العنوان في شعر عبد القادر الجنابي:
quot;حياة ما بعد الياء نموذجاquot; ndash; الحلقة الثالثة *

لقراءة الحلقة الأولى انقر: العنوان في شعر عبد القادرالجنابي

لقراءة الحلقة الثانية: استخراج معاني العناوين ودلالاتها

(أ) أصناف عناوين الجنابي
تعتمد معالجتنا لأصناف عناوين الجنابي، أولا: على قراءتنا لهذه العناوين في الحلقة الثانية، وذلك لأن التوصل إلى أصناف العناوين يعتمد في معظم الحالات على معرفة ماهية العلاقة التي تربط العنوان بالنص؛ وثانيا: على معرفتنا لأصناف العناوين التي قدمتها الأبحاث المختلفة، والتي سبق وأن تناولناها في الحلقة الأولى. إن كافة عناوين الجنابي التي عالجناها تنتمي إلى مجموعة العناوين الدلالية، التي ترتبط بأشكال مختلفة بمضمون النص. ولقد لاحظنا أن هذه الأصناف متنوعة بدرجة كبيرة. كما لاحظنا أن قسما منها مركب، بينما القسم الآخر يميل إلى البساطة. وهنا يهمنا أن نوضح بأن تحديد ما إذا كان صنف العنوان مركبا أو غير مركب يعتمد على طبيعة العلاقة التي تربط العنوان بالنص. فإن كانت هذه العلاقة مركبة ومشكِلة نجد العنوان ينتمي إلى صنف مركب، بينما إن كانت هذه العلاقة أقل تركيبا نجد العنوان ينتمي إلى صنف بسيط أو يميل إلى البساطة. إلا أنه يجب التنبيه إلى أن غالبية عناوين الجنابي، ونظرا لثراء العلاقة التي تربطها بالنصوص، تنتمي إلى صنفين أو ثلاثة أصناف أو حتى أربعة في الوقت نفسه، وليست هذه الأصناف التي تتنازع العنوان في كل الحالات إما مركبة وإما بسيطة، وذلك لأننا نجد أحيانا أن صنفا منها هو بسيط، بينما الصنف المتبقي، أو الأصناف المتبقية، أكثر تركيبا. فمثلا: إن العنوان quot;مهاجرو الداخلquot; ينتمي إلى الصنف المتمم البسيط وإلى الأصناف المثير، الاتجاهي والميتا ـ شعري الأكثر تركيبا.
ولتقديم أصناف عناوين الجنابي وشرحها بشكل منظم قمنا بتوزيعها على مجموعتين كبيرتين هما: مجموعة أصناف العناوين البسيطة ومجموعة أصناف العناوين المركبة.

1. أصناف العناوين البسيطة
أ) العنوان الاختصاري
quot;صناعة الشِّعْرquot;: يلخص هذا العنوان فكرة النص الأساسية وهي عملية الخلق الشعري. لكن علينا أن ننبه إلى أن اختصارية العنوان هذه هي محدودة، وذلك لأنه يبدو وأنه يتحدث عن صناعة واحدة للشعر في الوقت الذي يتعرض فيه النص إلى صناعتين مختلفتين للشعر: صناعة الشعر الحديثة التجديدية الخاصة بـquot;الأناquot;، وصناعة الشعر التقليدية الخاصة بـquot;الرجلquot;، الذي يمثل الشاعر التقليدي.

ب) العنوان المُحيط
quot;حُلُمquot;: إن هذا العنوان يرتبط بالنص ككل، ولا يوجد عنصر فيه يتعلق بشكل خاص أو مباشر بالـquot;حلمquot;.

ج) العنوان المتمم
quot;مهاجرو الداخلquot;: بالرغم من أن عنوان الجنابي المتمم هذا يحوي مركز القصيدة فقد تمكنا من فهم النص بدونه فهما مكننا من معرفة الفكرة المركزية لهذا النص، وهذا يعني أن هذا العنوان مخالف للعناوين المتممة الأخرى التي لا يُفهم النص بدونها. وبناء على ذلك، نعتبره عنوانا متمما بشكل جزئي.
لقد فهمنا من النص الذي يحمل هذا العنوان أن موضوعه هو الشعراء الثوريون الذين ينادون بقلب الواقع، إلا أن هوية هؤلاء الشعراء لم تكن معروفة، وأتى العنوان ليقول لنا بأن الشعراء المقصودين هم الشعراء العراقيون خاصة والشعراء العرب عامة، الذين تعتبر علاقتهم بأوطانهم علاقة صراعية.

