1
بوفاة جليل القيسي مساء الخميس 27/7/2006 ( جليل القيسي في ذمّة الأثر) تكون قد تلاشت آخر المحفزات الكبرى لذكرياتي الأدبية في كركوك، فقد سبقه إلى الموت جان دمو، ومحمود جنداري، وكلاهما له بصمة لاتمحى في ثقافة المدينة، وقد ربطتني بهما علاقة متينة، لكن علاقتي بالقيسي كانت الأطول، والأعمق، والأكثر تأثيرا في حياتي الأدبية، وقد شهدت شدا وجذبا لمدة طويلة. وبقاء القيسي إلى النهاية في كركوك- فضلا عن موهبته اللامعة- جعله أديبها الأول في النصف الثاني من القرن العشرين، وارتبطا ببعض على نحو يماثل ارتباط محمد خضير بالبصرة. فقد تفرقت جماعة كركوك الأولى ثم الثانية، ولم يبق سواه ومجموعة من الأدباء لم يستأثروا بالاهتمام المطلوب بسبب الظروف العامة التي مرّ بها العراق خلال العقدين الأخيرين. وحينما تذكر كركوك في أي سياق ثقافي،يحضر اسم جليل القيسي، بوصفه أهم شخصية أدبية فيها.
تعرفت إلى جليل القيسي مباشرة في شتاء 1977 حينما كان موظفا في إحدى دوائر شركة النفط، وقد زرته في مكتبه، ووجدته في غرفة صغيرة جدا جوار المدخل، وكنت قرأت مجموعتيه القصصيتينquot; صهيل المارة حول العالمquot;وquot;زليخا.. البعد يقتربquot; ومجموعته المسرحيةquot;غيفارا عاد افتحوا الأبوابquot;، وفيما بعد نشرت أعماله الأخرى. وتوالت لقاءاتنا، واحتفظ برأي له عن قصة كتبتها آنذاك، وأودعتها لديه، فأعادها إليّ بعد أسبوع، وكتب الملاحظة الآتية المؤرخة في 17/4/1977quot;أخي عبدالله: في تقييم أي عمل فني، أي مجاملة، أو أي محاولة إعطاء قيمة زائفة، أو منافقة هو خيانة، وسخف. هذه ليست قصة، وإنما محاولة متواضعة جدا في كيفية تعلّم كتابة القصة..القصة فن صعب..وبغية تعلّم أصول كتابتها، واستيعاب فنها، تحتاج إلى الكثير من القراءة، والتأنّي، والتأمل، والمعاناة، وثراء روحي، وعزلة أحيانا، وهجرة المقاهي..الكتابة بصوت أعلى من صوت سقوط الشلالات، الكتابة من أجل تحوير العالم واغتصابه، واكتشافه من جديد يحتاج إلى تضحية طويلة..وعبر التضحية الطويلة تثبت الموهبة الأصيلة..quot;. هذه الملاحظات كتبها حول قصة quot;صخب داخليquot;. وأخذت بنصيحة جليل، ولم أنشر أية قصة من العشرات التي كتبتها إلى ما بعد تخرجي في الجامعة.
