة إيصال مناسب، كما استلِب المجتمع بعامة مع المكننة من تفعيل إيصال مناسب، و هو لا يدري أيهما استلخ من قدرات الإيصال.
تحصل هذه الحالة بقدر ما يصبح غالب أفراد المجتمع يجهلون ما يجري في مراحل الرؤيوية و التصنيع، فيجابه المتلقون المصنَّعات و يسخرونها في إرضاء حاجاتهم، من غير معرفة مناسبة لصيغ و لتكنولوجيات الرؤيوية و التصنيع. وتتحول علاقات الكثير من الناس مع المصنّعات، فتتصف بعلاقات فيتيشية (6)، و بخاصة في مجال الانجراف بحركات و دورات الفاشن (7).
5.3 التذاوت و التذاوت المتبادل
تأخذ الذات في الدورة الإنتاجية موقعين متذاوتين مختلفين: أولاً، التذاوت الداخلي الذي يحصل في الحوار الذاتي بين laquo;الأناraquo;، و في المقابل laquo;الأنيraquo;، و تمتد هذه الصيغة من التذاوت في مختلف مراحل الإنتاج، حينما تحاور الذات ذاتها لتقرّر موقفاً من موقعها في المرحلة المعيّنة. و يتمثل هذا التذاوت في أشد حالاته في المرحلة الرؤيوية حينما يقدم الحرفي أو المعمار أو الفنان على ابتكار شكل المصنَّع، إذ يتضمن التذاوت الداخلي الشك و مساءلة الذات ضمن سيرورات مخاضة مراحل الابتكار.
و الموقع الثاني الذي تأخذه الذات في الدورة الإنتاجية هو التذاوت المتبادل الخارجي، و هو laquo;الأنا/ النحنraquo; في مقابل laquo;الهو/الهمraquo;. فهنا تتداور الذات في مواقع متبادلة من laquo;الذات الأنا و النحن الفاعلةraquo; و إلى laquo;الذات الأني أو النحن المفعول بهاraquo;. و يحصل هذا التذاوت في مختلف حالات الاتصال بين مختلف الأفراد، و في مختلف مراحل الدورة الإنتاجية، حينما يكون الفرد تارة المرسِل، و تارة أخرى المرسَل إليه.
5.4 الخلل في الدورة الإنتاجية
ما إن يحصل من خلل في الدورة الإنتاجية، يتمثل: عجز تشفير المعالم بهدف إيصال مناسب، أو عجز إيصال مناسب بين مراحل الإنتاج، و هو عجز تحقيق توازن بين إرضاء أصناف الحاجة، و عجز تحقيق القدر المناسب من صفة الإبتمال.
و بسبب وجود سدادات و عوارض معلوماتية و حسية بين مراحل الإنتاج، يعجز و يفسد التذاوت و الإيصال بهذا القدر في الدورة الإنتاجية. و بما أن الإنتاج هو قاعدة تأمين قوت المجتمع و إدامته، تتعطل قدرات قادة المجتمع على إدارة سليمة، و تتعرض تبعاً لذلك القدرات الحوارية و الاتصالية و التذاوتية التي تؤلف مادة إيصال الضمير الاجتماعي، و قاعدة الدورة الإنتاجية، و تبعاً لذلك التماسك الاجتماعي الصالح.
5.5 الناقد
عندما أخذت الدورة الإنتاجية تبتكر أشكالاً جديدة للمصنَّعات في المجتمع المعاصر، و بقدر ما أصبح المجتمع يفتقد مرجعية مشتركة عامة، يفقد مجتمع مثل هذا المعرفة المناسبة التي تؤهله لتفكيك معاني معالم المصنَّعات، و بخاصة منها التي تهتم بالدلالات الحسية الاستطيقية كالفنية و المعمارية. و هنا يظهر دور الناقد و أهميته في المجتمع المعاصر، فيقدم الناقد و يقوم بوظيفة المثقِف و المعلِم و المدرِب، و ذلك بقدر ما تكون المعرفة التي يتمتع بها الناقد تفوق إلمام الفرد المتلقي العادي، فيعرض الناقد مميزات المعالم الجديدة و إمكانات تسخيرها في إرضاء الحاجة.
لذا للناقد وظيفة أساسية في المجتمع المعاصر متأتية من ظهور مفاهيم جديدة تتطلب إيصال هذه المعرفة، و تهيئة للمجتمع مرجعية جديدة فعالة مشتركة، إلا أنه بقدر ما يكون الناقد بمعزل عن تطور سيرورات التصنيع، و تطور ابتكار أشكال المعالم، يفقد بهذا القدر وظيفته الاجتماعية، كرقيب جيد لكفاءة المصنعات، و كموجه مجدي للمتلقي العادي.
