{ جذاذات}*
ناصر مؤنس: ... لعله كتابي الوثني، لعله طيف حاضر حضور التعويذة، صامت كملاك، لعلها أطياف عن
quot;كتابquot; مفتاحه نجمة الميديين ويد فاطمة. كتاب يشبه تلك الكتب المكتوبة من قبل الملائكة والقديسين، أو المكتوبة بلسان الله أو بوحي منه ، يحمله الأحمق مثلما يحمله القديس، قابل للفرجة مثلما قابل للقراءة. كتاب تحضر الأشكال فيه في كل مكان كالآلهة، وتدمج عناوين فصوله داخل الأسطر ولا ترقم صفحاته، تحضر فيه كلمات تشبه نقشاً على قبر quot;امرئ القيسquot; أو تلك النقوش المحفورة على أحجار قديمة ولا تتضمن أية معلومة، يحضر فيه طيف الرسول وهو يملي على الإمام quot; كتاب الجفرquot; أو يهدي الفتوحات إلى محي الدين بن عربي، يحضر قلم quot; ابن البوابquot; وطيف quot;الطبريquot; وهو يكتب أربعين صفحة كل يوم لمدة أربعين سنة، تحضر الأنساب والأيام، ويحضرني هذا السؤال:-
أي كتابة عمياء هي كتابتنا، وأي خيال لم يعد أكثر من خجل نحك به ظهر التأريخ هو خيالنا ؟.
استفتحنا الاستفتاح بالتقليد، وأفهمنا الحمقى ما لا نفهمه، وتخاطبنا بخرس الخرس، وتناظرنا بلسان الحرب، وزايدنا على الجلاد، وتبلدنا عن مصالح البلاد.
نحن أمة { اقرأ باسم ربك الذي خلق } لا نقرأ ولا نخلق.
أعرف الآن، في ليلة الأطياف هذه أن كتابي هو عصيان الكتاب للكتاب، وعليّ أن أجمع قلبي وعقلي في لحاقي بخيال السطور وهي تركض أمامي، بعد أن دخلت باب الصمت والتمست الكتابة بالسكوت وليس بالكلام، وكنت مثل أعمى قطعت يده، لكنه، يسمع من يصرخ به ، أكتب، ويكتب في العماء على ورق من التيه:
{ مولاي قد أصبحت كافر بجميع ما تحوي الدفاتروفللت سكين الدواة وظللت للأقلام كاسر }.**
لكن الطيف الذي حضر هذه الليلة شبه وحيد، كسر رتاج الصمت، وجعلني أشعر أن كل مأساة في هذا العالم مرتبطة بكتاب لم يكتب، كتاب غامض لا يمكن تصوره، وبمجرد أن تفتحه تفتح أمامك أكوان جديدة وعوالم أخرى، كتاب فيه أختام الشفاء والسعادة وحبره مستخلص من حجر مطحون ونبات وأعشاب.
طيف جاء من خرائب الصمت التي تخنقني اليوم أنقاضها، ليخرجني من شكل الدائرة في كتاب quot; التذكرةquot; للطوسي، ويدخلني ndash; بلعبة سحر لا أعرف حيلتها- في كتاب الكراريس المدفون في قصر النعمان.
انصرف الطيف، وبقيت وحدي
كأنني أمد يدي إلى الكتاب فأمسك بكتاب آخر، وكأن يد الكتاب تمتد فتمسك بي وتأخذ بتقليبي مثل صفحات أو تقربني من ملاك يسكب الحبر على الرقائق فتتشكل السطور كممرات لملوك الكلمات، وتظهر ثلاث عبارات، الأولى { الواعظ حين يختلي بنفسه يفعل ما لا يرضي الله } والثانية { الصلاة تلطخ النفس بالخطيئة} والثالثة { حكمة يغلب عليها المجاز }.
وبعد ظهور هذه العبارات الثلاث اختفى الملاك، ثم سرعان ما اختفت العبارة الأولى ثم الثانية، ولم تبق إلا تلك الحكمة التي يغلب عليها المجاز.
{ حكمة} تذكرني بتعاليم نبي يتكون اسمه من ثلاثة أحرف تمثل الماء والنار والريح، وعلى يده أعيد عصر الوحي وحضر الرب شخصيا لمقابلة هذا العالم الذائع الصيت، وانتهت المقابلة بمنحه كتابين مقدسين.