لكن علاقتي به توثقت به طوال الثمانينيات، وكانت تتخللها نقاشات ساخنة، وقد قرأت كل الأعمال الأدبية للقيسي القصصية والمسرحية، بما فيها رواية قصيرة مخطوطة، وأكاد أقول بأنني لم اترك له عملا دون أن أطلع عليه إلى أن غادرت العراق في أول التسعينيات، كما كتبت عنه أكثر من مرة، وحينما عدت إلى العراق في صيف 2004 في زيارة سريعة، كان أول من زرته في بيته، وقد فوجئت به شيخا غير ما كان من قبل. وقد المت به الأمراض التي أتت عليه. ان السنوات الطويلة التي ربطتنا تحول دون ذكر كثير من التفاصيل، ولهذا سأقتطع عنه نبذا قصيرة من سيرتي الذاتية(أمواج) عن لقاءات وأسفار مشتركة جرت في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
2
في أول نهار يوم 18/8 /1986اتجهنا بسيارتي إلى السليمانية، القيسي، وعواد علي، وأنا، لمشاهدة مسرحيةquot;الغوريلاquot;لـquot; أوجين أونيلquot;. حضرنا العرض، وتجولنا في ضواحي المدينة. وذهبنا إلى مصيفquot;سرجنارquot;. وقد امتلأت التلال المواجهة للمصيف بجماعات من السكارى ممن أعفوا من الخدمة العسكرية، وسجلوا في أفواجquot;الفرسانquot;يتقاضون رواتب مجزية، ولا يقومون بأي عمل. اشترت الدولة صمتهم وحيادهم. طفنا بالمدينة التي كنا نتخيل أنها تعيش في حالة حرب ليلا، فالسليمانية قلب التعصب القومي الكردي، وهي في نزاع دائم مع السلطة المركزية. تقتحمها جماعات منquot;البيشمرگةquot; ليلا لضرب قوى الأمن والجيش. سمعنا إطلاق نار متقطع، عدّه الأكراد أمر طبيعيا، وبقينا حتى الفجر في شقة أحد الأصدقاء نناقش القضية الكردية وملابساتها. في ضحى اليوم التالي تجولنا في سوقquot;الخمينيquot;الذي ظهر في قاع المدينة للمهربات الإيرانية رخيصة الثمن.
ودعانا للغداء ثري كردي يدعىquot;بوسكانيquot; قادنا إلى معامل للأحذية يملكها، وأهدانا أزواجا منها، فحرنا في حملها معنا، ولم يكن من الممكن ردّها إليه، كان مشهدا غريبا إذ تقدمنا القيسي يحمل زوج الأحذية بيديه، فأودعناها صندوق السيارة. أخبرنا أنه كان يعمل في صقل الأعمدة الكونكريتية في شارع الرشيد في العهد الملكي، ويحلم في أن يكون شيوعيا، وحينما يتظاهر الشيوعيون ينزل من السقالة، ويتقدمهم عسى أن تلقي الشرطة القبض عليه ليعترف به مناضلا، فيدخل الحزب، لكن أحد ضباط الشرطة يعرفه جيدا، ويرفض اعتقاله. يتوسل إليهquot;بوسكانيquot; أن يفعل، فيجيبهquot;لن اعتقلك، ولن أجعل منك بطلاquot;. في طريق عودتنا من معمل الأحذية مرّ بنا إلى منزله الفخم المجاور لمقر حزب البعث. قالquot;تصوروا أقدّم لهم يوميا رِشى ليحموني من المتمردين، وأقدم، أيضا، للمتمردين خلسة رِشى ليعتبروني مخلصا للقضية، وأحيانا أدفع للاثنين في اليوم نفسهquot;. كان رجلا طويلا يريد أن يعيش في ظل التنازع المرير على الشرعية في منطقة كردستان. دعانا للغداء مع جماعة من المثقفين، الذين عبروا عن رفضهم للسلطة المركزية.
حينما تشعّب حديثنا، وأثمر عن سجال دهمنا حشد من المسلحين، فضاق بهم المكان، فمُدّتْ لنا مائدة إلى نهاية الجدار. لفت انتباهي شاب ملتح، جلس قبالتي، يرتدي زيا عسكريا، ويعلق مسدسا ضخما في وسطه، وجهه عريض، ولحيته طويلة مشعثة، ويقلدquot;غيفاراquot;في حركاته وسكناته، وذلك جذب القيسي إليه، فخيل إلي أنه إحدى شخصياتquot;مئة عام من العزلةquot;. تحدث بالكردية، وحينما علم بأنني لا أعرف منها سوى ألفاظ متناثرة، أمر الجميع أن يتحدثوا بالعربية. عرّفنا بنفسه على أنه مستشار لأحد أفواجquot;الفرسانquot;وأردفquot;يعني جحشاquot;فكل متعاون مع السلطة يعرف بـquot;جاشquot;أيquot;جحشquot;. واصل سرد حكايته الشخصية، فإذا به قاص تمرّد على العائلة ذات الخلفيات الدينية والعشائرية، وفي ظل الفوضى التي تمر بها كردستان، شكّل فوجا من قبيلته، وأعلن نفسه قائدا له. يتلقى من الدولة شهريا خمسين ألف دينار، نصفها يأخذه له، ويصرف النصف على أتباعه. ويمضي وقته في الشرب، فالفرسان، شأنهم شأن quot;بوسكانيquot;يساندون الأكراد سراً، ويدّعون قمعهم أمام السلطة. تركنا عشيرة السكارى التي احتلت المطعم بكامله، وغادرنا في نحو الرابعة إلى كركوك .