5.6 الجدلية و السببية
تتضمن داينمية الاتصال السيميائي ضمن بنيوية العمارة حركات متعددة، و هي:
ـ من فكر إلى فكر ـ من رؤيوي إلى مصنِّع.
ـ و من فكر إلى مادة جامدة ـ من المصنِّع إلى المادة الخام و تبعاً لذلك المصنَّع.
ـ و من مادة جامدة إلى فكر ـ المصنَّع إلى المتلقي.
ـ و من فكر إلى فكر ـ المتلقي إلى الرؤيوي.
و كل هذه الحركة السيميائية هي في توافق مع المراحل الأربع في الدورة الإنتاجية و مقومة لها أساساً، فالجدلية في هذه الحركة هي تفاعل فكر مع الفكر، و في الوقت نفسه تفاعل الحركة بين الفكر و المادة، و بين المادة و الفكر، بينما السببية هي تفاعل الحركة بين المادة و المادة، كحركة المنشار مع قطعة خشب، بينما حركة النجار مع المنشار هي فكر مع مادة.
5.7 السدادات
لقد كان انسياب المعلومات بين مراحل الإنتاج التقليدي انسياباً سلساً، و ذلك لان مختلف المراحل تمتلك و تتعامل مع مرجعية معلوماتية مشتركة، و غالباً ما تكون هذه المرجعية هي ذاتها فعالة بين الكثير من المؤدين في مختلف مراحل الإنتاج، و هو ما يعني أن انتقال المعلومات بين المراحل كان سلساً، لا تعيقه سدادات: طبقية أو مقامية أو معلوماتية، إلا بصيغ مخففة.
مع المعاصرة و الحداثة و المكننة، و تعدد الاختصاص، و مع ظهور المعمار و المهندس و المصمم و غيرهم، كما مع ابتعاد موقع التصنيع عن دكان المحلة، و انتقال التصنيع إلى معامل متخصصة مع تكنولوجيات شديدة التعقيد، أصبح انسياب المعلومات بين مختلف المؤدين ضمن الدورة الإنتاجية غير متوازن من حيث المعرفة و الهموم و أوقات و مواقع التصنيع، فاحتقنت السدادات بين مراحل الإنتاج.
و بقدر ما احتقنت انسيابية المعرفة بين المرحلتين الأوليين من الإنتاج، ما يعني تبعاً لذلك انسدادها عن مرحلة التلقي، أصبح المتلقي بمعزل عن الفكر الرؤيوي للمعمار المصمم، و كذلك عن مختلف الاختصاصات و التكنولوجية المتقدمة والمتشعبة و المتحققة في مرحلة التصنيع. لذا أصبح المتلقي مستهلكاً أمياً.
و قد فقد المتلقي القدرة على تهيئة تغذية استرجاعية مناسبة إلى الرؤيوي، ففقد هذا الأخير، المعمار، تماسه المباشر و الفعال مع واقعية كفاءة التلقي، فأصبح بدوره الرؤيوي يجهل المعرفة المناسبة عندما يقدم على تفعيل الدورة الإنتاجية اللاحقة. و بقدر ما يكون هؤلاء المخططون الرؤيويون بمعزل عن واقعية متطلبات المتلقي، أصبحوا هم كذلك أميين. و من هنا أصبح غالب انسياب المعرفة في الإنتاج المعاصر يتصف بحالة رؤيوي أمي، يقود متلق أمي.
5.8 الحرب الأهلية و تلوث البيئة المعمرة
يتعرض في الحروب الأهلية بقاء الفرد للتهديد، و يسيطر القلق على هوية الذات. وغالباً ما يلتجئ الفرد القلق إلى دعم فئوي، بما في ذلك الطائفي و الطبقي و الإثني، و يحمي هويته حصراً عن طريق منظماتها و كلجرها.
و بهذه الخطوة يفصل الفرد همومه، و حاجاته عن هموم حاجات المجتمع بعامة التي أفسدت الحرب ترابطها المدني، و استبدل الحوار المدني بحوار الحرب: حوار المنطق و التعايش بحوار العنف. و يختزل التذاوت المدني، و ينحصر بإرضاء الحاجتين النفعية و الرمزية، و بخاصة بصيغتها الذاتية الأنانية. و بهذا يفسد التوازن الطبيعي بين مركب الحاجة، و ذلك بقدر ما يعزل الفرد همومه عن متطلبات تماسك متوازن لعلاقات إنتاج البيئة المعمرة.