د) العنوان الإهدائي
quot;إلى محمود درويشquot; (قصيدة quot;ليت الحصان كان وحيداquot;): وندعو هذا الإهداء بجزء عنوان، لأنه يعتبر جزءا ثانيا من كل ما هو فوق السطر الأول من النص، والذي يتألف من العنوان البارز المركزي quot;ليت الحصان كان وحيداquot; ومن الإهداء quot;إلى محمود درويشquot;.
إن علاقة الإهداء quot;إلى محمود درويشquot; بالنص تبرز من خلال التعرض للقضية الفلسطينية وللكتابات التي تدور حولها، وتتوطد هذه العلاقة أكثر في عنوان القصيدة المركزي quot;ليت الحصان كان وحيداquot; وفي المقطع الثالث من النص، وذلك بسبب التناص مع عنوان ديوان درويش quot;لماذا تركت الحصان وحيداquot; ومع قصيدة quot;أبد الصُبَّارquot; في هذا الديوان. وبالإضافة إلى ذلك، يجدر بنا أن ننبه إلى أن الإهداء الآنف يخبئ في طياته نقدا للشاعر محمود درويش، وسنوضح هذه القضية عند معالجتنا لوظيفة هذا الإهداء في القسم التالي.

2. أصناف العناوين المركَّبة
أ) العناوين المثيرة
* quot;مهاجرو الداخلquot;: إن هذا العنوان يجذب انتباه القارئ بسبب وجود التناقض فيه ما بين كلمتي quot;مهاجروquot; وquot;الداخلquot;.
*quot;هذا الصباح، ليلٌ يتوهّجquot;: يثير هذا العنوان القارئ بسبب احتوائه على التركيب الأكسيموروني quot;ليلٌ يتوهّجquot;.
*quot;الله في كلمةquot;: إن التناقض في هذا العنوان، النابع من إدخال quot;اللهquot; اللانهائي في quot;كلمةquot;، يخلق تكثيفا شديدا ويثير غرابة القارئ.

ب) العناوين الاتجاهية
وتعتبر العناوين الثلاثة التي تنتمي إليها عناوين اتجاهية غامضة، وهي:

*quot;مهاجرو الداخلquot;: إن الموضوع الذي يتناوله هذا العنوان وموقف الجنابي منه لا يبدوان واضحين، بل مرموزا إليهما. وفقط من خلال قراءة النص ومراجع خارجية أيضا نتمكن من الاكتشاف بأن العنوان يعبر عن نقد الجنابي للنظام العراقي خاصة وللأنظمة العربية عامة على كبتها وملاحقتها للشعراء الثوريين ذوي الرؤى التجديدية، والذين يعتبرون بمثابة غرباء quot;مهاجرينquot; في أوطانهم لعدم قبولها رؤاهم هذه.

*quot;ليت الحصان كان وحيداquot;: إن العنوان يعبر عن أمنية لوجود الحرف quot;ليتquot; فيه، لكننا لا نعرف إلى ماذا يرمز quot;الحصانquot; وما معنى أن يكون quot;وحيداquot;، ولذلك تعد الأمنية غامضة بنظرنا. ويتوضح لنا مفهومها بعد قراءة النص، بحيث نكتشف أن الجنابي أراد أن يعبر بواسطة العنوان عن انتقاد للكتابات التي تستغل القضية الفلسطينية، أو أية قضية وطنية أخرى، لإبراز وجودها.

* quot;هذا الصباح، ليلٌ يتوهّجquot;: إن هذا العنوان يقدم لنا موضوع النص، وهو الشاعر الوصولي، وموقف الجنابي منه بشكل غامض جدا. وفقط بعد قراءتنا للنص وربطنا ما بين عبارة quot;ليل يتوهّجquot; وquot;الشاعرquot; غير الحقيقي الذي يتاجر بالشعر نعرف أن العنوان يعبر بواسطة هذه العبارة عن موقف سلبي للغاية من هذا الشاعر.

د) العنوان المبئر
quot;ليت الحصان كان وحيداquot;، وذلك لأنه انتقى أحد المواضيع الأساسية في النص، وهو أن تكون quot;القضيةquot; بعيدة عن الكتابات التي تتأرجح بها وتستغلها، وجعله قائدا للقصيدة.

