ضج الناس من طريقة كتابة الخبر وملوا من التعليقات والمانشيتات والتحليلات السياسية وبدأوا يستبدلون الخبر السياسي الطازج بطبق اليوم.. والإجتماعيات بأزياء المرأة.. والقصص العجيبة الغريبة بقصص من أرض الواقع.. وتمادى أحدهم فأقسم بالطلاق وبأيمانات مغلظة بأنه لن يقرأ صفحات الجرائد إلا من اليسار وأنه سيقتصر فقط على أخبار الوفيات والكلمات المتقاطعة وحظك اليوم.. وأنه لن ينحاز أو ينحرف أبدا إلى جهة اليمين إلا إذا كان هذا اليمين فيه ما هو بعيد عن السياسة وقريب من الحوادث والجرائم وأخبار الفن والأدب.
دق جرس الهاتف في مكتبي فرددت عليه بكلمات مقتضبة تفيد بإنشغالي وعدم رغبتي في إستمرار الحديث.. قلت:
ـ آلوه.. نعم
بطريقة إستفزازية.. وعلى الطرف الآخر يرد أحد القراء.. يعرفني بنفسه.. ينساق إلى لهجة الإطناب فيبدا في تعداد مآثره وأفضاله على الصحيفة
أرد بفتور وبلا إهتمام وكأنني أقتلع الكلمة من بين شفتى: أهلا.. تشرفنا
يصمت القارئ قليلا قبل أن ينفجر: ما هذا الكلام الفارغ الذي تكتبه ؟
تتلاشى لعبة المجاملات.. تتوحد لعبة الصراع.. يتحول كل منا إلى ديكين يتأهبان للنزال فنشمر عن ساعدينا للنزول إلى حلبة المصارعة ونستحضر معنا ما في جعبتهما من حجج وبراهين ليدحض كلانا الآخر
أصرخ في وجه القارئ: إحترم نفسك.. لا يوجد كلام فارغ وكلام غير فارغ يرد بلا إكتراس: معك حق.. هكذا توقعت.. فكتاب السح الدح إمبو لا يفرقون بين الغث والجيد في هذه الأيام
أرد بسخرية: معلوماتك متأخرة جدا يا سيدي.. يبدو أنك من الزمن القديم الذي ولى ولن يعود.. لقد ظهرت كلمات أخرى في القاموس غير السح والدح.. لقد ظهرت الروشنة والطحن يا صديقي
على الطرف الآخر ( مقاطعا دون أن يخفي سخريته ): وكلمات أضافية أخرى !!!.. عال عال.. جميل
أستطرد وقد تملكني الغضب: على الأقل.. هذه الكلمات التي تنعتني بها وتتهمني بإستنباطها على الرغم من أنني لست قائلها ولست من أنصارها كانت ذات معنى.
تشعر من نحنحة القارئ أنه قد فقد توازنه وأنه ينتفض في مقعده وأنه غاضب لا يصدق ما أقوله له وبأنه يتأهب للهجوم.. قبل أن أفيق من لحظات التأمل المباغتة.. كان القارئ قد بدأ الهجوم فعلا:
ـ ماذا تعني ؟.. هل تستظرف حضرتك ؟
قلت: ولماذا أستظرف يا أخي ؟!.. هل أعرفك ؟.. هل تعرفني ؟.. ينبغي أن تفهم أن لكل كلمة دلالة ومعنى وأنها فعل ورد فعل في آن واحد.. و"السح الدح إمبوه" هذه التي ترفضها هي في واقع الأمر تعبير واقعي ورد فعل لللامبالاة التي نعيشها.. إنها تعبير عن الخلط الذي يحدث في مجريات حياتنا .. تصور!!.. كانت "السح الدح إمبوه" " وكله على كله " منذ ثلاثين أو أربعين عاما أو أكثر تحمل معنى الجملة القديمة "سمك لبن تمر هندي"
بدوت للقارئ وكأنني ككاتب أريد أن أتلاعب به وأن ألعب بمفردات اللغة لكي أجهز عليه فراح يتجنب اللكمات التي يصوبها له كاتب مبدع.. فيميل هنا وهناك دون أن يلجأ إلى المراوغة أو الخروج عن الموضوع.
يصرخ القارئ: لماذا تصر أيها الكاتب على لغتك وتعليقاتك وتحليلاتك ؟.. لماذا لا تسمعني قليلا ؟
قلت له ( على مضض ): تفضل.. هات ما عندك
قال: لقد كونا رابطة من القراء لن تقرأ لك.. وكتبنا في قرار المقاطعة بأننا لن نتعامل بعد اليوم إلا مع كتاب ومحرري الحقيقة
قلت: ومن هم كتاب الحقيقة في نظرك ؟
أجاب على الفور: كتاب ومحررو الحوادث والجرائم والوفيات
دار الحوار بعد ذلك حول مفهوم الحقيقة ونسبيتها ومقدار الوعي والهامش المسموح به في حرية الفكر والعقيدة وما هو التلفيق وما هو الصدق لكنه أصر في النهاية " بلهجة آمرة " بأنني ينبغي أن أنصاع إلى رغبة القراء وأن أبحث عن حقيقة أكتب عنها ثم راح يهدد ويتوعد قبل أن يغلق الهاتف في وجهي:
ـ قل لرئيس تحريرك أنه والكتاب الذين يعملون معه لا يتلقون أجورهم ومعاشاتهم من الجريدة وإنما من إشتراكات القراء والكادحين والباحثين عن الحقيقة فإن لم ينصع هو الآخر أغلقنا له هذه الجريدة.
