-1-
الشعر ينبثق في شكل صوت، لا تتبين ملامحه الأولى، لكنه يحمل إيقاعه الخاص داخله.هكذا يأتي الشعر بعد ذلك، كلمة وراء أخرى، صوت يليه صوت ثان، فثالث، فرابع....
الشعر حين يكتمل، وهو دائما ناقص في هذا الاكتمال، تعاد صياغته من جديد، وفق رؤية جمالية، تارة يعتمد الإيقاع الدلالي المكثف بالرؤى، وتارة أخرى يعتمد إيقاع الكلمات، لكن كل ذلك، حتى وان كان فيه جهد، فهو يخضع لنفسية الشعر ذاته، بمعنى أن الشعر منذ انبثاقه الأولي، يحمل ملامح خاصة به.هذه الملامح الأخرى هي التي تحدد هوية الذاتية المتجلية فيه.لكن هذا الأمر لا يعني بتاتا، أن الشعر يأتي من فراغ، معتمدا على الإلهام ليس إلا. بل العكس تماما هو الذي يحصل.الشعر يأتي حاملا لثقافة الشاعر داخله.الشعر لحظة الانبثاق يشي بالنصوص الدفينة في ذات الشاعر، وغالبا ما تعاد كتابته لمحو هذه النصوص المنطوية فيه.هكذا الشعرهو، لحظة شعرية متنامية باستمرار، لا تنتهي كتابته، حتى بعد أن ينشر.كثير من الشعر، أعيدت كتابته، حتى بعد أن نشر، لأن الشعر دائما لا يعيش إلا وهو يعاني من تقصانه.الاكتمال النهائي له يعني موته، حين التفت أورفيوس إلى الخلف مطمئنا أن شعره قد اكتمل وأن الحبيبة التي تجسد فيها تمشي وراءه في كامل زينتها اندثر شعره و اختفت الحبيبة ndash;قصيدته. كتابة المحو تجدد الشعر باستمرار، وتمنحه رؤى مختلفة تجدد دماءه، يوما بعد يوم.انبثاقة الشعر، قد تأتي أيضا بعد مشاهدة وجه أنثوي جميل، بعد التأمل في لوحة تشكيلية، بعد قراءة كتاب متوهج بالاختلاف، لكن الشعر لا يكتمل إلا بعد إعادة صياغته.إعادة الصياغة هي التي تمنح للشعر ألقه و تجليه البهي.في غياب هذه الإعادة، يكون الشعر مثل أنثى رائعة الجمال، لكن وجهها لم يعرف الماء أبدا.الماء هو الذي يضيئها، يسلط ضوء الشمس عليها، فتشع بما يتوفر فيها من جمال أصلي داخلي.هكذا هوالشعر.و هكذا تأتي انبثاقاته، وهكذا يتجلى مشرقا في وضح النهار أو مشعا نورا في غسق الليل.

