بما أن موضوع الندوة هو "مكونات التحديث في الأدب المغرب الحديث" فقد بدا لي أن الجنس الأقرب إلى الموضوع من غيره هو القصة القصيرة، من جهة لأن ظهوره وتطوره في الأدب المغربي يتزامن تقريبا مع المرحلة المحددة، ومن جهة ثانية لأنه من الممكن أن يعتبر في ذاته تحديثا وسم تطور الأدب المغربي، وأشر على تحول في الوعي بالفعل الأدبي وبعلاقة الأدب بالعالم، ذلك أن ظهور القصة القصيرة، سواء كان بتأثير من الأدب الغربي أو المشرقي، هو استجابة لعدة دوافع تواصلية عامة وجمالية وإيديولوجية.. تعبر بعمق عن تحول في شكل تمثل وتمثيل لحظات تعالق الوعي المبدع بالواقعين الفعلي والجمالي..
لقد عمدت أغلب الدراسات التي اهتمت بنشوء وتطور القصة القصيرة في المغرب إلى مبدأ التحقيب، وعملت من خلاله على استنباط الخصائص المتشاركة بين نصوص كل حقبة، انطلاقا من النظر المتزامن إلى العلاقة بين شكل ومحتوى القصص، وشكل وعي الكتاب بالعالم ثم شكل تصورهم لعلاقة الكتابة بهذا العالم.. لتخلص من خلال ذلك إلى ضبط أشكال التطور والتحديث المحايثين للكتابة القصصية. والتي يمكن إيجاز أهمها في الملاحظة التالية:
لقد تغير شكل تمثيل القصة القصيرة للعوالم الواقعية والمتخيلة، بدءا من السبعينيات بفعل النكسة، حيث شيئا فشيئا بدأت تتخفف من صرامة محاكاة الواقع المرجعي الذي لم يعد معيارا للصدق الفني، وأخذت العوالم الذاتية والفردية تأخذ مكانه. كما أخذت الحكايات المؤسسة للقصص في التخلص من الاكراهات الإيديولوجية ببعديها الأخلاقي والمؤسساتي. وهكذا بدأت تنحو نحو العجيب والرمزي.. وقد نتجت عن ذلك عدة تغيرات، مست مسويي المحتوى والتعبير، وهي تغيرات يمكن اعتبارها أشكالا تحديثية، أهمها تراجع الاهتمام بالحكاية بمقابل الاهتمام بالحكي وباللغة التي أصبحت في العديد من القصص غاية وليست وسيلة، وتراجع الاهتمام بالتماسك الحدثي والزمني، بمقابل تزايد الاهتمام باعتماد أشكال المفارقات الزمنية، وبالعمل القصدي على تفكيك البناء عن طريق الإكثار من العناوين الداخلية والفقرات المستقلة بذاتها دلاليا..
وباختصار بدأت القصة المغربية منذ السبعينيات تتخلص من سلطة النصوص التأسيسية، وتنهج شكلا متفردا يناسبها بوصفها تعبيرا برقيا عن حالات خاصة ووجيزة مُقْتَطَعَةٍ من عالم مشتت ومن لحظاتِ ذواتٍ حائرةٍ وسط هذا العالم المشتت، مقتربة بذلك من الشكل الأساسي الذي يناسبها بوصفها الجنس السردي المعاصر الوحيد الميتا تاريخي. ولكي نقترب بشكل ملموس من بعض الخصوصيات التي تطبع سيرورة تحديث الكتابة القصصية، سوف نعمل على وصف بعضها انطلاقا من تجربة الأستاذ أحمد بوزفور. وقد اخترنا التمثيل لعناصر التحديث بتجربته، لعدة اعتبارات أهمها كونه الوحيد تقريبا الذي أوقف اهتمامه الأدبي على القصة القصيرة كتابة وتنظيرا ونقدا دون سواها. وبكون تجربته تمتد على مسافة أربعة عقود، إضافة إلى كونها تشكل نمطا من التحديث المتجدد الذي لا يسقط في المغامرات غير المحسوبة للتجريب، ولأن العناصر التي يمكن أن نستنبطها من تجربته، يمكن أن تصدق على عدة تجارب قصصية عميقة أخرى:
يؤدي التأمل في تجربة الأستاذ أحمد بوزفور إلى استنتاج عدة ملاحظات، سأكتفي بذكر أهمهما وتتمثل في الطابع المتميز جدا لنصوصه المتمثل في أصالتها الكامنة في عدم تأسسها على تقليد تجربة مغربية سابقة عليها أو معاصرة لها، وفي وفائه لجنس القصة القصيرة، وفي اهتمامه بالنوع على حساب اهتمامه بالكم.