لا جدال بأن القارئ هو الممول وهو صاحب المنفعة وطالب الحقيقة.. ولا جدال أيضا بأنه ينبغي على ككاتب أن أرضي أذواق أكبر عدد من القراء .. أعترف بانني قد وقعت في حيرة من أمري وأنا أقلب نفسي بين زبائني من القراء.. من أرضيهم ؟.. ومن لا أرضيهم ؟.. وهل المطلوب هو الرضا ؟.. أم نقل الواقع ؟.. لا.. ليس فقط نقل الواقع ولكن التعامل معه بحرية ووعي.. مازالت السماعة بين يدي ألعب بها وأنا شارد.. لا أصدق أن يغلق القارئ الهاتف في وجهي .. فألقي بالسماعة في حنق ثم أستطرد :
ـ ماذا يتصورني هذا القارئ الغث.. أكاتب من كتاب الزفة ؟.. أم ماذا.. لا بد أنه مدسوس.. مأجور.. يحاول أن يلوي عنق الحقيقة بإيعاز من غيره.. ولكن لا.. لا يمكن أبدا.. سأكون دائما ملكا للحقيقة وليس سيفا عليها.. مهما كلفني الأمر ومهما تعرضت له من أهوال.
أقع في حيرة أخرى حينما أكتشف أن هناك كثيرا من الحقائق التي لا يريد الناس أن يسمعوا عنها لأنها تجرحهم وتكشف عوراتهم.. القضية إذن بين الكاتب والقارئ قضية مرتهنة بما يقال لكن ما يقال ليس دائما ما يكون الحقيقة
يقولون دائما أن إبداع الكاتب لا يظهر بدون قراء لذلك فأنا أعشق كل القراء على إختلاف أذواقهم ومشاربهم.. أحاول دائما أن أضع الحقيقة في قالب مقبول دون أن أغلفها أو أموهها لكنهم مازالوا يطلبون المزيد من الحقائق.
لا للتحليلات السياسية.. لأنها تعبر عن علاقة الشعب والحاكم بالسياسة.. فإذا جاءت هذه التحليلات لمصلحة الحاكم ظن القارئ أن الكاتب قد باع ضميرة بحفنة من الدولارات.. وإذا جاءت لمصلحة الشعب ظن الحاكم بأننا نثير الناس عليه ونستعدي الشعوب ضد حكامها.. قضية خطيرة إذن أن تكون الحقيقة واضحة ولا يقبلها الجميع لكن أخطر ما في هذه الحقيقة أن تكون ملونة
لذلك فقد قررت قرارا حازما تلبية لرغبة القراء ونزواتهم وأهوائهم ولكل من يدفعونهم أن أتحول من السياسة إلى الأدب أو الفن أو حتى إلى صفحة الوفيات إن أجبرت على ذلك.. لكن القراء دائما يعودون مرة أخرى إلى مراجعة الكاتب وتوجيه النقد له.. يتساءلون دائما: لماذا يتراجع الكاتب ؟.. ولماذا يتخلى عن رسالته ؟ !!! دون أن يبرروا له عذرا أو يضيفوا له سببا من أسباب شقائه ومعاناته في الحياة والبحث عن الرزق.
كان لا بد إذن أن أبحث عن حقيقة غير ملونة وعن رسالة أحملها للقارئ في نطاق الحقيقة التي يبحث عنها ولا يتأفف منها.. كان لا بد أيضا أن لا أتخلى عن رسالتي وآرائي الخاصة فإخترت نموذجا يستلهم القارئ تجاربه منه ويعبر برموزه عن إبداعات الكاتب وأفكاره وفلسفته وقدراته الفنية للوصول إلى نموذج للحقيقة الإنسانية فالقارئ يريد أن يعرف ما فعله الآخرون حتى يهتدي بهم ويتثقف من معارفهم ويجد المادة التي يدور حولها معظم حديث اليوم في أوقات الصفاء أو عند حاجته للراحة من عناء العمل.
التراجم إذن أفضل من التحليلات السياسية ومن أخبار الجرائم ومن صفحات الوفيات وسرعان ما تحولت من كاتب إلى حانوتي أبحث عن جثث الموتى كل يوم لأسأل عن القادم الجديد إلى صفحة أثيرة للقراء.