هـ) العناوين الميتا ـ شعرية
إن عددنا العنوان ـ كما يقول أدورنو ـ نصا مُصَغَّرا (micro-text) يتعيّن علينا اعتبار العنوان الميتا ـ شعري نصا شعريا مُصَغَّرا يتحدث عن موضوع الشعر، أو يتناول جانبا منه، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وبما أن عناوين الفصل الأول (quot;تأصيل بلا ينابيعquot;) التي عالجناها تتناول موضوع الشعر، يمكننا اعتبارها كافة عناوين ميتا ـ شعرية، تقف على رأس نصوص ميتا ـ شعرية مثلها. لكن تجدر الإشارة إلى أن هذه العناوين تتفاوت فيما بينها في مدى إبراز ميتا ـ شعريتها أو إخفائها. فمثلا: نجد أن ميتا ـ شعرية العنوان quot;صناعة الشِّعْرquot; واضحة، وذلك لأنه يعالج بشكل واضح لب موضوع الشعر وهو صناعته. أما ميتا ـ شعرية العناوين quot;حُلُمquot;، quot;الله في كلمةquot; وquot;تأصيل بلا ينابيعquot; فتعتبر غامضة. ففقط من خلال قراءة النص أيضا يمكن أن نكتشف أن العنوان الأول يتحدث عن صناعة الحلم في العمل الشعري، والثاني عن قوة الكلمة في قصيدة النثر التي تتجلى في غموضها وتكثيفها. أما عنوان الفصل quot;تأصيل بلا ينابيعquot; فيتطلب منا قراءة قصائد الفصل حتى نعرف أنه يدعو إلى التمسك بالجوهر فيما يخص عالم الشعر، وإلى نبذ الأمور الهائلة في ظاهرها والفارغة في باطنها من هذا العالم.

و) العنوان التلميحي
quot;ليت الحصان كان وحيداquot;: وهو عنوان تلميحي متناص، إذ نجد فيه تناصا مع عنوان ديوان درويشquot; لماذا تركت الحصان وحيداquot; ومع قصيدة quot;أبد الصُبَّارquot; في الديوان نفسه. وهذا التناص أنتج عنوانا جديدا ذا مفهوم مغاير، يتمنى الجنابي فيه لو كان quot;الحصانquot;، الذي أصبح يرمز إلى القضية الفلسطينية، quot;وحيداquot;، أي متحررا من الأشعار التي تستغله لصالحها.

ز) العناوين المُرْبِكة
وينتمي إلى هذا الصنف العنوانان الآتيان:

* quot;هذا الصباح، ليلٌ يتوهّجquot;

* quot;الله في كلمةquot;

ويمكننا دعوة هذين العنوانين بالسرياليّيْن، لأنهما كتلك العناوين التي ذكرها ليفينسون في سياق حديثه عن عناوين بعض اللوحات السريالية، التي تعتبر علاقتها بتلك اللوحات علاقة مخترعة. فعندما قرأنا العنوانين الآنفين بعد قراءة النصين اللذين يحملانهما اكتشفنا بأنهما لا يوضحان هذين النصين، بل على العكس، فإننا احتجنا إلى إعادة قراءة النصين عدة مرات لاستيضاح مفهوم هذين العنوانين وصلتهما بالنصين. وإن الصلة التي توصلنا إليها بين هذين العنوانين والنصين هي صلة مخترعة غير أكيدة، وقد يجد قراء آخرون صلات مغايرة. وتجدر الإشارة إلى أن نص قصيدة quot;هذا الصباح، ليلٌ يتوهّجquot;، يفصح لنا عن فكرة القصيدة المركزية، مما ساعدنا في محاولتنا اكتشاف الرابط بينه وبين العنوان، بخلاف نص قصيدة quot;الله في كلمةquot; الذي لم يكشف لنا عن فكرة القصيدة المركزية بشكل واضح أو أكيد، الأمر الذي صعب علينا في محاولتنا اختراع صلة تربط العنوان به.

3. أصناف عنوان الديوان
إن كون عنوان الديوان يقف على رأس مجموعة كاملة يتطلب منا إشارة خاصة إلى الأصناف البارزة فيه:

*الصنف التلميحي المتناص: من قراءتنا للنص الذي يقتبسه الجنابي قبل مقدمة الديوان، والذي سبق وأن تعرضنا له في القراءة الأولى لعنوان الديوان، نكتشف أن كلمات عنوان الديوان quot;ما بعد الياءquot; مقتبسة من هذا النص. وإن هذا التناص في عنوان الديوان يعزز من عنصري الانطلاقية واللاتناهي فيه وفي نصوص الديوان ككل.