{ حكمة } تشبه quot; كتاب الحكمة الخفيةquot; الذي انتقل من إبراهيم إلى ابنه إسحاق إلى ثم إلى حفيده يعقوب ومنه إلى يوسف الذي مات مغترباً وحمل السر معه إلى القبر، مفضلاً أن يترك شعبه من دون حكمة.
{ حكمة } أبصرت مجازها البعيد:- الكتاب هو حلم كل الأنبياء.
ولأنني لست من ابتدع الكتب، لأنني لا أستطيع الخروج من كتاب الكراريس المدفون في قصر النعمان، ولأنه ليس من روح سماوية تباركني في الأعالي، أفكر الآن بكتاب يستمد شكله وأبعاده من البنى النحوية ذات الجذور الثلاثية الأحرف، وكما تسمح اللغة العربية باشتقاقات عديدة من جذر الكلمة، ينفتح الكتاب على أشكال واحتمالات عدة، كتاب لا اشتغل على مادته فقط بل يتعدى اشتغالي إلى الورق والخط والنوع والغلاف وطريقة الجمع والتجليد، كتاب أجمع فيه الفن والرياضيات والدين وأرتب خرزات صفحاته بشكل يشبه أرابسكية مزينة بموتيفات النجوم، وربما تتلاشى الكتابة، ربما، تختفي الكلمات من السطر المكتوب، قد تظهر قليلاً، ممحوة أو متداخلة، لا أحد يستطيع قراءة ما هو مكتوب، ثمة حروف فقط، لا وجود لكلمة، لا شيء غير الخطوط، ربما، هذا ليس كتاباً، انه فكرة لكتاب مصهور.
هل اسأل نفسي؟
إذ لم أدون أية كلمة ، هل يحق لي أن اسمي كتابي كتاباً?
لم يقلقني في يوم من الأيام اختفاء الكلمات من كتاب، دائما كنت أفكر بأشكال لا حدود لها للكتاب، البياض لوحده كتاب، السواد كتاب، التلاشي، الرماد، النار، التراب، الماء، الأحلام، الجدران، الدمع، النقطة ،.... ، والنسيان كتاب.
وكنت أرى أفعال الإنسان كلها كتبا، كتاب المشي، كتاب الأكل، كتاب النوم، كتاب الزواج، كتاب الحياة، كتاب الموت، كتاب الصمت، كتاب الفرح، كتاب الحرب، كتاب الهزيمة.
أفكر الآن بشركات الأزياء التي حاولت أن تقدم quot; الباهتquot; من الثياب وتروج لها كعلامة تجارية، هل علي أن أفكر بكتاب quot; باهت quot;، ربما، هذا هو حلمي بكتاب لا تتم زخرفته أو
تزويقه بصور أو كلمات، انه حلم بالكتاب الأنقى، كتاب تغيب عنه الصور والكتابة، فلا نستطيع التعرف عليه، ننظر فيه بلا مبالاة وكأنه يذكرنا بشيء لا قيمة له.
ليس كتاباً لكنه يبدو لنا ككتاب، أو لنقل كتاب لا رغبة لديه لأن يصبح كتاباً، صورته ممسوحة وزاهدة كثياب المتصوفة، يتراءى في الأقاصي وفي الضباب، لا وضوح، لا خطوط، لا ظلال، لا كلمات، لا ألوان، كتاب لا يحضر منه إلا طيف كتاب.
هل كان الكتاب هو حياتي، أم أنني ميت وما يجري الآن هو حياتي الحقيقية، ولماذا أبدو مثل نقطة تتقاذفها الحروف من الأعلى إلى الأسفل. ما همّ، ها أنذا أجلس وحيداً في كتاب يدعى
quot; صنوج النعمان quot; وهو مدفون في القصر الأبيض ، ويذكر حماد الراوية: أن النعمان قد أمَرَ أن تنسخ له أشعار العرب وتدفن تحت إحدى البلاطات، ولا أدري، أي خيال يمنعني من الغرق
ndash; الآن دون شهود ndash; في أعماق السطور، كانت الحروف تظهر عليها آثار الزمن والإهمال والهجران، وكنت أتقدم بين الكلمات وأتخيل الخرز والتمائم والأختام، وحين دخلت الصفحة الأولى رحب بي الفيروز واليشب والعقيق الأحمر وحجر الدم والمرمر والحجر الجيري والكوارتز واللازورد والزجاج البركاني، وتلقيت الترحيب أيضا من الصدف والعاج، ورحبت الأختام والأوراد والأزرار، والتزيينات الهلالية، لكني توقفت عند الكلمات التي صاغها الصمت نفسه، فأخبرتني:- أن هذا الكتاب ليس الكتاب الأول لقد سبقته بعض الكتب مثل quot; كتاب قريشquot; و quot; كتاب محاربquot; وquot;كتاب بني القينquot;.