3
في إحدى أماسي يوم الخميس في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر1986 هاتفني القيسي، وأخبرني بوصول محيي الدين زنگنه من ديالى، فسهرنا إلى منتصف الليل في نادي الفنانين. وفي طريق عودتنا مصغين لنكات القيسي الإباحية، قررنا السفر إلى السليمانية، فوصلناها في العاشرة من صباح اليوم التالي. كان الجو باردا، لكن الشمس مشرقة، والشوارع مزدحمة. اشترينا هدايا من سوق quot;الخمينيquot;وتجولنا صحبة الأصدقاء الأكراد في أطراف المدينة. أفول الشمس أضفى على السليمانية ملمس الحزن والشجن. اتجهنا إلىquot;سرجنارquot;فرأينا تجمعات السكارى على التلال المجاورة. زادنا صديقنا جهاد دلباك، الذي يعني اسمه الأخيرquot;ذو القلب النظيفquot;تفصيلا بأمر هؤلاء المستمتعين بموائد الخمر الأرضية في الهواء الطلق، فهم جزء من ظاهرة معروفة منذ أكثر من سنتين، ويشكلون نحو نصف الرجال البالغين، معظمهم يعملون في التهريب أو في كتائب الفرسان الذين أعفوا من الجيش، يتوفر لديهم المال والفراغ، ويعتقدون أنهم يعيشون في مدينة محتلة، يشترون مشروباتهم ومأكولاتهم، ويحملون أفرشة بسيطة، ويتناثرون على سفوح التلال مستمتعين بالحديث والخمر. وصارت هذه الظاهرة مقبولة اجتماعيا، بمرور الوقت، وسلّم الجميع بها كأمر واقع. لم أقرأ أو أسمع عن ظاهرة مماثلة في أي مكان آخر في العالم، أن ترى مئات الرجال في تجمعات من 3-4 أشخاص يطرزون سفوح التلال الواسعة، متجاورين حول أواني الخمر، فيما تتصاعد أعمدة الدخان من مواقد صغيرة أعدت لشيّ اللحوم.
دُعينا ليلا إلى أحد النوادي الاجتماعية في السليمانية، وأُدخلنا إلى غرفة جميلة، شاركنا فيها خمسة من المثقفين الأكراد، منهم القاص رؤوف بيگرد. بدأنا الحديث عن الأدب الكردي، ثم الأدب في أميركا اللاتينية، وانزلقنا إلى الماركسية التي تستهوي القيسي وزنكنه. فجأة أنقذنا القيسي الذي كان أكثرنا حماسا في المساجلة، حينما ترنّم بـquot;الخورياتquot;التركمانية، وهي رباعيات غنائية تعتمد الجناس، ولها في الثقافة التركمانية مكانة quot;المقامquot;في الغناء العربي في العراق. شهق، وتضرّع، وهو يقفّي، ويورّي، ويتوجّع، ويئنّ، فشُحنتْ الجلسة بلذة الخلود، والمتعة الباهرة، فالتقط بيگرد نهاية إحدىquot;الخورياتquot; وعلا صوته بأغانٍ فارسية عميقة القرار، فسرح بنا ربوع إيران، نخبط ضالين في فيافي العرفان كمُريدين ودراويش، وقد هِمنا في لذة الإصغاء، وأسرفنا في الأنين.