لقد تنفلت سلوكيات البعض من أفراد المجتمع، فيقدمون هؤلاء على تجاوز متطلبات و شروط التنظيم العمراني، سواء الرسمي أم الحسّي أم الوجداني. و من هنا تتعطل الخبرة و المهارة و الاختصاص في تكنولوجية التنظيم العمراني التي تراكمت لتؤلف مرجعية التنظيم المدني، و بتعطلها يتعطل الضبط الإداري و الوجداني، فتكون المحصلة تلوثاً معمارياً للبيئة المعمرة، كما نجده في المدن و القرى اللبنانية مثلا.
إن تلوثاً بيئياً مثل هذا يحصل عادة تدريجياً، و لذا يكون تأثيره في سيكولوجية تقبّل الناس له كذلك تدريجياً. و بحكم المعيش المستمر مع البيئة الملوّثة، و فقدان بديل لمعيش آخر، تتقبله سيكولوجية معظم أفراد المجتمع، و هكذا يتبلد الحسّ تدريجياً، من غير أن يعي غالب الناس ما حصل لقدراتهم الحسية، فيتعايشون مع بيئة أصبحت واقعاً، من دون أن يؤلف تلوثها إشكالية حسية في مخيلة الناس. لا يؤلف إعادة تعمير البيئة المعمرة و إزالة التلوث منها إشكالية، كممارسة تعميرية إصلاحية، و ذلك لأن المعرفة التكنولوجية لهذه الممارسة قائمة و متوفرة. و لكن الإشكالية تكمن في تربية القدرات الحسية للأطفال ـ و ذلك بقدر ما يُلقَنوا و يُثقَفوا بميميات حسية تعي الصفات الإبتمالية القائمة في الظواهر الطبيعية. و لكن الخطورة هنا أن في هذه الظروف ستعجز المرجعية الفعالة عن قدرة تهيئة تربية مناسبة بالنسبة الى الأطفال.
يولد الأطفال مع قدرات حسية لمختلف متطلبات التعامل مع صفات الإبتمال، و لكن تبقى هذه القدرات مسبتة الى حين تنشيطها و تثقيفها و تدريبها. و من غير هذا التثقيف في مرحلة نمو الطفل، تعجز هذه القدرات عن استيعاب الثقافة الحسية في ما لو تهيأت لها الفرصة في ما بعد في عمر الصبا، إلا ما ندر. إن الإشكالية تكمن في أن معيش الطفل يكون في بيئة ملوّثة، و معرض لمشاهدة التلوث و التعوّد عليه، و يحصل هذا في الفترة الحرجة الطبيعية لنمو هذه القدرات الحسية و تنشيطها و تكامل تكوينها البيولوجي/ الكلجري. كما أن البالغين المدرّبين يكونون أنفسهم قد فقدوا الكثير من قدراتهم الحسية في مرحلة الحرب، و بهذا يكونون فقدوا القدرة على تنشيط القدرات الحسية الذاتية، و تبعاً لذلك قدرة تثقيف القدرات الحسية التي تحملها بيولوجيا الأطفال.
6. الإبتمال Optimality
تتصف سلوكيات التعامل لمختلف الكيانات الحيّة مع الظواهر الطبيعية، و مع الكيانات الحية الأخرى، بصيغة ما من صفات الإبتمال. الإبتمال هي تلك الحالة حينما يتحقق التوازن المناسب الظرفي بين استنفاد الطاقة و تحقيق إرضاء حاجة البقاء، و من غير هذه القدرة يخسر الكيان الحيّ موقعه في مجال المنافسة، سواء مع الكيان الآخر أو القدرة على توافق معيشها مع متطلبات البيئة، فتزول. لذا تتألف غالب سلوكيات الكيانات الحية، و حتى المتقدمة منها، استراتيجيات موروثة بيولوجياً، و تكتمل هذه الاستراتيجيات مع النمو عن طريق التدريب و التجربة، و يتحدد هذا النمو بقدراتها البيولوجية الموروثة. و تتمثل هذه السلوكيات المبتملة باستراتيجيات صيد الأسد للغزلان، و بناء الطيور أعشاشها.
إنها الآلية ذاتها التي تقود سلوكيات الإنسان في تعامله مع متطلبات البيئة، سواء الطبيعية منها أو الاجتماعية، إلا أن هناك اختلافاً جوهرياً بين ما يرث الكيان الحي الآخر و ما يرثه الإنسان. إن الإنسان يرث قدرات حسية و معرفية لتحقيق صفة الإبتمال و التعايش مع متطلبات البيئة الطبيعية و الاجتماعية من غير استراتيجيات تعامل.