*الصنف الميتا ـ شعري: لقد ذكرنا في القراءة الأولى والثانية لعنوان الديوان أن كلمة quot;الياءquot; فيه تعبر عن غرض لغوي شعري يريد الشاعر طرقه، ومن خلال قراءتنا لمتن الديوان وجدنا أن هذه الميتا ـ شعرية تتجلى في الكثير من العناوين والنصوص.

* الصنف الاختصاري: إن البعد الاختصاري في عنوان الديوان يعتبر هائلا، وذلك لأن هذا العنوان يختصر فكرة الديوان المركزية، وهي تجاوز الحدود في عالمي الشعر والواقع للكشف عن ماهية هذين العالمين.

*الصنف التوجيهي: إن البعد التوجيهي في العنوان ينبع من اختصاريته، التي وجهت ذهننا إلى عناصر اختراق الحدود، التجاوز واللانهائية، المنتشرة بدرجات مختلفة في متن الديوان.

(ب) وظائف عناوين الجنابي
تعتمد معالجتنا لوظائف عناوين الجنابي في هذا القسم على أمرين. الأول منهما هو القراءة التي قمنا بها لهذه العناوين في الحلقة الثانية، بحيث تم فيها إلقاء الضوء على العلاقة التي تربط العنوان بالنص/ النصوص. وهنا يجدر بنا أن نأخذ بالحسبان أصناف العناوين التي عالجناها، وذلك لأن وظيفة العنوان ترتبط في الكثير من الأحيان بصنفه كما سنرى. أما الأمر الثاني فهو وظائف العناوين المختلفة التي تعرضت لها الأبحاث. إلا أن هذا لا يعني أن وظائف عناوين الجنابي تقتصر على تلك التي وردت في الأبحاث، وذلك لأن هناك وظائف تقوم بها هذه العناوين تنحرف بعض الشيء عن التي تقدمها الأبحاث.
إن من عناوين الجنابي المختارة ما يقوم بوظيفتين على الأقل، مع الأخذ بالحسبان وظيفة الإشارة إلى النص التي يقوم بها كل عنوان سواء كان أدبيا أو غير أدبي. وهناك عناوين من بين عناوين الجنابي تقوم بوظيفتين أو بثلاث وظائف إضافة إلى الوظيفة الإشارية. فمثلا: إن العنوان quot;مهاجرو الداخلquot; يقوم، بالإضافة إلى الإشارة إلى النص، بوصف موضوع النص، بإغواء القارئ وبإطلاق حكم بشكل سري.
وفيما يأتي سنعالج الوظائف الخمس التي تقوم بها عناوين الجنابي، والمضافة إلى الوظيفة الإشارية، التي لا يوجد لدينا شيء خاص نضيفه عنها في هذا الموضع.


1. وصف موضوع النص
إن غالبية عناوين الجنابي التي قرأناها هي عناوين ثيماتية، تصف موضوع النص. وإن الطرق التي تدل فيها هذه العناوين على موضوع النص تعتبر متنوعة، وكل منها يحتاج إلى تحليل خاص. ولقد تحدثنا عن عدد من هذه الطرق عند تقديمنا لوظائف العنوان التي عالجها جينيت في مقاله.
وتعتمد الطريقة التي يصف بموجبها العنوان موضوع النص على طبيعة علاقته بهذا النص. فإن كانت العلاقة بين العنوان والنص بسيطة لاحظنا أن العنوان يصف موضوع النص دون تمويه، بينما إن كانت هذه العلاقة معقدة لاحظنا أن العنوان يصف موضوع النص بشكل غامض، معقد أو يميل إلى التعقيد. ولقد قسمنا عناوين الجنابي بالاعتماد على الطرق التي تصف بموجبها موضوع النص إلى الأقسام الثلاثة الآتية:

أ) وصف موضوع النص بشكل واضح

* quot;صناعة الشِّعْرquot;
إن هذا العنوان يصف موضوع النص بشكل مركز وواضح، وهذا لأن العلاقة التي تربطه بالنص هي علاقة واضحة، تمكّن القارئ من اكتشافها بسهولة. لكن هذا لا يجب أن يدفعنا إلى الظن بأن النص التابع لهذا العنوان هو نص بسيط ومباشرة، لأننا رأينا من معالجتنا له بأنه يحوي رموزا وعناصر غامضة، تخلق فجوات في ذهن القارئ عليه ملؤها.