أعتاد كل يوم أن أخطف سماعة الهاتف عند الصباح وأدير أقراص النمر المحفورة في ذاكرتي كالوشم.. لا أبدأ بتحية الصباح في العادة فالأصدقاء يعرفون نيتي.. يرد صديق على الطرف الآخر من الهاتف عابثا: وحدووه
أردد بإبتسامة ودية لا إله إلا هووه.. ماذا عن أحوال الجثث اليوم ؟.. يرد الصحفي المخضرم: لم يمت أحد اليوم
أجيبه على الفور: ماذا تعني ؟.. أتريدنا أن نغلق الجريدة ؟.. يا صديقي العزيز.. جريدة بلا موتى يعني جريدة بلا قراء
يعلق: أنا لست عشماويا
أرد: أنا لا أريدك أن تقتل أحدا.. إن كل ما أريده أن تنظر فقط في أخبار الوكالات والإذاعات وأن تعطيني خبرا أسودا أكتب عنه
يسأل: ماذا عن ذكرى مارلين مونورو ؟
أجيب: قديمة.. أريد ميتا جديدا.. طازجا.. أحدث ميت.. لم يسبق أن تكلم أحد عنه من قبل
هكذا يتكرر هذا الحوار يوميا بيني وبين أصدقائي الصحفيين العالمين ببواطن الأمور ولا يهدأ لي بال إلا إذا وقعت على فريسة جديدة من جثث الموتى من المشاهير لكن رئيس التحرير لا يزال غير مقتنع بهذه الطريقة فبعد أن أحصل على إسم المتوفي ووظيفته وهويته وشهرته وحالته الإجتماعية والعالم الذي يبحر فيه تكون الجريدة قد إكتملت وأصبحت جاهزة للطبع
لم يكن أمامي غير لعبة الإرشيف والملفات.. قلت لنفسي لماذا لا أجمع الجثث في ملفات وأبحث عن أسماء الصفوة من الكتاب والفنانين والأدباء الذين يتوقع موتهم قبل غيرهم.. يتأفف من رؤيتي إناس كثيرون لا يحبون التشاؤم ولا يريدون أن أبدأ رحلة الموت قبل نهاية الحياة.. أقول لهم: لدينا الكاتب المخضرم الكبير نون جيم والرسام العبقري ميم حاء وال...
يرددون بغية مقاطعتي: فأل الله ولا فألك
وهكذا أصطدم من جديد بمزيد من النقد من العشاق والمحبين للصفوة أو المشاهير من هؤلاء الكتاب والمبدعين لكنني رغم ذلك عقدت العزم وأضمرت النية بفتح الملفات
لدي ملفات لكتاب كثيرين .. يوجد أيضا رسامون وقصاصون وشعراء من جنسيات مختلفة لكن الأعمار كما نعرف بيد الله سأبقى منتظرا ساعة الحسم وقضاء الله.
في كل يوم أرفع الملفات من أرففها لأزيل الأتربة من عليها ثم أعيدها إلى حيث كانت.. يأتي أحد الأصدقاء فيرى الملفات والأسماء فيعترض ويدور على باللائمة:
ـ لماذا تبحث عن الموتى بين الأحياء ؟
أرد: أؤكد لك أنها فكرة واقعية غير متشائمة.. فأنا أحاول قدر الإمكان أن أكون مع الفقيد وليس ضده وأن أحتفظ بإسمه في أذهان الناس قبل أن يواريه التراب
يقول: نظرية سيئة إعتدنا عليها منذ أجيال طويلة فطريقتنا في التكريم تبدأ بعد الموت أما قبل الموت فإننا نسمح لأنفسنا بالنقد إلى حد السباب وبالتجريح إلى درجة الإهانة ثم نأتي بعد ذلك على إبداع الفنان أو الكاتب حتى نجهز عليه
أقول: يا صديقي إنها مسألة عرض وطلب فالقراء يبحثون عن الإثارة
يرد: دعك من القراء الذين يبحثون عن الإثارة على حساب الحقيقة
أسأل: وماذا عن هذه الملفات ؟
يجيب: أحرقها مزقها إخفها إن شئت.. لكن أرجوك لا تتعامل مع الأحياء كأنهم موتى
أنصاع مرة أخرى لرغبات أصحاب الخبرة والفن الصحفي وأبحث من جديد عن الحادثة التي تحدث اليوم بطريقة السبق وأقول فيها ما شئت وإن جاءت على النقيض من رغبة القارئ
ذات ليلة قمت ومزقت كل الملفات وتركت لنفسي العنان لكي أكون مبدعا من الخيال.. كان من بين شخصيات الملفات التي مزقتها رجال عظام وفنانون مبدعون وموسيقيون وكتاب.. في تلك الليلة وأنا أمزق ملف الكاتب المعروف الذي كنت قد توقعت موته.. لم أكن أعرف لماذا يعتريني الإحساس بالخوف وبالتوقع المحزن.. لكنني عرفت كل شيء في الصباح ففي الوقت الذي كنت أمزق فيه الملف كان الكاتب نون جيم يعاني من سكرات الموت.. وحدوه
- آخر تحديث :
التعليقات