و لذا، فإن تدريب قدرات الإنسان و تثقيفها على الحس بالصفات الإبتمالية القائمة في الظواهر الطبيعية و كيفية التعامل معها، و كذلك تدريب قدرات الابتكار على توافق سلوكيات تحقيق أشكال المصنّعات في سيرورات مرحلة التصنيع، هي حاجة تطورت و تأصلت في التركيب البدني و العقلي لكيان الإنسان العاقل.
إن حركة قدرات الابتكار عند الإنسان هي حركة سيكولوجية واعية بذاتها، هدفها إرضاء الحاجة، و استراتيجياتها ليست طبيعية، و إنما كلجرية مبتكرة. و لذا بسبب ما تتضمن من ابتكار لا تتصف بالضرورة بصيغ متوافقة مع متطلبات خصائص المادة، لا من حيث استنفاد الطاقة، و لا من حيث إرضاء الحاجة، و لذا لا يتحقق دائماً بالضرورة التوازن المناسب حيث تكتسب صفة الإبتمال. لذا بقدر ما تنحرف حركات الدورة الإنتاجية عن متطلبات خصائص المادة، تعجز الدورة بهذا القدر عن تحقيق صفة الإبتمال للشكل المصنَّع.
و هذا يعني أنه لا ترث القدرات الحسية التي يتعامل بموجبها الإنسان استراتيجيات تعامل تضبط الحركة. و من غير هذا الضبط تتعرض ممارساته إلى الانفلات و تبذير الطاقة، و إخراج الدورة الإنتاجية من قدرتها على تحقيق صفة الإبتمال. و كما على الإنسان أن يبتكر استراتيجيات التنوع، فعليه أيضاً أن يبتكر استراتيجيات ضبطها، و ذلك عن طريق التعليم و التدريب و التثقيف على حس ضبط التنوع، و التعامل ضمن ضوابط مبتكرة. و من بين أهم ضوابط التكوين الشكلي للمصنّعات هي صيغ الأنماط، و السمتري (8) و توازن الكتل و الاتساق، و غيرها من ضوابط التكوين الشكلي.
7. المعاصرة و الحداثة
لقد استمر العصر الزراعي، أو ساد تنظيم المجتمع الزراعي و رؤية الوجود التي اقترنت به، و قاد تطور حضارات الإنسان القديمة و الكلاسيكية، حتى إنه حصلت ردة حضارية عامة مع انتقال المسيحية إلى أوروبا، و زوال الحضارتين الكلاسيكيتين الإغريقية و الرومانية. و قد غطى أوروبا عصر ظلمات دام أكثر من عشرة قرون. و من ثم ظهرت المسيحية بصيغتها اللاتينية، فأخذت تسائل و تبحث في أديرتها و جامعاتها و في حلقات مثقفيها، ابتداء من القرن الثاني عشر و لغاية القرن الرابع عشر، حتى إنه أخذت تظهر معالم العصر النهضوي، و ذلك في مطلع القرن الخامس عشر (9).
لقد أحدث ظهور عصر النهضة نقلة جذرية في تاريخ البشرية، لم تسبقها نقلة بأهميتها سوى النقلة من مجتمع الصيد إلى مجتمع الإنتاج الزراعي. تمكنت المسيحية اللاتينية في عصر النهضة أن تتحرر بدرجة كبيرة من ظلمات و غيبيات الإبراهيمية التي سادت زمن تلك القرون المظلمة السابقة. لقد تم إحياء الفلسفة و التفلسف، و ظهر البحث في العلوم و في القوانين الطبيعية، و بدأ يتبلور موقف موضوعي من المعرفة. و أخذ الطليعيون يتجاوزون تدريجياً مجتمع التماسك الاجتماعي الفئوي الضيق: القبلي و الإثني و الديني، و ابتكروا تماسكاً اجتماعياً جديداً و مفهوماً عقلانياً للأخلاق يعتمد على التضامن الحر، كما أخذوا يتحررون من ابتلائهم بمفهوم الخطيئة، و بدأوا يكتشفون جمال بدن الإنسان و يستمتعون و يفتخرون بجمالية و عرض هذه الجمالية، لا في غرف مقفلة و إنما في ساحاتهم العامة و في كنائسهم. ظهر في الوقت نفسه الأدب و الفن الذي لا يهدف إلى تمجيد الإله المخلص، و إنما يهدف إلى البحث في هموم الإنسان، و الاستمتاع بجمال اللغة. و كذلك بالنسبة الى الفلسفة، حيث لا تركز على تبرير النصوص اللاهوتية، و إنما توظف نفسها في بحث هموم الوجود، و مساءلة هذا الوجود. و كان في مجموع هذه الإنجازات الحضارية و تداخلها أن ظهرت المعاصرة.
