حول كتاب المعدان- الفرد ثيسكر

والناشر العربي وعالم الضوئيات ابن الهيثم

فاضل الخياط: ليس للمعدان من ينصفهم. كأن قدرهم ان يحملوا سر الحياة دون ان تكون لهمحياة. وان يعلـّموا البشرية معجزة الحب دون ان يجدوا من يمنحهم حبه. حزنهم سرمدي، وليس كذلك وجودهم. اكتافهم سهلة المنال، كأنْ لا يطربهم غير ان يكونوا فرائس... قلوبهم مشرعة كباب مخلوع.. كذلك دماؤهم. تحت اقدامهم جنات الارض ولايجدون زادا لهم.. تغمرهم المياه حتى هاماتهم ويهلكون ظمأ. ليس من شبر في الارض الا وترقد تحته ضحية منهم.
ثمة مثل سائر يقول quot;اذا اردت ان تعرف امة فاستمع الى اغانيهاquot;. يمكن تحوير هذا المثل قليلا ليكون quot;اذا اردت ان تعرف امة فانظر في كتبهاquot;. وليس من امة على وجه البسيطة يمكن الاستدلال عليها من كتبها مثل امة quot; اقراquot; الباسلة. اقول هذا وبين يدي نسخة من كتاب الاهوار - الفرد ثيسكر بترجمة حسن ناصر الذي صدر مؤخرا عن دار الشؤون الثقافية في بغداد. كنت قرأت الكتاب في نسخته الانكليزية. واطربني ان يجد الكتاب مترجما بمهارة وشعرية الصديق حسن ناصر. وقد قرأت الفصول الاولى من ترجمة الكتاب بخط يده الانيق. كانت قراءة تلك الفصول متعة حميمة، لامستني عميقا لغة المترجم. كان الجانب الاكثر حساسية وصعوبة في عمل كهذا هو ترجمة حوارات وتعبيرات اوامثال من الانكليزية الى العربية. ترجمة تقوم اساسا على رد الامور الى اصلها الام، تشبه عملية البحث عن شخص لا تملك منه سوى ظل له، او نسخة محرفة عنه. لا احاول هنا شهادة في المترجم ولكني حين قرات النسخة العربية قلت هذه ألسنة اهلنا ردت الينا.
لم يكن المخاض يسيرا على المترجم، رغم ان البضاعة بين يدي اهلها وحملة امانتها، فهو ابن تلك المياه وهو عليم بمشاحيفها وطيورها وقصبها ودلاتها فضلا عن معرفة حميدة باللغة الانكليزية. اعانته على ذلك رحمة التكنولوجيا فكان للمكالمات الخارجية الى العراق - حين لم تكن كلفتها ولا امكانها قد تيسرا بعد حتى انبثاق الحرية الاخير في العراق- ان تسد ما غاب وان ترمم ما بليَ من ذاكرة نثرتْ عليها المسافات وتقادمُ الزمن رمادَها وحلكتها. حتى افاض اخر العُسر عن قمر، طال انتظاره وطال السؤال عليه، ولم تكن الامنية باكثر من ان يُكسى هذا الجنين بحلة ترحم بياضه وان تكون على الاقل امينة للثماني الشداد - هل كانت شديدة على ثيسكر- التي قضاها بين ظهراني اهلنا في الاهوار مستأنسا برميض حرها وصليل بردها، حامدا على وخز البعوض والبراغيث، كي يترك لنا ما نستعين به على استعادة اطياف من اصبحوا اثرا بعد عين، وان نبلّ قليلا ظمأ العين بعد ان تهاوت الرمال على حياة وبشر، فرُفعتْ المشاحيف على الاكتاف وجفتِ السماء.
كنت اتابع غير بعيد، رحلة الكتاب من غبار الى اخر، حتى علمتُ بصدوره متزامنا في طبعتين، الاولى قيد الحديث، والثانية عن دار الجمل لصاحبها خالد المعالي. وضعتُ كلتا يديّ على خشب الطاولة حيث كنت انتظرتُ بشغف، كمن ينتظر حبيبا غائبا، كتابا كان جاهزا للطبع مع اول قطرة ماء عادت الى الاهوار ومع اول قصبة للاسف حتى الان لم يتيسر لي ان اقف على فرعها، وان اصغي الى هفيفها. ولمّا تبلغ الغاية بعد.