-2-
كتابة الشعر إذن هي امتحان داخلي للعواطف المتأججة، التي تأتي بدون سابق إنذار، وتذهب بدون إنذار كذلك، إن لم يتم القبض عليها في اللحظة والحين، بنفس السرعة البرقية التي جاءت بها. الشعر كتاب مفتوح على اللا نهائي، لا يحده وزن أو إيقاع داخلي أو خارجي. إيقاعه هو تلك الذبذبات النفسية التي تكون مصاحبة للكلمات المشكلة له، بشكل تلقائي، فكل شعر يخلق إيقاعه الخاص به، لأنه يولد معه، ولا يسعى هو إليه. هذا الإيقاع هو إيقاع شامل يتجاوز ثنائية الداخل والخارج، لينفتح على رحابة اللانهائي.الشعرهو قصد، وهو تجلي وانفلات، يتجاوز حدود الوعي، ويغيب في ثنايا المسكوت عنه، في ثنايا البعد الوجداني والعرفاني والغوص في بحيرة الماء النرسيسي.الشعر هو ذلك البعد الذاتي ،الذي عجز الكلام العادي عن الإفصاح عنه.هو بمعنى من المعاني، موسيقى الجسد والروح، تلك الموسيقى الأورفيوسية التي تهتز لها أشجار الحياة لدى سماعها، وتطرب الأذن الصماء لذبذبات هديرها، لأنها تخترق إمكانية الجدار الصممي، ذلك الجدار الطبيعي والمصطنع معا،
و المصنوع من الحجر الصلد.الشعر هنا يسكن الداخل، وهو بشكل من الأشكال يحضر عن طريق التفاعل مع الكلم النفسي، الذي يسبق الأوزان ويتجاوزها.الشعر يتجاوز ثنائية النثر والشعر، يمعناهما القديم.انه الشعر فقط حين يعلن عن ذاته ووجوده.قد يأتي حين يأتي معبرا عنهما معا حينا، ومتجاوزا لهما معا أيضا حينا آخر، بل في غالبية الأحيان.تجلى في قصيدة النثر كما يتجلى في قصيدة الشعر، لكنه لا يخضع لا للنظم ولا للمحاصرة، فهو فوق الأجناس
التقليدية العابرة. انه مرتبط بالإنسان، وما دام الإنسان يعيش بوجدانه كما يعيش بجسده، فهو مرتبط به أشد الارتباط.لكنه في ارتباطه لا يزور الناس كلهم.فقط يزور ذوي النفوس الكبيرة المهيأة لاستقباله.الشعر كتاب أبدي مفتوح على كل الكتابات، لكنه في انفتاحيته هاته يسعى لتجاوزها جميعا. فالشعر بقدر هذا التجاوز يحقق اختلافه، وبقدر اختلافه يحقق شاعريته، وبقدر تحقيقه لهذه الشاعرية، يكون شعرا أو لا يكون.

-3-
الشعر أيضا شعور استثنائي ،يخترق الذات من الداخل ،ليتجلى قويا على مستوى الخارج.،فيراه الآخرون.الشعر عليه أن يمارس إبهارا للذات أولا وللآخر ثانيا،حتى وهو يتدثر باللاوعي،أو وهو يحاول ركوب أمواج الوعي أيضا.الشعر هو الذات وقد انشطرت شظايا من كلمات.الكلمات هنا هي الأساس ،فما يصنع القصيدة ،كما أن ما يصنع الأدب برمته ،هو هذا التناسق الإرادي أو اللاإرادي بين الكلمات.الشعر هنا تجاوز للأجناس،لأنه قادر على احتوائها داخله بلا استثناء والتواجد فيها أيضا بلا استثناء. الشعر أيضا قادر على الإتيان بجنس مغاير لها تماما، جنس يتجلى انطلاقا من التحولات المشهدية التي يعرفها الأدب.ذلك أن الشعر كان دائما هو سيد التجريب و زعيم الحداثة بامتياز. الشعر مرآة الداخل ومرآة الخارج معا.الشعر هو المبتدأ ، من هنا كانت مسألة اقترافه صعبة.الشعر هو طريق الكلمات السابح في اللانهائي.هو هذا المرئي و اللامرئي.هو هذا الشعور القوي الذي يحول كلمات النحاس إلى كلمات الذهب الصافي. كتابة الشعر اختلافية وتجاوزية في ذات الآن.