ذهلت للجو الغنائي الذي محا السجال الفارغ، فتمايلنا معا أخوة في المتعة منذ بدء الخليقة. انعقد أمرنا حول بيگرد الذي انسجم مع نفسه في التلذّذ بعمق الآهات، والترجيعات، وصدى الأنات التي يصدرها صوته الساحر، ورنين الرغبة الجارفة في أعماقه للذوبان في ألحان فارسية انبثقت لتوّها في وسط عالمنا، واقتحمت نفسي وعقلي، ودفعت إلى الوراء بأحاسيس الحرب التي كانت تقف حائلا دون معرفتي بالتراث العريق، فسقطتُ في هوّة الندم، وتأنيب الضمير، وضبطتُ نفسي متلبّسا بالخطيئة، فقد أعمتْ الحرب، وأيدلوجيا العداء، بصيرتي عن تلمّس العذوبة الجوانية الغامرة عند أقرب الجيران، وأوثقهم صلة بي، وبثقافتي. طاف ملمح شفاف من الشعور بالخديعة والعار في رأسي. وظلت الألحان تحفر في أعماقي لعقد ونصف، وحينما دعيت إلى طهران في ربيع 2004 عدت محمّلا بأسطوانات ممغنطة زرعت في نفسي متعة لا تقدر بثمن، فقد سرى مفعول تلك الأمسية في رأسي كالترياق، كأنني برفقة زرادشت، ولم أخمّن إن كان ترياق شفاء أم هلاك.
حينما غادرنا المكان متأخرين ضربتنا لفحة برد، فاتّقدت رغبتنا بالمتع. كانت الشوارع مقفرة، وإطلاقات نارية متفرقة تسمع هنا وهناك، تتقاطع في سماء هادئة، وحالما ارتمينا على المقاعد الصوفية الوثيرة داخل السيارة، وفتحتُ التدفئة، أنّ القيسي جواري بـquot;الخورياتquot;مرة أخرى، وطلب، وعيناه تتوهجان كعيني نمر ظامئ، أن نبحث عن خمر جديد نفيض به. طفنا بالفنادق القليلة المتناثرة في المدينة، فعلم بأمرنا قريب للشاعرquot;شيركو بيكسquot;الذي كان التحق لتوّه بالجبال ليكون ضمن الثورة الكردية، فانجدنا بقنينة منquot;العرقquot;فاحتضنها القيسي كأثر بابلي نادر في ليل بهيم، وواصلنا تطوافنا على غير هدى، وأنا أردد، ضاربا دائرة المقود بيديّ، قول جلال الدين الروميquot; أنا ثمل، وأنت مجنون، فمن ذا الذي يقودنا الى المنزل. لقد نصحتك مئة مرة أن تقلّ من الشرب كأسين أو ثلاثة. وفي المدينة لا أرى أحدا إلا وهو ثمل، وولهان، ومجنون. أي حبيبي هلمّ بنا الى الخرائب لترى لذة الروح، فكيف يطيب لها أن تكون من دون صحبة الحبيب!quot;.
غادرنا السليمانية في العاشرة، ووصلنا كركوك مرهقين ظهرا. نمت حتى الرابعة إلى أن أيقظني هاتف من القيسي يدعوني فيه إلى بيته، فالتمّ شملنا كحواريين في كهف صغير. تحدثنا عن الفن التشكيلي، ونحن نستعرض لوحات غوغان، وفان كوخ، وغويا، واستمعنا لموزارات، وسيد درويش، ثم عبد الوهاب، وأخيرا أسمهان. وفي العاشرة تفجّر نقاش ثقافي. في تلك الأيام رفضت وزارة الثقافة نشر كتابين للقيسي وزنگنه، فكانا متذمرين، فهما من كبار الكتاب، لكنهما نأيا بنفسيهما عن المشاركة في الثقافة السائدة، فبدا صوتهما ناشزا وسط جَلبَة رديئة. هذا الموضوع أفضى بنا إلى الحديث عن أزمة الثقافة العراقية. قال جليلquot;أنظر إلى الفرق في سعر أسطوانة الموسيقى بين بغداد وموسكو تعرف الفرق بيننا وبينهم، في موسكو يباع كتاب بوشكين بروبل فحسب، فيما نحن ندفع الدنانير بكتب تافهة، اتسمّي هذه ثقافة؟quot;. وحينما ترنّم عبد الوهاب بأغاني الأربعينيات، صمتنا فجأة، وذاب الحماس، وانحسرت التهم، وانبثقت روح التآخي الحميم، فقبّلنا بعضنا، وخرجت مغادرا إلى منزلي تتكسر تحت عجلات السيارة طبقة الجليد الرقيقة على الإسفلت.