ولما كانت مظاهر التمييز متعددة، بحيث تتطلب مقالا مخالفا لهذا المقال ومقاما مخالفا لهذا المقام، فسأكتفي هنا بالإشارة العامة إلى أهم سماتها وفق تصوري الخاص عنها وقراءتي الخاصة لها. وسأحصرها في خصوصيات مقولتي السارد والكاتب الضمني ، و الفضاء القصصي، واللغة السردية:

خصوصيات السارد والكاتب الضمني
إن ما يميز السارد - سواء كان شخصية محورية أو لم يكن – كامن في عدم تماهيه مع الكاتب أو مع شخصية اعتبارية ذات ظلال واقعية ما. إذ يبدو – على الأقل ظاهريا – بدون مرجعية سياسية أو انتماءات طبقية أو عصبية إثنية، مثلما يبدو بدون مشاريع كبرى. بيد أن ذلك لا يعني أنه ضيق الأفق، أو ذا وعي مجرد بالذات وبالعالم، بل إن له مرجعية شاملة وعامة وأحيانا موسوعية، مرجعية تستند في الغالب على نص الثقافة الشامل، نص يضم النصوص الأسطورية والدينية والتراثية والشعبية الخ. وهذه الخصائص المتعالية التي تحكم طبيعة السارد، سواء كان شخصية محورية أو لم يكن، هي نفسها التي تحكم طبيعة الكاتب الضمني، وبذلك تساهم في انسجام تام مع بقية العناصر السردية الأخرى في خلق الفضاء المتميز لتجربة بوزفور، الماثل في انفتاحية نصوصه وغناها الدلالي والمعنوي.. وفي مخاطبتها لنخبة معينة من القراء الذين يفترض فيهم التوفر على حد معقول من المعارف التاريخية والأدبية، وعلى حد معقول أيضا من القدرات والمهارات الإدراكية بتحولات الواقع الذي، وهو يحاول التسامي عنه، يغوص فيه عن طريق مرجعية الكتابة وأخلاقية اللغة.

خصوصيات الفضاء:
إن فضاء قصص بوزفور هو فضاء مجرد بامتياز، ذلك أن الأمكنة والأزمنة التي تؤثثها ليست سوى حضور تجسيدي لأفكار مجردة. فمكان حدوثها، على الدوام، هو ذهن السارد أو الشخصية المحورية، وزمن أحداثها هو الزمن الماضي المتلاشي والمتقطع الذي لا يحضر إلا مجزأ. ومن ثمة فهو لا يدل بالضرورة على ذاته، ولكن على الزمن الحاضر الذي يستحضره انطلاقا من وعي الشخصية بوصفه تذكرا وموقفا. ومن ثمة فإن مضامين أحداث الزمن الماضي المستحضرة غالبا ما تجهض وتغيب، لأن منطق الذاكرة الذي يستحضرها في لحظات مخصوصة هو نفسه الذي يحجبها، لكي لا يستمر على شاشة السرد الخطية إلا فضاء الذهن وزمن لحظة الكتابة. غير أن هذا الأمر لا يعني البتة أنه يستند في إنتاج قصصه إلى مبدأ الفضائية الحرة التي تعمد إلى الهذيان المفرط الموسوم بإشاعة الغموض المطلق، وطمس المقروئية، بل يعني فقط أنه يتلافى بوعي اعتماد الحكاية التقليدية المؤسسة على الزمن الكرونولوجي البسيط والواضح المتملق لأدنى درجات القراء. فحتى اللحظات التاريخية العامة أو الخاصة ومسارتها المبثورة باستمرار تقدم وفق خطة نابعة من منطق الحكي الذي يصدر عن اللحظة الراهنة وعن وعي الذات، وذلك إما عن طريق اعتماد ضمير المتكلم المسند إلى طفل تخترق وعيه لحظات متغايرة يحكمها رابط التداعي الحر (المؤامرة ونانا..على سبيل المثال)، أو ضمير المتكلم المسند إلى ذات تعي الواقع من خلال أحلام اليقظة أو من خلال نوبات الهديان وما شاكلهما ( سرنمة..)، أو عن طريق تناصات مباشرة تدمج عن طريق تقديم مقروءات الشخصيات مثل مقاطع من جرائد فعلية أو متخيلة.. لكنها مقاطع لا تعدو كونها آليات سطحية لتجسيد الفكرة، وهو تجسيد لا يشكل المعنى، بل يجذر الفكرة المجردة في مرجعياتها الواقعية.