اختلافية بمعنى أنها لا تشبه إلا ذاتها ،وهي في اختلافيتها هاته، تؤسس لرؤى جديدة وتجديدية على الدوام. وهي تجاوزية لأنها لا تقف عند محطة من المحطات، هي تجاوزية استمرارية، لا أحد يمنعها من السير بعيدا، ولا يقف في طريقها أي حاجز.وهي انطلاقية نحو الكلمات غير المحددة، ونحو الكلمات التي لم تتشكل بعد، لأنها كلمات مستقبلية.الشعر هو وليد الجنون الإبداعي ،في غياب هذا الجنون الإبداعي ،لا معنى للشعر.الجنون الإبداعي يتجاوز حتى ذلك الجنون الذي يتحكم فيه العقل، إذ العقل اللغوي والتصويري هنا غائب.وفي غيابه تنطلق الكلمات كما الخيول في البراري الواسعة حرة طليقة.هكذا هو الشعر.الشعر هو أورفيوس ذاته، وقد هبط بنفسه الى الكلمات مجسدة في أوريديس، حتى وهي تسكن الجحيم، قصد تخليصها منه وإعادتها إلى الوهج النوراني، إلى وجهها الأصلي.قد يصعد إليها أيضا لو ذهبت إلى الأفق النعيمي، ويستلها من هناك خفية عن كل حراس القواعد اللغوية و الصور البلاغية المعهودة والمتداولة، ويعيد تشكيلها في ثنايا كيانه من جديد.الشعر هو الانبثاق اللانهائي للكلام.وفي غياب هذا الانبثاق لا معنى لكل الأجناس الأدبية الأخرى مجتمعة.ذلك أنه هو الذي يخترقها من الداخل ، وهو الذي يمنحها روعة الإضاءة ، ويجعلها تعانق ذاتها فيه ومن خلاله. الشعر ليس هو المستقبل فحسب، هو الماضي والحاضر أيضا وقد امتطيا صهوة الزمن اللا نهائي.الشعر هو الأزمنة الثلاثة وقد تجسدت في زمن واحد كلي عميق. الشعر هو هذه اللا نهائية الزمنية ذاتها، وهي تخترق النفس الإنساني، فتحوله إلى كلام.الشعر هو الكلام ذاته بعد أن تخلص من الكلام.

-4-
الشعر نوع من التصوف الإبداعي التأملي في الذات وفي الآخر.في غياب هذه التأملية التصوفية المنفتحة على السوريالية في أبعد تجلياتها، يتحول الشعر إلى مجرد خطابات تحمل الضجيج في داخلها ولا تحمل معه أي طحين إبداعي. فالوعي الشعري المنغرس في الذات الشاعرة يتغذى بروافد من الجدة والقدم معا، وقد تبلورا معا في اختلافية حداثية كبرى، تتجاوز ما قبلها، وتسعى لأن تسمح للشعر القادم أيضا بإمكانية التجاوز لها.الشعر المكتمل النهائي، هو شعر ميت منذ ولادته، ولا يستحق حتى تسمية الشعر في حد ذاتها. الشعر الحقيقي هو الذي يفتح أبوابه لمرور الآخرين منه واليه، ومنه الى ما سيأتي مستقبلا.هكذا فعلت السوريالية ، وهي بهذا ظلت قوية مؤثرة ومجددة ومتجددة على الدوام،لأنها فتحت الشعر على اللانهائي.هكذا فعلت قصيدة النثر أيضا، لأنها جعلت من الشعر شعرا، وهو يعانق النثر في أعلى قممه.قمم النثر هي الشعر متجليا في أبهى صوره.ما عدا ذلك، فهو قيد.الشعر الموزون، وان تحقق الشعر فيه، كما في بعض النماذج القوية، يظل شعرا مقيدا.وفي تقييده، حصر لشاعريته التي لو أنها تحررت من قيدها لعانقت الشعر الحقيقي، لعانقت الشعر في بعده الكوني.الشعر هو انصراف من العالم إليه.هو تخييل مضاعف ،يبصر الحياة بعين ، ويبصر اللغة التصويرية بعين أخرى،لكنه لا يتحقق إلا بعد أن تحضر العين الثالثة في كيانه. الشعر هو فورة خلاقة، في انعدامها يتحول الى مجرد رص للكلمات.