الخميس 27 تموز، الساعة الثامنة والنصف مساء. يرن هاتف المنزل. تجيب أختي وأسمع صوتها من الغرفة الثانية تخبرني أن المكالمة لي ولكن بنبرة جادة. أرفع السماعة وأسمع صوت بسام من بيروت، المرافق المخلص لنقولا منذ أن تعرفت عليهما، يخفق قلبي: أهلاً بسام، طمئني. يجيب بصوت أهدأ من المعتاد: العمر إلك! أصرخ: لا، ويؤكد: بلى. منذ متى؟ منذ نحو ساعة.
كنت قد كلمت بسام قبل ذلك بثلاثة أيام وأخبرته أنني سأرسل quot;فاكسquot; لنقولا لكي أعلمه أنني اخترت مقالة له كان قد كتبها منذ سنتين ونُشرت في جريدة الحياة، عن ذكرياته في مكتبة أطلس في دمشق، لكي تكون مقدمة لدليل منشورات دار أطلس وكنت واثقة أن هذا سيسعده لاسيما أنه في المستشفى، وقد ختمت رسالتي تلك بعبارة: quot;على أمل اللقاء قريباً جداً في أول فرصة هدوء في بيروت الحبيبية، أقبل وجنتيك بمحبة ودير بالك على حالكquot;. ورجوت بسام أن يحرص على قراءة الرسالة له، ولكنها وصلت متأخرة.
كنت أعتقد أن نقولا عصيّ على الموت وأنه باق معنا دائماً. وكنا كل سنة نخطط لحفل عيد ميلاده بدون أدنى شك أنه سيأتي -العيد- وسنحتفل به جميعاً في منزله الأنيق في بيروت. هذه السنة، كنا ننتظر الاحتفال الكبير بالمئوية ونمني النفس،أقرباء وأصدقاء ومعجبين، بالحصول على شرف حضور تلك المناسبة التي لا تحدث سوى مرة وحيدة في الحياة. وكنت عندما أمازحه بالقول: أننا يجب أن نحتفل بالعيد المائة في دمشق، مسقط رأسه، يهز رأسه بالنفي ويغالب حسرة لا يريد أن تهزمه ويجيب: لا، في بيروت!
منذ سنتين وقّعت دار أطلس عقداً مع نقولا لترجمة أحد الأعمال التاريخية المهمة وقد طلب مهلة ثلاث سنوات لإنجاز العمل وأصر أن نوقع العقد يوم 2 ديسمبر، عيد ميلاده على أن يسلمنا العمل يوم عيده المائة، واتهمني البعض بالجنون. ومنذ فترة اتصل بي ليعتذر عن إنجاز العمل لأن نظره لم يعد يساعده. ولا يمكن أن أنسى نبرة الحزن في صوته فقد كان متمسكاً بالعمل والإنتاج حتى الفترة الأخيرة.
كانت زياراتي لبيروت لا تكتمل إذا لم أر نقولا. وكنت أحرص أن أعرّف كل أصدقائي عليه وخاصة الزائرين من بلاد الاغتراب. وعندما أكلمه لأخبره أنني قادمة لزيارته ومعي quot;ضيوفquot;، كان يجيب بصبيانيته المحببة: أنا مطمئن من ناحية ضيوفك، فأنت لا تعرفينني إلا على quot;صبايا حلواتquot;! كان يطلب مني مرافقته في بعض الأحيان إلى دعوات أصدقائه عندما يصادف وجودي في بيروت وكنت ألبي دعواته بكل فرح واعتزاز وألغي أية مواعيد أخرى لأكسب برفقته الممتعة المزيد من ساعات العمر.
كان منزله يتسع لاستقبال الجميع. وبرغم كثرة الضيوف في بعض الأحيان، إلا أنه كان يوزع اهتمامه على الجميع بالتساوي لدرجة أنه لا ينسى ماذا يشرب كل منا وكيف يشربه. ولم يكن، مثل أغلب أقرانه ممن تخطوا التسعين، يعيد رواية نفس حكاياته المحببة إلا بناء على طلب الأصدقاء. وعندما يشرع في رواية حكاية ما، كان يتذكر من منا يعرفها ويعتذر قائلاً: أنتم سمعتم هذه القصة ولكن يوجد ضيوف لا يعرفونها! كانت ذاكرته الحاضرة تبهرني دوماً وكم حزنت عندما شعرت مؤخراً أنها بدأت تخونه ولم يكن هذا يليق به أبداً.
لا يمكن أن أنسى عندما ذهبت مع صديقتين للقاءه في فندقه المفضل في دمشق، وكان صباح ذلك اليوم قد التقى الرئيس بشار الأسد. جلسنا معه أكثر من ساعة وحكى لنا كل تفاصيل ذلك اللقاء بسعادة طفولية مذهلة. وبعد فترة جاءت ثمرة اللقاء: قرار الرئيس بشار الأسد منح نقولا وسام الاستحقاق من الجمهورية العربية السورية عن إنجازاته العلمية خلال مسيرته الطويلة. كان هذا التكريم برأي الكثيرين، وأنا منهم، تكريماً لسورية قبل أن يكون تكريماً لنقولا.
طيلة فترة صداقتي مع نقولا والتي كنت دائماً أحرص على توطيدها، كنت أخشى لحظة رحيله وأحاول تجاهلها لأنني كنت أعلم كم ستكون قاسية. ومن أغرب المفارقات أنني عندما كلمته لأطمئن عليه في آخر مرة قبل بداية الحرب المتوحشة على لبنان، وأعتقد أنه كان قد بدأ يشعر باقتراب النهاية، بادرني بلهفة فور سماعه صوتي: متى ستأتين إلى بيروت؟ وأجبته: يوم 27 تموز! ولم يكن يعلم أنه وبيروت كانا على موعد مع وحشين متساويين في البشاعة: الحرب والموت.
كاتبة المقال هي مديرة دار أطلس - دمشق
التعليقات