وكما هو الحال مع يأسي وعدم رجائي لاي خير من اهل الحل والعقد، كانت رؤيتي للكتاب موجعة، وان لم تكن مفاجئة طالما كنتُ كعهدي بالناشرالعربي لا انتظر خيرا ولا صلاحا. فما ان تصفحتُ اوراقه حتى عرفتُ ان لي خوفا كان في محله، وان ثمة عزيزا في النسخة الانكليزية الاصل تمتْ ابادته او، quot;تجفيفهquot; بتعبير ادق،من الكتاب في حلته العربية. كنتُ كمن يحدق في جنين ولد بنصف جسد، او في طائر بجناح وحيد. شعرتْ كأنّ فلذة سقطتْ من قلبي، او كأن مياه المعدان تجفف مرة ثانية. وكأن حياتهم تمحى مرة اخرى.
لم ار النسخة quot;الجمليةquot; ولكني اعلم ان ايا من النسختين لم يُعد نشر صور الكتاب وهي بعدسة ثيسكر نفسه، وهو حريف صور وصاحب عين شفيفة.
ليس لي من لوم تماما على الصديق حسن ناصر، اعلم ان ليس له من يد في الامر، واعلم يقينا كم عانى وكابد من اجل ان يحصل على ناشر للكتاب. فلا يمسنـّه الكلام من طرف ولو بعيد، بل على العكس، آمل ان يكون الحديث استنصار له، لخيبته، وهي ليست اقل من خيبتي بالتاكيد، ولجهده الكريم في الكتاب. وليس من حرج ايضا على صاحب الجمل، وقد التمسُ له عذرا، مدركا مدى تعلق الامر بضيق ذات اليمين، ومع ذلك فهو عذرلا ينصف ولا يبيح. اما عزوف دار الشؤون الثقافية او عزمها، وفي ظهرها ميزانية دولة ورؤساء تتهدل جباههم وجيوبهم زكاة وبريقا، فلا اشك وبعض الشك حكمة وفطنة، ان في الامر تدبيرا وقصدا، وان في المخادع يدا، تجاسرتْ في حلكة وخنس وخبث على ان تطمر عقابيل جريمة غير مسبوقة بحجم ازالة الاهوار،كي لا يبقى ما يشير اليها وما يذكر بها.
لا دراية لي بكادر الشؤون الثقافية الحالي ولا بتوجهات الدار او محمولاتها الحزبية او الدينية او العرقية، وليست لي خصومة مع احد. وبما انها ليست بدار نشر خاصة، فهي بذلك تعكس سياسة الدولة ان لم نقل ان الدولة او وزارة الثقافة ان كانت تابعة لهذه الوزارة او لغيرها تتحمل شطرا من سياسة الدار او كلها وفقا لقانون المحاصصة او لمفهوم التدرج الوظيفي. على الاقل لكي يتضح لنا الخيط بين سلطة الامس وسلطة اليوم. فلو حدث امر كهذا في سلطة البعث لكان طبيعيا ومفهوما، ولكن ان يتم في زمن دولة الضحايا . فهو امر يتطلب اكثر من توضيح.في النسخة الانكليزية التي بين يدي ثلاثة وخمسون صورة ليس لها من اثر في النسخة العربية، اللهم - والحديث عن نسخة الشؤون- الا صورة واحدة وحيدة في الصفحات الاولى. تمثل الصورة صبيا يمسك بمردي، ثيابه متهرئة وزيجه مشقوق. ليس استنكافا بالطبع، وانا واحد منهم بفخر، من زهد المعدان في الثياب، فما حاجة السمك الى ثياب. ولا نريد ان نسرح مع حس المؤامرة، ولكن في الوقت نفسه، لانريد ان تكون القلوب سمكية - في تعبير الصديق كمال سبتي - الى ابد الابدين، فما معنى اختيار صورة يتيمة غير دالة كهذا من بين ثلاثة وخمسين صورة اخرى، ولماذا الزيج المشقوق تحديدا. لماذا لم تنشر الدار- والحديث عن نسخة quot;الشؤونquot; - مثلا صورة للمضيف او للجواميس التي نفقت او للمشاحيف وهي بعدد اهلها او اية صورة اخرى تعكس حياة الاهوار وطبيعتها.