كلمة وراء أخرى.الشعر هو تجاوز حتى لبؤر التوتر بين الكلمات وصورها.الشعر هو لغة رمزية عميقة لا تتحقق إلا في الحلم ،حين ينتقل هذا الحلم من زمانه ومكانه الى زمان ومكان لغويين مختلفين.الشعر هو حلم مزدوج حقيقي وتخييلي، وفي ازدواجيته هاته، يخلق الإدهاش والاندهاش معا.في الادهاش لا وجود للشعر.في غياب الاندهاش لا وجود لمتلقيه.في الحالتين معا يتحول الشعر الى كلام عادي ومعتاد.الشعر هو شعلة النارالابداعية، التي تكمن في قلب الشاعر، لكن لا بد لهذه الشعلة كي تتحول الى شعر مجسد على الورق أو الشاشة أو..من ريح بمقدورها أن تزيد في اشتعالها. تلك الريح هي الثقافة، في غياب الثقافة لا وجود للشعر.الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي العميق، لا الثقافة التي تتجسد فقط في قراءة الكتب.الشعر يتجاوز ذلك ،لأنه ينقل الحياة في كليتها ، ولكنه ينقلها كما تراها عينه الثالثة.و من هنا يتولد غموضه الواضح، وفي غياب هذا الغموض الواضح، الذي يحقق الادهاش لدى متلقيه، لا يمكن للشعر أن يكون شعرا، حتى وهو يغتصب تسميته..الشعر هو انفصال اتصالي، هو اتصال انفصالي، وهو بذلك يوجد في ذات الآن ولا يوجد.الشعر هو ذلك الكلام الذي نبحث عنه، وحين تخال النفس الشاعرة أنها قبضت عليه في القصيدة، ينفلت منها الى اللانهائي، تاركا القصيدة تبحث عن شعريتها فيما تبقى من ومضاته.الشعر هو الأدب المستحيل، الذي لم يكتبه أحد على الإطلاق.الشعر هو ذلك الكلام الذي ما زال الشعراء يبحثون عنه.الشعر هو اختلاف وتجاوز مستمرين.

-5-
الشعر هو التفاتة أورفيوسية وجودية نحو الزمن المنفلت، حين تتحقق يموت الشاعر رمزيا، لأنه يكون قد حقق الغاية من الاسم الرمزي الذي يحمله.لأن ما يكتبه بعد ذلك يصبح بعيدا تماما عن الشعر.هكذا نجد شعراء حقيقيين، ما أن قبضوا على ناصية الشعر، في بعض تجلياتهم الشعرية الحقيقية، حتى غاب الشعر عنهم في الذي كتبوه بعد ذلك.فالشعر تجاوز مستمر لما سبق القبض عليه، وهو اختلاف أبدي لما تحقق منه.في البحث عن الاختلاف والتجاوز يظل ألق الشعر يتراءى من بعيد.في الاعتقاد بأن الشعر قد تمت معرفة كيميائه السحرية، يتحول الشعر الى تقليد لصورة وهمية له، فيموت.الشعر امتداد أزلي-أبدي نحو الكمال التصويري-التخييلي رسما ولغة و تشكيلا .ولا وجود للكمال الشعري إلا توهما.هكذا نرى أغلب الشعراء الحقيقيين يتحمسون لقصائدهم في البداية لحظة انبثاقها، لكن مع مرور الوقت، نراهم يعلنون صراحة أو تلميحا رغبتهم القوية في التخلص من الكثير منها، لأن شعلة الشعر التي تبدت لهم في البداية حقيقية كانت مجرد وهم جميل، أو أنها تحققت ثم خب لهيبها مع المرور الزمني.أما البعض الآخر فيصمت، ويكف عن الكتابة إقرارا منه بالحقيقة، لكنه لا يعلن ذلك، حفاظا لبقايا ضوئية شعرية تتجلى له من حين لآخر.الشعر الباقي في/مع الزمن هو ذلك الشعر الذي لم يكتب بعد، وأجمل القصائد تلك التي نظل نبحث عنها دون القدرة على الوصول إليها.الشعر هو النظر الى المستقبل و الرغبة في كتابته..

نورالدين محقق
Noureddine Mhakkak