تمرد على أمجاد موعودة ليرويquot; سيرة التيهquot;*
يغيب عن ساحة الشعر الراهن ليتفرغ إلى الصمت، هناك في تلك الضاحية الهولندية الصغيرة أوترخت. لكن غياب هذا الشاعر لم يحصل فجأة كاستجابة لقرار شخصي، بل هي جملة من اشتراطات ذاتية وموضوعية أودت بحضوره ماديا وشعريا، لكن من يعرف مخلص خليل، وخزينه الوجداني والمعرفي، لا يسلم بهذا الغياب لأن هذا الشاعر أحد قلائل من الشعراء العرب والعراقيين الذين يؤرقهم مجرد التفكير بكتابة قصيدة، فهو مقل أصلا، ولا تخرج القصيدة من بين يديه إلا بعد أن أشبعت قلبا وحذفا وتشذيبا، حتى لو بقي منها سطر واحد فقط. كانت لقاءاتنا المتكررة خلال الأسبوع الواحد هي سهرات نقدية حرة ننبش فيها قصائدنا ونتبادل الرأي لكن مخلص كان الأكثر دقة وعناية بالتفاصيل، ويغص بعلامات التنقيط وعدد النقاط: نقطة واحدة أم نقطتان عند نهاية السطر، ولماذا).. وإذا جاءت قصيدة خليل مواطنة عراقية تتسربل بغبار تلك الدروب البعيدة ودخان الحرائق التي اشتعلت في عموم البلاد فإنها ترمي ببصرها ، في الوقت نفسه، نحو آفاق العالم باسى، وأتذكر عندما كنا نتجول في مدينة من مدن الإتحاد السوفييتي السابق( جمهورية أوكرايينا) جذبه مشهد أطفال يلعبون وهم حفاة، فعلق قائلا:quot; أطفال حفاة بعد مرور سبعين عاما على بناء الإشتراكيةquot;. لكن هذا القول لا يجرد الشاعر من فرديته الفريدة ولا يصادر وجعه الشخصي وهو يحدق في المرآة ويتداعى ذلك الكهل الخارج إلى الأبد من اشتهاءات الطفل المبعثر:
quot;ماالذي بعثر رمل صباي
فبان كقطرتين وجلتين
في قعر ذلك الثلاثاء
من أيلول البعيدquot;...
بصيغة أخرى: إن أسى الشاعر، مهما بدا شخصيا، فهو بؤرة يشع منها ما يصل طرف الأرض بطرف الأرض... وكشاعر لم يكن مخلص خليل ابن أوجاعه الخاصة وهو يكابد الحياة، رغم أن الألم تجربة شخصية محض.
خرج، مخلص خليل، مع مجاميع المنفيين العراقيين الأولى، إذا صحت التسمية، عنيت بها مجاميع نهاية السبعينات، عندما اتخذ القمع البعثي الصدامي ذروته ضد اليسار العراقي والمتعاطفين معه من ديمقراطيين ومستقلين، وكاد هذا المنفى أن يكون ثقافيا بامتياز، إذ شكل فيه الكتاب والأدباء والفنانون، نسبة عالية( ولا إحصاءات في العراق، كالعادة، حيث تمس الحاجة) وكان في قلب الحركة الثقافية والسياسية مناضلا صلبا، وطهرانيا إلى حد ما، وكادرا نشيطا في قيادة العمل الثقافي الذي أريد له، مع الأسف، أن يكون سياسيا بواجهة ثقافية، وهنا كان الخلل الخلقي( بكسر الخاء وضمها معا!) فلا السياسيون نجحوا في إدارة اللعبة الثقافية ولا المثقفين تمكنوا من إبداء الإستجابة المطلوبة منهم سياسيا وهم يخوضون مفردات كفاحهم الثقافي بمواجهة الإعلام البعثي النشيط الذي تصادف، لسوء حظنا، مع قدرة مالية حكومية جبارة اشترت الكثير من الكتاب العرب ووسائل الإعلام في باريس ولندن وبيروت وأماكن أخرى من العالم.
أرجو لي العذر جراء ما مر من سطور لابد منها، فالحديث عن الشعر السبعيني، عامة، ومخلص خليل، خاصة كأحد أنبل وأصدق رموزه، لا يستقيم من دون تبيان الظروف التي أحاقت بالتجربة برمتها، سواء داخل أو خارج العراق.