ب) وصف موضوع النص بشكل رمزي
إن العنوانين اللذين يقومان بهذه الوظيفة يجعلان كلمات العنوان رموزا يتم فكها بعد قراءة النص. وهذان العنوانان هما:

* quot;مهاجرو الداخلquot;: إن ثورية الشعراء المجددين كانت القضية المسيطرة على النص بأكمله. وترمز كلمة quot;مهاجروquot; في العنوان إلى ثورية هؤلاء الشعراء، وترمز كلمة quot;الداخلquot; إلى أوطانهم التي يحيون فيها. وإن التناقض ما بين كلمتي العنوان يرمز إلى عدم قبول بلدان هؤلاء الشعراء لرؤاهم التجديدية.

* quot;ليت الحصان كان وحيداquot;: ينتقد الجنابي بشدة في النص الأشعار الملتصقة بالقضية الفلسطينية. ويرتبط العنوان بهذه الفكرة بشكل رمزي، وذلك من خلال كون كلمة quot;الحصانquot; رمزا للقضية الفلسطينية وكون كلمة quot;وحيداquot; رمزا لتحرر هذه القضية من كثرة الأشعار التي تستغلها.

ج) وصف موضوع النص بشكل غامض

* quot;الله في كلمةquot;: لقد ذكرنا في قراءتنا للنص أن quot;العجوزquot; تمثل عالم الشعر الغامض أو قصيدة النثر خاصة. ويأتي العنوان ليرتبط بهذا بشكل غامض جدا، وذلك من خلال كون quot;اللهquot; يشير إلى القوة والمجهول، والـquot;كلمةquot; إلى quot;العجوزquot; التي تمثل النص الشعري، مما يعني أن العنوان يتناول هو الآخر خفايا عالم الشعر وعظمته.

* quot;هذا الصباح، ليلٌ يتوهّجquot;: لقد ذكرنا أن الجنابي ينتقد في النص الشاعر الذي يجعل الشعر وسيلة للتكسب، ويدعوه إلى القيام والنهوض مما هو فيه. ويأتي الشق الأول من العنوان (quot;هذا الصباحquot;) ليدل على النهوض، ثم يأتي الشق الثاني (quot;ليل يتوهّجquot;) ليدلل على ذلك quot;الشاعرquot; المظلم ذي الأشعار المزيفة، التي يهدف بواسطتها إلى التكسب.

إن العنوانين الآنفين يرتبطان بموضوع النص بشكل غامض للغاية. ولقد سبق وأن وضعناهما في إطار صنف العناوين المربكة، لكون علاقتهما بالنص علاقة مخترَعة أو تجريبية، الأمر الذي يؤدي إلى انفتاحهما لقبول عدة تأويلات.

2. إغواء القارئ
إن غالبية عناوين الجنابي التي عالجناها تحوي جانبا إغوائيا، إلا أن هذه العناوين تتفاوت فيما بينها في مدى إبراز هذا الجانب وفي الوسائل التي تغوي بواسطتها القارئ. وسنركز في هذا القسم على العناوين التي تغوي القارئ بشكل ملحوظ بوسيلة من هذه الوسائل.
ويمكننا تقسيم عناوين الجنابي، التي يعد الجانب الإغوائي فيها بارزا، بناء على وسائلها الإغوائية إلى المجموعات الثلاث الآتية:

أ) الإغواء بواسطة المبنى النحوي للعنوان
quot;حلمquot;: إن كون هذا العنوان اسما نكرة يضفي عليه العمومية، مما يؤدي بالقارئ إلى تقديم عدة تأويلات له، ومن ثم يجد نفسه مدفوعا لقراءة نص القصيدة، لفحص إذا ما كانت تأويلاته متحققة.

ب) الإغواء بواسطة المضمون

* quot;مهاجرو الداخلquot;
*quot;هذا الصباح، ليلٌ يتوهّجquot;
*quot;الله في كلمةquot;
إن هذه العناوين تغوي القارئ بسبب احتوائها على ظاهرة مضمونية (تتعلق بمضمون العنوان) تغوي القارئ وتدفعه إلى قراءة النص. وإذا عدنا إلى القسم السابق لوجدنا أن هذه العناوين تنتمي إلى صنف العناوين المثيرة، التي تثير القارئ بوسيلة مضمونية معيّنة، كالتناقض، التكثيف واستخدام أمر شاذ. وبما أن الجوانب التي تثير القارئ في هذه العناوين، والتي وقفنا عليها في القسم السابق، هي ذاتها الوسائل المضمونية التي تغوي هذا القارئ فلن نتحدث عنها مجددا هنا لتفادي التكرار.