يعلم جميعنا ان قوة الواقعة، اية واقعة، صغيرها او كبيرها، في الصورة التي تحملها وتظهرها الى العلن، والا طمرها الغياب وكانت هي والعدم سواء. ولجدنا العظيم عالم الضوئيات ابن الهيثم براءة في اختراع الكاميرا رغم انها بقيت اختراعا على ورق. وربما كان لكراهة التشخيص او حرمته وعجز البشر عن نفخ الارواح في التماثيل والصور في نشاطاتنا التكفيرية ماكان حائلا ومانعا دينيا متينا من شيوع ثقافة الصورة في الحياة العربية القح.
اما كتاب ثيسكر فيكتسب اهميته تحديدا من كونه وثيقة تاريخية في وقت ليست الحاجة اليه باكثر من انصاف اخلاقي.صورة واحدة تعادل الف كلمة كما في القول الماثور، ويحضرني هنا قولة للصحفي جوناثان راندل صاحب الكتاب الشهير عن الاكراد quot;دروب كردستان كما سلكتها، او كما ورد في الترجمة العربية امة في شقاقquot; حيث يؤكد ان بث صور عن ماساة اكراد العراق، بعد انتفاضة 1991 في التلفزيزن الامريكي كان وحده كفيلا بردع حكومة صدام واجبارها على اخضاع المنطقة للحماية الدولية، بينما لم تفعل امريكا- والكلام مايزال لراندل- الامر نفسه مع ماساة الشيعة في الجنوب، ولو فعلتْ لوُضع جنوب العراق انذاك وبسهولة تحت الحماية الدولية كما حدث مع الاكراد. وهو تعبير خطير ودقيق من رجل بقامة راندل. ولاحظوا معي المفارقة في تشابه الحادثتين، بين غض الطرف وعدم بث صور ضحايا الشيعة في التلفزيون الامريكي وبين حادثة ازالة او محو صور كتاب الاهوار.. فليس اقل عرفانا واعتذارا لمن شردوا من مائهم واُهلك حرثهم ونسلهم، وأَحرقَلهيب الصحراء قصبهم من ان تتكرم دولتنا المهيبة باستعادة اطيافهم. quot;ففي كل صورة استعادة للميتquot; على ما يقول رولان بارث.
الكتاب في نسخته الانكليزية كما يصفه محرر الديلي تلغراف ه. د. زيمان بانه تحفة، وهو بحق اسم لمسمى. تحمل صورة الغلاف مشهد الهور في ابهى تجلياته، اكواخ قصب في افق قريب، وفي اول المشهد نصف مشحوف يرتفع قيدومه كمنجل ضخم مخترقا نسيج قصب البيوت وعن شماله نصف مشحوف اخر تنتصب عليه عباءة سوداء في يدها مردي يخترق المياه والى خلفها عباءة سوداء هي الاخرى تربعتْ في وسط القارب، وما بين القاربين مياه وبعض قصبات رهيفة تقف مثل اهلـّـة نحيفة مائلة، تحمل المياه صورة المشهد مقلوبة في ازدواج رحيم، فلا تكاد العين تدرك، اذا ما قلبتَ الكتاب راسا على عقب، اي المشهدين هو الاصل وايهما المرآة.
هذا عن الغلاف ، اما الصور، او التصاوير بتعبير اهلنا الدارج، في ثنايا الكتاب، فتمسك بتفاصيل الحياة في الاهوار، تكمل الواحدة الاخرى وتتواشج لتشكل quot;متناquot; بصريا آخر يحايث المتن الكتابي ويعاضده، بل انها تكاد ان تكون اس الكتاب وعموده الفقري، ويكاد النص لا يبلــّغ مدلوله كاملا دون ان يكون مشفوعا بتلك التصاوير.
ثمة مشاحيف طافية على الماء، يجاورها قطيع جواميس في لحظة استجمام، مضايف عائمة و اخرى قيد التاسيس . صانعو قوارب يطلون ظهر المشحوف بالقار. رجل يقف في اعلى احد اقواس المضيف في اوليات تشييده. صبي في الخامسة من العمر او الرابعة يقف وحيدا علىquot; حزمة قصبquot; متهلهلة في قلب الهور وفي يده مردي. قيدوم مشحوف ترى زخرفته على هيئة قرن جاموسة. سفينة تحمل قصبا. بلا ّ مة يجرّون سفينة بحبال الىاكتافهم على ضفة نهر. صورة الشيخ جاسم الفارس شيخ الفرطوس. ام حسن quot;عفارةquot; عقدتْ عصابتها جالسة في خشوع رحماني وقد شبكت يديها قريبا من احداهما الاخرى. هوسة حرب لال فرطوس. ال عيسى يحتفلون بعيد رمضان. رجل والى يمينه فتى يحوكان بارية quot;حصيرةquot; باصابعهم. امراة في حوالي العشرين تجلس تحت صريفة تراقب جاموسها في الماء، تضع يدها على خدها والى ظهرها حِب quot;زير ماءquot; .