و قد تضمن تكوين المعاصرة ظهور الطبقة البرجوازية، و تداخل مع هذا ظهور المجتمع المدني الذي أخذ يتحرر من مختلف صيغ السلطة المركزية، سواء أكانت منها اللاهوتية أم الأسياد الحاكمة. ظهر في هذه البيئة الثقافية المعمار المتشخص Individuation، و ذلك بسبب تولد علاقات إنتاجية جديدة لم يسبق لها مثيل في المجتمعات التقليدية السابقة، كما أقدمت القدرات الابتكارية لقادة الحرفة و العمارة و ابتكرت موقعاً اجتماعياً و معرفياً و مقاماً لدورهم في ممارسة بناء البيئة المعمرة نيابة عن المجتمع، و قادته الى مواجهة هموم حاجاته الدنيوية و واقعية وجدانه.
ابتكر العصر النهضوي و ظهر معه قادته، و ذلك في مطلع القرن الخامس عشر، و هم كثيرون في مختلف مجالات الفنون، أشير هنا فقط الى البعض الذين أقدموا على تنشئة النهضة: جيوتو دي بوندوني (10)، و باولو أوتشلّو (11)، و من بعدهم جاءت مجموعة من الفنانين و المعماريين الذين أنضجوا مبادئ النهضة الفنية، و من بينهم: المعمار برونلسكي، و المعمار ألبرتي، و النحات دوناتلو، و النحات و الرسام مايكل آنجلو، و الرسام و العالم ليوناردو دا فنجي.
و تمتد هذه النهضة كموقف فكري و كممارسة حتى يومنا هذا، و خلالها تنوعت طرزها، كما تنوع قادتها،. فظهرت ضمنها الحداثة اعتباراً من أواخر القرن الثامن عشر، و كان قاد تنشئتها المعمار برتشارد، و المهندس جوزيف باكسن، و المعمار برتن، و المهندس برونيل. لقد جاء هؤلاء برؤية هندسية للحداثة، و جاءت من بعدهم مجموعة أخرى برؤية معمارية للحداثة. و من بين قادة تنشئتها في العقد الثاني من القرن العشرين: في ألمانيا بهرنس، و جماعة الباو هاوس بقيادة المعمار كروبيوس، و في فرنسا لي كوربوزيه، و في أمريكا فرانك لويد رايت.
لقد ابتكرت عبقرية المعاصرة و الحداثة علاقات اجتماعية و تنظيمية و تكنولوجية و معرفية، فكانت السبب المباشر لظهور المركنتالية و الرأسمالية، و المجتمع البرجوازي، و المجتمع الديمقراطي، و المكننة، و ظهور العلوم الحديثة، و الاستعمار و العولمة، و تغيّر دور الفرد في مختلف مراحل الإنتاج، و بمختلف صيغها الإيجابية و السلبية. و أشير الى البعض منها:
7.1 ظهر المعمار و الفنان و الكاتب المتشخص، و اقترن مع ظهورهم تعدد المرجعيات المعرفية و الوجدانية، ففقدت بهذا القدر المرجعية المعلوماتية صفتها المشتركة بين أفراد المجتمع.
7.2 مع ظهور المعمار و الفنان المتشخص استلب الحرفي من دوره المعرفي و الحسي، و انحصر في التصنيع برؤية يبتكرها المعمار، فأصبح تابعاً لقيادة المعمار في المرحلة الرؤيوية.
7.3 ابتكرت المكننة و تعممت بسرعة في مختلف صيغ الإنتاج، ففقد التصنيع الكثير من العلاقات السبريانية التي كان يتمتع بها الحرفي، و بهذا فقد المصنَّع حسية الحرفي التي كانت تُحال على معالمه.
7.4 اكتشفت الطباعة، و هو ما أدى إلى زيادة المعرفة التكنولوجية و الأدبية و العلمية زيادة أسّية، فانتشرت المعرفة، و لكنها أصبحت تتجاوز قدرة استيعاب الفرد المعيّن، فحصلت فجوة معرفية بين قدرة الممتهن على استيعاب المعرفة، و المعرفة التي أصبحت متوفرة و في زيادة مطردة، و بخاصة بالنسبة الى المتلقي.
7.5 تحولت وظيفة المُصنَّع من ك
التعليقات