ج) الإغواء بواسطة تلميحيّة العنوان
quot;ليت الحصان كان وحيداquot;: إن التناص في هذا العنوان يشد القارئ لمعرفة العلاقة بين ديوان درويش وقصيدة الجنابي التي تحمل هذا العنوان.

3. إطلاق حكم بشكل خفي بصدد عدد من القضايا
*quot;ليت الحصان كان وحيداquot;
*quot;مهاجرو الداخلquot;
*quot;هذا الصباح، ليلٌ يتوهّجquot;
يطلق الجنابي بواسطة العناوين الآنفة حكما سريا فيما يخص قضية من القضايا. فمن خلال العنوان الأول يلمّح الجنابي إلى أن الكتابات التي تدور حول القضية الفلسطينية تعتبر كتابات رديئة، وفي العنوان الثاني يعبّر الجنابي عن استيائه من كبت الأنظمة والمجتمعات العربية للشعراء الثوريين المجددين، ومن خلال العنوان الثالث يعبّر عن موقفه السلبي من الشاعر الذي يستغل الشعر لخدمة مطامعه.

4. الإيحاء بالجنس الأدبي للنص
*quot;صناعة الشِّعْرquot;
*quot;ليت الحصان كان وحيداquot;
يوحي لنا هذان العنوانان بأن العمل الذي أمامنا ينتمي إلى عالم الشعر، ويعالج قضية شعرية. ويمكننا دعوة هذين العنوانين بعنوانين ميتا - شعريين.

5. تمثيل النص
إن كل عنوان يحوي قوة تمثيلية معيّنة، ونكتفي هنا بمعالجة القوة التمثيلية لعنوان الفصل quot;تأصيل بلا ينابيعquot; وعنوان الديوان. وإن معالجتنا للقوة التمثيلية لهذين العنوانين تعتمد في الأساس على القراءة الثانية التي قمنا بها لهما في الحلقة الثانية. وإن تحديد ما إذا كانت قوة العنوان التمثيلية كبيرة أو ضئيلة يعتمد على مدى سيطرة مفرداته، إيحاءاته ودلالاته على القصائد. لكن يجدر بنا أن ننبه هنا إلى أننا قد لا نجد أحيانا مفردات العنوان في القصائد، وإنما نجد تكرارا للفكرة التي يوحي بها هذا العنوان. وفي هذه الحالة علينا التحري عن مدى كثافة هذه الفكرة في القصائد لتحديد مدى قوة العنوان التمثيلية.
وأما فيما يأتي فسنتحدث عن القوة التمثيلية لكل عنوان من العنوانين:

* quot;تأصيل بلا ينابيعquot;
إن كلمتي quot;تأصيلquot; وquot;ينابيعquot; لا تظهران تقريبا في قصائد الفصل، لكن هذا لا يجب أن يدفعنا إلى القول بأن قدرة العنوان التمثيلية ضئيلة، وذلك لأن الفكرة التي يعبر عنها العنوان، وهي التمسك بالجوهر ونبذ السطحية فيما يخص عالم الشعر، تتجلى في كل قصيدة من القصائد التي عالجناها بشكل مختلف. وما نريد قوله من خلال ذلك هو أن هذا العنوان ذو قوة تمثيلية كبيرة، لكنها خفية، لأن علاقته بالقصائد الست تعتبر علاقة غامضة ومعقدة.

*quot;حياة ما بعد الياءquot;
إن عنوان الديوان ككل يعبر عن تجاوز الحدود والانطلاقية في الحياة واللغة. وفكرة العنوان هذه وجدناها تتكرر بطرق مختلفة (واضحة، خفية، مكثفة، أقل كثافة) في فصول الديوان. أما قوة عنوان الديوان التمثيلية بناء على ربطها بالفصل quot;تأصيل بلا ينابيعquot; بشكل خاص فوجدناها بارزة في القصائدة التي عالجناها، والتي تعبّر عن وجهة نظر شعرية خاصة، تتجاوز الوجهات الشعرية السائدة والمألوفة.

6. وظيفة الإهداء quot;إلى محمود درويشquot;
إن هذا الإهداء يحوي نقدا للشاعر محمود درويش، أو تهجما عليه واتهاما له باستغلال قضية الشعب الفلسطيني للترويج لشعره، لا سيما وأنه أشهر شاعر فلسطيني تحدث عن هذه القضية في شعره. وقد يكون هدف الإهداء، كما ذكرنا في الحلقة الثانية، لفت انتباه درويش إلى كثرة التلاعب بالقضية في الشعر، ودعوته إلى الوقوف بدوره ضد هذه الظاهرة.