تتحدث الصور ايضا عن مشهد مضيف من الداخل، مشهد طولي، تتقوس اضلاع المضيف بحلقات نصف دائرية، في اول المضيف عدد من الدلات يجلس قبالتها القهوجي، رجال عن اليمن وعن الشمال، صفين من الرجال اظنهم عشرين رجلا، الله وحده يعلم باسمائهم ومصائرهم ومنافيهم، ملامحهم غير واضحة ، يصعب الاستدلال عليها وانْ على اصحاب الصورة انفسهم، ولكن رفيقيّ الكاتب، ياسين، وعمارة بن ثكاب، الذين اصطحباه الى عمق الاهوار وجذفا طوال رحلاته، يقفان هادئين بقدسانية تغمرهم ابتسامة اطمئنان وقد لفا كوفياتهما على راسيهما،اين هما الان. ثمة صف من quot;الرجالquot; جلوسا على الارض مستندين الى جدارالبيت الخارجي، يفرقون بين سيقانهم، بعد ان فرغ َ المؤلف من ختانهم. ابنة لشيخ البو محمد تقف بكامل زينتها وقد انسدل شعرها على جبينها. زفة عرس في قارب. هذا بعض فيض امسكته عدسة ثيسكر ووهبته خلودا لا تقدر الكلمات عليه، ارواح هائمة ارتعدتْ كما يبدو من وضوحها دار الشؤون الثقافية فآثرت ان تودعها جوف الرمال، فلن يقدر الدهر ان يصلح ما افسده quot;الطبّاعquot;.
لعلني اجد تماثلا بين هذه الحادثة ومشهد المقابر الجماعية، و لم يتسن لي سوى مشاهدتها على التلفزيون الاسترالي. فما ان قامت العظام في يوم الحشر المعروف حتى تمت مراسيم المحو والاخفاء على اكمل وجه. ولم تجد تلك العظام من يقف لتحيتها سوى لاقامة صلاة الغائب، على عجل،وان يهال التراب عليها مرة اخرى. كنا قلنا وقتها، ان ليس اكثر من انصاف للضحايا وتبرئة للضمير من ان يقام لهم متحف،وليكن اسمه quot;متحف العظامquot; وهو تدبير هين، لا يتطلب اكثر من جدران وصناديق زجاجية، يحمل كل صندوق اسم صاحب العظام ، فيما اذا كان عُـثر له على اسم، وبعض متعلقاته، بطاقته، محفظة نقوده، ميدالية مفاتيحه، مشطه ، علبة دخانه و زناده، كتبه المدرسية واقلامه، دميته والعابه، ثيابه او خواتمه، وكل ما وجد مع عظامه ولا باس ان توضع كسرة عظم معها، وهو تقليد شائع لدى ابناء البشر، ولنا في اولاد عمومتنا اليهود قدوة حسنة. الامر ذاته يصح مع الاهوار، فكم هو طيب الاثر ان يتولى اولو العقد والحل باقامة متحف للاهوار وان يتضمن في بعضه ما تركه لنا صور الرحالة الاجانب الى الاهوار وما انقذته لنا عدساتهم وعيونهم. على اية حال، تبقى مجرد امنية تضاف الى قائمة الاماني واضغاث الاحلام. ومجرد قولة للريح لا ننتظر لها سماعا ولا جوابا.
هذا بعض ما آثر الناشر العربي يظل في طيات الجفاف. و لم يكن القصد من حديثي الشجي بالتاكيد الخفض من اهمية الكتاب كنص ووثيقة بل كمرجع اكاديمي، من رجل بثقل السير ثسيكر وهو كاتب ذي دراية وخبرة، وصاحب اسلوب باهر، ولكن كتابا لثيسكر - كما هو الحال مع جميع كتبه الاخرى ابتداءً من افريقيا صعودا الى افغانستان، وهو اسلوب معهود له- لا يؤخذ الا بجناحيه، الكلمات مع صورها، واذا كانت الكلمات من فضة فالصور من ذهب.