4
واتفقنا- جليل، وجنداري، وعواد، وأنا، ثم التحق بنا حسن مطلك، فيما بعد- أن يلتئم شملنا، مرة واحدة في الأسبوع، في ناديquot;عرفةquot; أحد أرقى النوادي الاجتماعية في المدينة، واتفق أن نسمّي ذلكquot;لقاء الثلاثاءquot; وفي يوم 16/12/1986 انعقد اللقاء الأول في النادي، ناقشنا فيه رواية جنداريquot;الحافاتquot;نشرتها مجلةquot;الأقلام. في الجلسة الأولى لمست تنافسا جوانيا واضحا بين جنداري والقيسي. من ناحيتي وجدت اللقاء مختبرا أدبيا يجعلنا وسط تجارب أدبية ناضجة، وفي تماس ثقافي مع الآخرين. التأم لقاء الثلاثاء الثاني، وبدل أن نبدأ الحديث عن الأدب، شرع القيسي يصف الأمراض التي يعانيها، وهي كثيرة، أولها الضغط، والتقط جنداري الخيط فكشف عن أزمته القلبية، وعملية القلب التي أجراها في مستشفىquot;ابن البيطارquot;. بعد هذه المقدمة القاتمة، وجدنا الفرصة للانتقال إلى الأدب.
بدأ القيسي بأن أكد أن ما نكتبه عواد وأنا لا يشكل ملمحا خاصا، والخيارات أمامنا كثيرة، ومفتوحة، فإذا لم نجد مواهبنا في القصة فيمكن العثور عليها في مجالات أخرى، وتوقف للحظة، ثم نظر إلينا، وأكد أن مواهبنا القصصية مشكوك فيها، وإنه ليس علينا تغيير طريقة الكتابة القصصية فقط، بل ينبغي تغيير مصير هذا التوجه، ففي كتاباتي النقدية القليلة المنشورة، وآرائي الشفوية، تظهر ملامح نقدية- كنت أعد أطروحة الماجستير- فيما يمكن أن يكون عواد أحد نقاد المسرح في العراق الذين يرتكزون على تجربة أكاديمية. وجدت جليلا صادقا في حديثه، وما راودني شك في أنه ينطلق من سوء قراءة أو سوء نية، وأثبتت السنوات اللاحقة صحة ما شدّد عليه في تلك الجلسة. أما جنداري فراح يفند رأي سلفه، فجزم بأن ما كتبناه يبشر بمواهب جادة في كتابة القصة، وعلى الرغم من أن تجاربنا مازالت في بدايتها، ولم تقدم نفسها بصورتها النهائية، لكن من المرجح أن تكون متميزة إذا أخلصنا للكتابة القصصية، وراعينا أمرها بصدق، وحثّنا على تبنّي الجرأة في التعبير، وعدم الانثناء بإزاء أي صعاب تظهر أمامنا، فالكتابة نوع من المغامرة الدائمة. ولكن صدق حدس القيسي فيما بعد.
وانتهت سهرتنا بأن طفنا في المدينة كالعادة كأننا رهبان في حاضرة الفاتيكان نتبرك بمدينتنا وقلعتها العريقة. أغرقنا القيسي بنكاته الفاضحة، وهو كائن ليلي بامتياز. وقبل أن نصل جنوب المدينة حيث يسكنا، عدت ثانية إلى وسط المدينة للتشرب بمزيد من النكات والمتعة، فيما يفور جليل بالغناء كشيطان لا يمل، عكس حالته النهارية المنزوية والخائفة. درنا في الطرقات المثلجة، فيما تتأوه أسمهان بصوتها العذب، وتتفجر نكات وسط هرج أليف ممتع. استنفذنا قوانا بعد ساعة، فاتفقنا ألا نلتقي الأسبوع القادم، بل سنمضي في المكان نفسه حفلة رأس السنة ليلة الأربعاء التي تليها. وفي تلك السهرة الممتعة، انطلق القيسي، وزوجته الأرمنيةquot;أردميسquot;في رقصةquot;تانغوquot; مع بدء أول نغمة موسيقية. تنكرت أردميس بزي بدوية ملثّمة، وفازا، في نهاية السهرة، بجائزة الرقص لأفضل ثنائي، وكان ذلك المشهد آخر ما طبع في ذاكرتي، فقد كنت اتهيأ لمغادرة كركوك إلى بغداد.
abdullah-ibrahim.com
التعليقات