(ج) مكانة عناوين الجنابي كوحدات نصية
لقد ذكرنا في الحلقة الأولى، عندما تطرقنا إلى مكانة العنوان كوحدة نصية في الأدب، بأنه من ضمن الأشياء التي نعتمدها في تحديد مكانة العنوان هو صنف العنوان. فإن كان العنوان يخضع إلى الأصناف المؤشرة فتكون استقلاليته عن النص كبيرة، أما إذا كان ينتمي إلى الأصناف الدلالية فإن استقلاليته عن النص تكون محدودة. لكن ما يجب قوله هنا هو أن صنف العنوان هو ليس المعيار الوحيد الذي نقيس بواسطته درجة استقلالية العنوان، وذلك لوجود أمور أخرى أكثر أساسية منه، كنا قد أخذناها بعين الاعتبار عند تحديدنا لأصناف العناوين ووظائفها أيضا. وهذه الأمور هي تركيب العنوان النحوي، مدى قدرة العنوان على احتواء فكرة واضحة، غموض العنوان وشدة كثافته. وإذا أردنا أن نوضح مقصديتنا أكثر نقول بأنه إن كان العنوان جملة تامة نحويا، تحوي فكرة واضحة تلخص موضوع النص، فهذا يدلنا على كون العنوان نصا مستقلا، لا يحتاج إلى النص الأكبر ليتمم معناه. وفي المقابل، إن كان العنوان غامضا، لا يدلنا على شيء محدد، فهذا يعني أنه بحاجة ملحة إلى النص ليتمم معناه، أي أنه مرتبط بهذا النص بدرجة كبيرة.
إن عناوين الجنابي التي قرأناها هي عناوين دلالية تثري النصوص التابعة لها من خلال إضافة طبقات أخرى من المعنى إليها، الأمر الذي يدل على تعلق هذه العناوين بالنصوص. وما يهمنا في هذا الفصل هو مناقشة درجة تعلق العنوان بالنص. وبعبارة أخرى، نود أن نجيب عن السؤال الآتي: أيُعتبَر العنوان مستقلا عن النص بدرجة ضئيلة، متوسطة أم كبيرة؟ ولماذا؟ وكإجابة عن هذا السؤال نقول بأن عناوين الجنابي التي قرأناها تقسم إلى مجموعتين:

1. مجموعة العناوين المستقلة بدرجة ضئيلة عن النص

2. مجموعة العناوين المستقلة بدرجة معتدلة عن النص
وسنأتي فيما يلي على العناوين التي تدخل في إطار كل مجموعة من المجموعتين، مع توضيح للسبب الذي دعانا إلى وضع كل عنوان منها ضمن إحدى هاتين المجموعتين.

1.العناوين المستقلة بدرجة ضئيلة عن النص

*quot;حُلُمquot;: إن كون هذا العنوان يتألف من كلمة واحدة عامة، لا تدل على شيء محدد رغم كثرة دلالاتها،
يجعله محتاجا إلى النص بدرجة كبيرة ليحدد من دلالاته.

* quot;مهاجرو الداخلquot;: إن كون هذا العنوان تركيبا غير مستقل نحويا، يحوي تناقضا، يخلق فجوة في ذهن القارئ، مما يدفعه إلى قراءة النص. كما أن انتماءه إلى الصنف المتمم يعزز من ارتباطه بالنص.

* quot;ليت الحصان كان وحيداquot;: برغم كون هذا العنوان جملة مستقلة نحويا فإنه يخلق فجوة واسعة في ذهن القارئ، تنبع في الأساس من عدم معرفته ما علاقة هذا العنوان بديوان درويش. وبعد قراءة النص يجد القارئ علاقة وثيقة بين العنوان والنص، مما يعينه على فك رموز العنوان.

* quot;هذا الصباح، ليلٌ يتوهّجquot;: إن الغموض والتكثيف في هذا العنوان، النابعين من العبارة الأكسيمورونية quot;ليلٌ يتوهّجquot;، يجعلانه محتاجا إلى النص بدرجة كبيرة. هذا بالرغم من أننا نكتشف بعد قراءة النص أن ارتباط العنوان بهذا النص هو ارتباط مخترع وليس واضحا أو محددا.

*quot;الله في كلمةquot;: برغم كون هذا العنوان جملة مستقلة نحويا فإن التكثيف والغموض الشديدين اللذين يهيمنان عليه يخلقان فجوة واسعة في ذهن القارئ، مما يضطره بشدة إلى قراءة النص لسد هذه الفجوة.