عاش ثيسكر في الاهوار بعد ان قضى خمس سنين في صحراء الربع الخالي. ولعل ولادته في اديس ابابا - اثيوبيا، وطفولته في ادغال افريقيا شكلت طبيعته ووسمتْ مزاجه بروح برية متوثبة، فنشأ كنمر افريقي مستوحشا من حياة المدنية ومتقرفا منها، ولم يتردد عن وصف انزعاجه وكراهيته لتلك الحياة الى درجة انه في احدى رحلاته، بقي لثلاثة ايام في قلب الربع الخالي وحيدا بلا ماء ولا طعام في انتظار رفاق الرحلة الذين اضاعهم، وما ان عثرتْ عليه سيارة عابرة بالصدفة وحملته حتى بدأ يتمتم باسى وغمّ بانه كان يفضل لو هلك في الرمال على ان يجد نفسه جالسا في مقعد سيارة !. كان هاجسه بل هوسه ان يعيش في الاراضي البكر التي لم تلوثها المدنية. لعله سعي محموم لاستعادة انفاس الطفولة الاولى. وما ان وصل مشارف الاهوار حتى اذهلته بفتنتها فيهتف عاليا quot;هذا ما كنت ابحث عنه، لا سيارات ولا اسمنت، هذه جنة عدن التي حدثتنا عنها التوراةquot;.
يتعذر على قارئ الكتاب ان يجد له تصنيفا مناسبا لجهة الانواع الكتابية... ليس كتاب رحلات وان كان كذلك... وليس دراسة انتروبولجية وان حمل الكثير منها... ولعل التوصيف المريح للكتاب هو قراءته كرواية.. شخوصها حقيقيون واحداثها كذلك... وربما تبرر هذا الراي عبارة حملتها مداخل الكتاب quot; الشخوص الرئيسيةquot; وتحتها قائمة باسماء ابطال هذا الكتاب والذين قضى معهم المؤلف ثمانية اعوام، تعرّف الى احزانهم فكان انيسا لها، وعلى همومهم فكان معينا عليها. لم يكن طبيبا وحقيبيته لا تحمل اكثر من المطهرات والمضادات الحيوية والاسبرين وشفرة ختان، ولكنه كان الطبيب الوحيد لهم، وكانت حبوب الاسبرين كفيلة بشفاء اشدالامراض خطورة على حد تعبيره ساخرا من انقطاع السبل بابطاله ومعالجة امورهم بانفسهم. واذ ينقل الكتاب لنا وصفا دقيقا وناجزا عن حياة المعدان وسلوكهم وطباعهم ، فانه يعد سجلا حيا لحواراتهم وامزجتهم ولا يخلو كذلك من استطرادات في بعض الاحيان عن الخلفية الثقافية والدينية التي مارست تاثيرها على عقائدهم واساطيرهم والتي شكلت حياتهم على هذا النحو. وهو اضافة الى ذلك توثيق مهم لاسماء انهار وقرى، وحيوانات وطيور لم يعد لها من وجود. اضافة الى ذلك، يحفظ لنا سجلا لكلمات وتعبيرات لا يمكن العثور عليها الا في رحم الاهوار، مما يجعله وثيقة ومرجعا لغويا بامتياز.يكتب الرجل انطباعاته بصراحة ووضوح عن الشخوص التي التقاها. ومن ضمنهم شيوخ العشائر، وهو اذ يترك انطباعا سلبيا عن اغلب الشيوخ الا ان بعضهم، وهم قلة قليلة على حد تعبيره، ترك انطباعا طيبا لديه ومنهم جاسم الفارس، وابن الشيخ مجديد quot; فالحquot; والذي بنى معه صداقة وثيقة ونقل لنا مشهد موته بالخطأ باطلاق ناري من ابن عم له في رحلة صيد بتوصيف بارع مشفوعا بلوعة وحرقة من يفقد اخا.
لكن علاقته الامتن كانت مع قائدي طرادته quot;كالمشحوف ولكن اكبر حجماquot;، ياسين وعمارة. همومهم هي بعض همه ، وشؤونهم هي بعض شأنه، هو الصديق الذي لا يتردد من ان يتدخل في اشد شؤونهم حساسية وخطورة، مثل تهديده لاحد رجال العشائر حين رفض الاخير منح عطوة quot; هدنةquot; في قضية دم، لاجل رفيقه عمارة الذي وجد نفسه مطلوبا لثار قتل دون ان تكون له يد في الامر، ولعل كلماته تصف المشهد بدقة: quot;اسمع... اما ان توافق علىالعطوة او اذهبُ غدا الى الحكومة ، انت مطلوب لهم واذا اعتقلوك فستمضي بقية حياتك في السجن....quot; وقد ياخذ الكلام منحى اكثر حدة: quot;اقسم بحياتي اذا قتلت عمارة وانا غائب فساعمل على قتلك ايضا ولو كلفني الامر ما املكquot;.