بهذا الشكل يستطيع بوزفور المواءمة بين الشكل الفضائي والشكل الزمني، بين الكتابة الساذجة المنفرة والمملة وبين الكتابة الملغزة والملتبسة، بين كتابة تنهض من الواقع الراهن وبين الكتابة المحلقة المنفصلة عن شروط إنتاجها. إذ الملاحظ دائما أنه في الوقت الذي تشكل فيه الأحداث الزمنية الواضحة تجسيدات لجزء من الفكرة التي تنميها القصة، يقدم استراحة للقارئ ومدخلا لحصر الإمكانيات الدلالية. وإذا حدث وأحس بعدم قدرة السرد على الاضطلاع بذلك فإنه يسخر السارد لكي يقوم بالمهمة، حتى يظل المعنى أكبر من المدلول الاجتماعي بكثير وأعم من مصائر محددة، بل مرتبطا بقضايا إنسانية أكثر جوهرية..

خصوصيات المستوى اللغوي:
وفق نفس الاستراتيجية ينتقي بوزفور لغته بحرص كبير، حيث يتعذر أن تجد عبارة واحدة تشوش على مجاوراتها في نفس السياق، فلا حشو ولا اسهاب. إنها في الغالب لغة موحية تولد الاستعارات الفريدة وتنافس اللغة الشعرية في رقيها، إلا أن طاقة الإيحاء الخلاق فيها تمتلك الكثير من مقوماتها من أشكال إدماج اللغة العامية، إما محورة أو كما هي. والمثير والمميز هو أن هذه اللغة الرصينة المطبوعة بالأصالة، تتنازل من عليائها، بوصفها ممثلة للمركز، لتفتح ذراعيها بين الفينة والأخرى للهجة العامية، ويحدث ذلك دون أن يحس المتلقي بتغير في المستوى. إلا أن دخول هذه الأخيرة يظل مشروطا بكونها إما تعبر عن منتوج ما يصعب على المتلقي فهمه إذا ما حدد باللفظة الفصيحة (الساحوت، المشيطة..)، أو تعبر عن حالة وعي يعجز التركيب الفصيح عن تجسيدها. كما أن أغلب العبارات العامية المدمجة والموظفة تشكل استعارات عميقة وأحيانا ساحرة تضفي على الأسلوب بهاء فريدا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر (يَا بَارِدَ القَلْبِ، (امضغ تمضغك الأيام)، (نحن في كسرة أمريكا؟..)
ثم إن الشكل الذي يدمج به ألفاظ وعبارات اللغة العامية، يختلف عما ألفناه، حيث لا يتعلق الأمر بتحقيق محاكاة تضفي وهم الواقعية على ملفوظات وخطاب الشخصيات، كما لا يتعلق بمجاملة النقد السردي الذي احتفى خلال عقود بتعدد اللغات والأصوات، أو بالتعبير عن وعي طبقي أو إيديولوجي أو حتى عن مضمون وعي ما بالعالم، بل يتعلق أساسا بنقل الهامش إلى المركز، كي يشوش عليه ويحل مكانه. وبذلك فإن اللغة العامية عند بوزفور تثير إليها الانتباه ليس بوصفها تعالقا بسيطا بين النص والعالم، أو بين النص والواقع الاجتماعي، بل بوصفها أداة لبناء الصورة الذهنية الفعلية التي تحتاجها القصة في لحظة من لحظات نموها.
إن تضافر كل هذه العناصر وانصهارها المتسق في قصص بوزفور، هو الذي يمنحها ذلك البعد الدلالي الغني، ويجعل مدلولها منفتحا على عدد من المعاني الطيعة، التي تظل خاضعة لما يوجهه سياق القراءة والتلقي، على اعتبار أن ما يجسد السياق في هذه القصص هو ما يستنتجه القارئ الفعلي نفسه.

يشكل هذا المقال نص المداخلة التي شارك بها الكاتب في ندوة (مكونات التحديث في الأدب المغربي الحديث) والتي نظمتها رابطة كتاب المغرب بالرباط.