ومن خلال الشعاعات الشمسية التي تخرق ظلمة البلاطة بنور كأنه أتٍ من الأعالي كنت أرى البياض يزاحم البياض،
سأكتبك
الكتابة تفسد الكتاب
هذا ما يقوله بياض للآخر.
ورأيت قبة السماء الفسيحة مثل مغارة هائلة من الأطياف، وكنت أتطلع إليها:-
يحضر طيف المرقش الأكبر وهو يردد:
الدار قفرٌ والرسوم كما رقش في ظهر الأديم قلمْ
يحضر طيف امرئ القيس
لمن طَلَلٍ أبصرتهُ فشجاني كخطَّ زبورٍ في عسيب يمانِ
يحضر الحديث الشريف quot;قيدوا العلم بالكتابquot;
يحضر طيف ابن عربي وهو يقول:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائفوألواح توراة ومصحف قرآن
يحضر طيف الضحاك بن عجلان
{ يا من تعاطى الكتاب، اجمع قلبك عند ضربك القلم، فإنما هو عقلك تظهره }.
يحضر طيف ذي الرمّةِ وهو يقول لعيسى بن عمر الثقفي { اكتب شعري فالكتاب أحب إلى من الحفظ لأن الأعرابي ينسى الكلمة، وقد سهر في طلبها ليلته فيضع في موضعها كلمة دونها ثم ينشر الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاماً بكلام }.
يحضر طيف المنصور وهو يأخذ الكتب بدل الغرامات، حين شرط في إحدى معاهداته مع إمبراطور القسطنطينية أن تكون الغرامة التي يدفعها مجموعة من الكتب التي ألفها حكماء اليونان.
يحضر قول الجاحظ { يذهب الحكيم وتبقى كتبه ويذهب العقل ويبقى أثره }.
يحضر قول ابن سينا { ليلتان لم أقرأ ولم أكتب فيهما ليلة زواجي ووفاة والدي }.
يحضر طيف أبي الريحان البيروني وهو يبحث عن كتاب quot; سفر الأسفار quot; أربعين عاماً ليدفع عن الرازي تهمة الإلحاد.
يحضر قول الفرنجة: الكتاب:- عقل محنط.
يحضر طيف الكاردينال { شيمتر} وهو يأمر بإحراق ثمانين ألف كتاب في ساحات غرناطة، خطتها أقلام المسلمين.
وتحضر أطياف كتب تخرج من الحرب وهي تنظر بحروفها الجريحة، وتمد يد كلماتها المبتورة وصفحاتها الممزقة، كان منظرها أبشع من الحرب نفسها، أبشع من الموت نفسه، كتب بلا أسماء أو كنى أو عناوين، هل رأى أحدنا مقبرة كل شواهدها من الكتب ؟. هل رأى الصفحات تلعق جراحها والكلمات ترتعش وهي ملطخة بالدم والرعب، تماماً كما ترتعش الرؤى في هذه الليلة الملطخة بالأسرار.
أتذكر الآن أطياف كتب غادرتني وهي تلتفت نحوي، أتذكر كتبا قاتلت لسنوات عدة عن قناعة ما، وهي الآن تجلس منكسرة مهزومة، أتذكر كتبا مشتعلة بوعود الجحيم، وهي تقتل البشر باسم الكتاب.
ومع ظهور خيوط الفجر الأولى التي بدأت تنشر ذيولها لتمنعني من رؤية الأطياف. استيقظت من النوم وأنا اردد هذه الكلمات :-
quot;أيها الحبر المعجون بالتراب ، كفن معاني كلماتي بأغطية اللون ، ولتغرق حروفي في شواطئ الرقش وليكن حضوري موشى بروح من يمسك النصل وصفحاتي ممهورة بإبهام الصرخة quot;.
وحين انتهيت من تلاوة كلماتي، سألت نفسي:
-هل أوتيت الكتاب، أم أنني حلمت بكتاب لم يحضر منه إلا طيف كتاب؟
*أوراق صغيرة، تستعمل لتدوين الملاحظات أو نسخ المقتبسات من الكتب وهي تشبه إلى حد ما البطاقات التي يستعملها الباحثون المعاصرون.
** من قصيدة للرضي ابن الملك المعتمد.
التعليقات