في الكتاب وصف شامل لحياة تتوزع بين مواسم الفيضان ومواسم الجفاف. بين طرق الري وطرق صيد الاسماك. وفيه معارك جدية مع خنازير الاهوار. ولعل الاهم في الكتاب انه ياتي بعد كتابهquot; رمال عربيةquot; ، خمسة اعوام قضاها في الربع الخالي, وهو في اكثر من موضع يعقد مقارنة بين الكتابين او بين سبل الحياة وطبيعتها وطبيعة البشر في المكانين وخاصة لجهة علاقة ابناء القبائل بشيوخهم. فيبدي ثنائه على نمط العلاقة البدوي في الصحراء حيث ان الشيخ وابناء القبيلة في تماهٍ وتشاكل وتعاضد، بينما يتحدث بحرقة ملحظوة عن مدى القمع والقسوة والفظاظة التي عانى منها ابناء عشائر الاهوار منذ صدور الفرمان العثماني والذي قضى بمصادرة اراضي الفلاحين باعتبارها املاكا للدولة، وبدلَ ان تقوم الدولة بادارتها للارض، اوكلتْ امرها الى الشيوخ على شكل quot;ايجارquot; فكانت النتيجة ان اصبح الشيوخ اقطاعيين، بين ليلة واخرى quot;وقمع الابناء الى مجرد فلاحين يعملون مقابل حصة من الحبوب بلا ضماناتquot; ولعل الطريف في المقارنة بين الحياتين، حياة الصحراء والاهوار، ما دار بينه وبين فالح مجيد ال خليفة حين يخبر الاخيرَ بانه ينوي مغادرته رغم الضيافة الكريمة والذهاب الىالعيش في قلب الهور مع المعدان:
- quot; اود الذهاب الى الهور ورؤية المعدانquot;.
- quot;هذا امر سهل سارسلك الى الجباب، انها قرية كبيرة في قلب الهور.
ثم يستطرد المؤلف بقوله: quot;شكرته وكاشفته برغبتي في تمضية شهور بين المعدانquot;. يحاول فالح ثنيه عن قراره بان يقدم له تسهيلات بالذهاب ورؤية المعدان لكن دون البقاء هناك. يصرّ ثيسكر على قراره وبعد ان يصف له فالح صعوبة العيش هناك: quot;بيوتهم نصفها في الماء، مليئة بالبعوض والبراغيث، واذا اردت ان تجرب النوم في بيوتهم فلا غرابة ان تطأ الجواميس وجهك وانت نائمquot;.
- quot;امضيت حياتي بالسفر خلال المناطق الشاقة... لقد قضيت الاعوام الخمسة الماضية في الربع الخالي، تلك كانت الصعوبة الحقيقية، طوال الوقت جائع وظمان، هنا على الاقل بامكاني الحصول على الماءquot;
- quot;صحيح والله، لن تعدم الماء هنا ، ستنام فيهquot;.
الكتاب بحق رحلة شيقة ووصف دقيق لتفاصيلعالم زال عن الوجود في اقل من رجفة عين، وهو يحاول الان استعادة الوجود. وكتاب كهذا، يساعد بالتاكيد ولو قليلا على انجاز مثل هذا الامر.
كتاب طيع اللغة ورحب الاسلوب، دافئ وحميم. من لم يقرأه فقد فاته شيء كثير. ومن لم ير صوره فقد فاته شيء اكثر.
وعذرا لك ايها العزيز ثيسكر عن ابناء جلدتي. مغفرة لهم، فهم لا يعلمون ما يفعلون. وربما هي رحمةوكسوة حظ لك ايها الصاحب، ان ترقد في التراب ولا ترى طائرك الرسولي الجميل بجناح وحيد.
غفرانك اللهم.

* quot;المعدان، عرب الاهوارquot; الفرد ثيسكر، ترجمة: حسن ناصر. دار الشؤون الثقافية- بغداد، 2005
* The Arab marshes, Wilfred Thesiger, Collins; 1985. London.

[email protected]
www.atyaf.20m.com