وإذ تتاسس رابطة الكتاب والفنانين والصحفيين الديمقراطيين العراقيين في بيروت أواسط عام 1979 كان مخلص خليل من أكثر المبتلين بالمحنة الثقافية السياسية المركبة، وبشكل أدق صراعه الذاتي والموضوعي في آن، كشخصية درامية يراد لها أن تمثل دورا عاما ما ويريد هو أن يمثل دوره الخاص، فيتقاطع لديه الآيديولوجي والإبداعي، وهو تقاطع فريد لدينا، نحن المثقفين العراقيين، أكثر من غيرنا من مثقفي العالم، ربما باستثناء ماياكوفسكي، مغني الثورة البلشفية، الذي كتب قبيل انتحاره:quot; لقد اصطدم زورق الأحلام وتحطمquot; مما فسره دارسوه بأنه لحظة درامية تجاذبها ما يحمله من أشواق خاصة بصدد مستقبل الثورة وما آلت إليه تلك الثورة من مآسي وإحباطات وبيروقراطية.
كان مخلص خليل، إذ يأمن الندامى، يبوح بمرارات ثقيلة، حيث الحقائق هي التي تقال خارج الإجتماعات، كما كتب الروائي القرغيزي جنكيز إيتماتوف فيquot; وداعا ياغولساريquot;.
ومن يعرف مخلص المتحدر من مدينة تكريت، العاصمة غير الرسمية للحكومة المركزية، منذ جمهورية البعث الستينية(8 شباط 1963) وحتى مطلع الألفية الثالثة، يدرك مدى المجد الذي وعد به هذا الشاعر ليتبوأ ما يتباوأ من مراكز ووظائف حكومية لو تاب عن أفكاره الملعونة واهتدى بهداية العقلاء، لكن مخلص أدار ظهره لمجد يقوم على الدم، مختارا عذابه الخاص كشاعر، ليطرد نفسه نهائيا من جنة العرفاء الكيمياويين الذين لم يعدموا وسيلة ما لإبلغه بأنهم سينالون منه يوما، لكن من قال أن خياره الآيديولوجي المضاد أسبغ عليه بعضا من السكينة والتوافق مع النفس، ثم مع الآخر؟
اختار مخلص خليل القطيعة مع الوطن كصيغة آيديولوجية مصادرة دائما ليروي لناquot; سيرة التيهquot;.(*)
حتى انخراطه العضوي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي لم يكن حلا ناجعا ونهائيا لمأزقه الخاص( خاص بالقدر الذي يتعلق بطريقته النوعية لأدارة الصراع مع العالم الخارجي) والدليل هو هذه الخاتمة التي نفى فيها نفسه حتى خارج المنفى، وحيدا، شبه منسي حتى من رفاقه الذين لم يتذكروه برسالة تضامن يستحق أكثر منها)، بينما هرع بعضهم، وهم من يفترض بهم رفاقه، بالمعنيين الحزبي والإجتماعي، للعمل كمستشارين في حكومة بريمر!
حتى على المستوى العائلي لم ينجح الشاعر في أن يأتلف كرب أسرة وزوج ناجح.
أعتقد أن حديثي هنا، وهو يتطرق إلى ما يعتبر خارج البنية الفنية لتجربة هذا الشاعر، مبرر طالما أنا بصدد الحديث عن مخلص خليل بكليته، شاعرا ومناضلا وإنسانا، لكن هذا لا يعفيني من الإشارة إلى تلك البنية حيثما تقتضي الضرورة، فأسارع إلى القول:
إن قصيدة الشاعر، اي شاعر، هي المحصلة الفنية لمجمل وعيه التاريخي. من هنا تتشكل قصيدة مخلص مثقلة بما هو خارج المتطلبات اليومية وشروطها ولغتها الآيديولوجية كشكل من أشكال الإنكار اللاوعي لتلك التجربة، فقراءة شعره تجعلنا نستغرب غياب تلك اللغة السياسية والآيديولوجية، وخلو هذا الشعر من رموز ومرموزات علنية تشي بالتزامه الحزبي أو الايديولوجي، وكأن الشاعر أراد لشعره أن يكون منتآه الخاص، البعيد، والمحصن ضد أنواء السياسة ومفرداتها اللغوية اليومية، ليس لأن الشعر أرقى من تلك الأنواء وأرق من عواصفها الباردة وجحيمها القاتل، بل لأن هذا الشعر هو البديل الموضوعي لكل معوقات الخيال واللعب بعيدا عن الكبار الذين لا يجيدون اللعب بشروط الأطفال.