2. العناوين المستقلة بدرجة معتدلة عن النص
هذه العناوين مستقلة عن النصوص التابعة لها أكثر من العناوين السابقة لوجود جانبين فيها يتنازعان العنوان منها. الجانب الأول يتجلى في وجود خصائص في العنوان تبعده عن النص، والجانب الثاني يتجلى في وجود خصائص تعلق هذا العنوان بالنص وتقربه منه. وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أن هذا النزاع غير قائم في المجموعة السابقة من العناوين، وذلك لأن الجانب الثاني فيها هو الغالب في كل الحالات.
وسنقدم فيما يأتي العناوين التي تدخل في إطار هذه المجموعة مع توضيح للجانبين المذكورين:

* quot;صناعة الشِّعْرquot;: إن هذا العنوان يحمل معنى واضحا، وهو يدل القارئ على موضوع النص الأساسي، الأمر الذي يمنحه استقلالية. ولقد سبق وأن وضعناه في إطار الصنف الاختصاري، إلا أننا نبهنا إلى أنه يختصر النص بشكل يعتريه بعض الغموض، لأنه لا يبوح للقارئ بشيء عن ماهية quot;صناعة الشعرquot;، وإنما يترك ذلك للنص، الأمر الذي يجعله مرتبطا بهذا النص.

* quot;حياة ما بعد الياءquot; وquot;تأصيل بلا ينابيعquot;
إن كون عنوان الديوان وعنوان الفصل الأول يمثلان مجموعة من النصوص يمنحهما استقلالية أكبر من استقلالية عناوين القصائد عامة. إلا أن هذه الاستقلالية ليست بكبيرة، وذلك لأن احتواء عنوان الديوان على فكرة الديوان المركزية واحتواء عنوان الفصل على فكرة الفصل المركزية، وذلك بشكل مكثف يعتريه الغموض، يجعل هذين العنوانين مرتبطين بالنصوص لتفك معانيهما ودلالاتهما.

ونختتم هذه الحلقة بملاحظة حول ميزة مشتركة لغالبية عناوين الجنابي التي عالجناها، تؤثر في مكانتها كوحدات نصية. وهذه الميزة هي كون هذه العناوين ذات مركبات اسمية خالية من عنصر الزمن خلوا يجعلها منطلقة ويوسع من دائرتها الدلالية، الأمر الذي يعزز من احتياجها إلى النص ليحد من دلالاتها. وهي في ذلك بخلاف العناوين الفعلية المحصورة بزمن وحدث يجعلانها مكتفية بذاتها، مما يمنحها استقلالية أكبر عن النص. ومثال جيد على ذلك هو عنوان قصيدة الجنابي quot;لم تُنشَر من قبلquot;، الذي يتألف، كما نلاحظ، من جملة فعلية تامة. وسنأتي فيما يلي بنص القصيدة لتوضيح ما نعنيه:

عندما كانت
بيروت
ستأتي الحرّية
بلا حجاب
فيطأها رجلٌ
جاء من بعيد
أخبروه
ستلدُ منه
عندما كانت
وليدًا
يحدّقُ
إلى بريق الدم
فيكون لها
شاهدان. (الجنابي، عبد القادر. 1995. حياة ما بعد الياء. ص 35)


عندما يقرأ القارئ عنوان هذه القصيدة يفهمه فهما كافيا دون قراءة النص، فيعرف أن المقصود بـquot;لم تُنشَر من قبلquot; هي القصيدة ذاتها. وعندما يقرأ هذا القارئ النص لا يجده يضيف الكثير إلى العنوان، مما يؤكد على استقلالية هذا العنوان عن النص. لكن لا يجب باعتقادنا اعتبار هذا قاعدة عامة، وذلك لأنه قد تتواجد عناوين فعلية كاملة التركيب النحوي، لكنها غامضة ومكثفة بشكل بالغ، الأمر الذي يحد من استقلاليتها ويجعلها متعلقة بالنص كالعناوين الاسمية.

المقال هذا بحلقاته الثلاث مستل من اطروحة قدمتها، في خريف 2005، نريمان الماضي في نطاق الواجبات لنيل اللقب الثاني في الآداب (باشراف رؤوبين سنير / جامعة حيفا / كلية العلوم الإنسانية: قسم اللغة العربية وآدابها)، ونالت عليها درجة (97) بالمئة.. بل اقترحت الهيئة المشرفة على الإطروحة ضرورة طبعها كتابا، وهذا ما سيحصل...