قصيدة خليل مساحة لغوية قابلة لاستيعاب كل ما يكسر النمط ويخلخل السياق لتشكيل حالة شعرية( وليس صورة شعرية) ترقى بالمأزق وتستحيل حلا له( شعريا) نكاية به( المأزق) وثأرا من لا معقوليته وضغطه الثقيل:
quot; مازال الجواد الأسير يتمتم باسم جدتهquot;.
في هذا السطر من قصيدتهquot; ابتداءquot; بنية لغوية غريبة على سياقات شعرنا العراقي، فما المقصود بـquot; جدة الجواد الأسيرquot;؟
إذا ماقرأنا القصيدة كاملة قد نتوصل إلى بعض المعطيات، رغم أني أعتقد بأن الأشتغال على معنى القصيدة والتجسس على مخابئها، فقط وإغفال بقية عناصرها كشكل فني مركب، هو وظيفة الناقد المتقاعد.
quot;مازالت هناك قلعة أسفل الوقت
ومازال هناك وشاح
وثماني طلقات
مازال الجواد الأسير يتمتم باسم جدته
مازال أولئك الملثمون بأصدافهم
القريبون من القيدوم
والغاربون يوم الجائزة
مازالت تلك الوهاد السليطة
التي لا مهر لها ولا حافر
مازال السور كما سيجوه
والحجارة كما هبطت
مازال معي مبضع الصخر
عندما يهمسون- هنا- باسم الجبلquot;
بدءا، ثمة مشهدية بدائية تحتضن حركة النص الداخلية( قلعة، جواد، الملثمون، القريبون من القيدوم- ثمة سفينة تبدو في الأفق- الوهاد، السور، الحجارة، الصخر، الجبل) وهي، هنا، مفردات مجردة ومعزولة، لا تكتسب لحمها ودمها، إلا بعد ارتباطها بما أضفاه الشاعر عليها من نعوت وتعليقات( إجرائية) لبلوغ المقاصد والخواتيم، فـquot; القلعةquot; أسفل الوقت، هي ليست فيه ولا فوقه، أنها تحت ضغطه، بصيغة ما، لكن الوشاح والطلقات الثمان تشير إلى مقتلة، عندها يجوز اعتبارquot; الجواد الأسيرquot; هو القتيل الذي يتمتم باسم جدته، وعند هذا الحد يوحي الشاعر بتلك البراءة التي يبديها الجريح قبيل الموت على شكل أسير يتمتم باسم جدته، وحيدا بلا شعار أو راية أو قضية، فتمتمة الجريح قبيل الموت تضفي على شخصيته مقدارا من الشخصانية البريئة التي تتلاشى عندها الدعاوى الكبيرة مهما بلغت من قدسية. إنها استعادة الإنسان من بهرجه الخارجي واستنقاذه من الأضواء الفاقعة التي يلقيها الآخرون في حدقتيه لكي لا يرى نفسه.
ثمة، أيضا، تلك السكونية التي تشمل المشهد بتكرارquot; مايزالquot; حتى يدخل الشاعر بأداته الجراحية/ النحتية التي تتكفل بالقدرة على الكشف وإعادة تشكيل الحكايةquot; مازال معي مبضع الصخر/ عندما يهمسون- هنا- باسم الجبلquot;.
.. وبعد هذا وذاك فشعر مخلص خليل عصي على المقاربة الأكيدة، والشعر، بعامة لا يرضى بالأكيد واليقيني والقاطع، والأوجه المتعددة للقصيدة اقتراح ديمقراطي يتيح للجميع حرية القراءة كل حسب حاجته ودرجة حساسيته الذوقية والنقدية.
(*) quot;سيرة التيهquot; مجموع الشاعرالثالثة بعدquot; رسائل أوانيسquot; وquot; مدن أخرىquot;. صدرت عن دار صحارى(بودابست) عام 1993.




التعليقات