1
عشاق الفن السابع، إحتفلوا في فبراير هذا العام بمرور ستة عقود على عرض فيلم quot;نوتوريوسquot;، للمخرج آلفريد هيتشكوك (1946). إنه المخرج العملاق، المُعدّ من مؤسسي السينما، الواقعية، ومن أكثر أبناء جيله غزارة في الإنتاج. إن تشديدنا هنا على الصفة الواقعية، لا شأن له بالتصنيف المعروف للمدارس الفنية أو الأدبية، بقدر ما هو إشارة إلى الصفة الاخرى، الرومانسية، التي كانت مهيمنة على الأعمال السينمائية في ذلك الزمن المبكر. الفنّ السابعُ، بداهة ً، ثمرة ٌ للتقنية العلمية، الشامل تطورها مناحي الحياة كلها خلال القرن العشرين، المنصرم. إنه الفن المدين أيضاً للمعرفة الجديدة، المتيحة ظهور ما يمكن نعته بـquot;المبدع الشاملquot;؛ هذا الفنان، الجامعُ في قامته معاً مقاماتَ الكلمة والصورة واللوحة والنغمة. هيتشكوك، كان ضرباً فريداً من ذلك المبدع، الموصوف، المتنوّع المواهب؛ فهوَ المخرج والمؤلف والمصوّر والموسيقي والرسّام. إنّ كلّ من أفلامه، الخالدة، كان عبارة عن بوتقة لمواهبه تلك، المتنوعة، فضلاً عن مباشرته فيها ـ الأفلام ـ محاولة إثرَ محاولة مسيرة التجريب المرتبطة بإسمه. لا شكّ أنّ هيتشكوك، كما يُنبئنا تاريخ الفن السابع، يُعدّ من مؤسسي ما أضحى موسوماً بـ quot; الغرائبية quot;؛ سواءً بسواء أكان ذلك في السينما أو الأدب : الحرفة الأخيرة، كانت الهاجس الآخر لعملاقنا هذا. إنّ مَن كان، مِن قرائنا الكرام، فتىً في مستهل سبعينات القرن الماضي، ربما يجوز لذاكرته الآن إستعادة مكتبات الأرصفة في مدينته؛ ثمة أين quot; كتاب الجيب quot; كان حاضراً بينها، وعلى غلاف بعض أجزاء سلسلته يعتلي إسمُ المؤلفِ، آلفريد هيتشكوك، صورته الشهيرة بطرافتها الدميمة، الغريبة.

2
كان مخرجنا، كأيّ فنان مبدع، حريصاً على توقيع إسمه على كلّ من أعماله. ففي اللقطة الأولى لبداية quot; نوتوريوس quot; ـ أو أيّ فيلم آخر له ـ يُفاجئكَ هيتشكوك بإطلالته الشخصيّة، المارّة بالمشهد المعيّن خطفاً، كلمع البرق؛ إطلالة، بلا نأمةٍ وبكل إستهتارها ولا مبالاتها. هذا التقليد الطريف، الفريد، يُحيلنا إلى صفة الغرابة، آنفة الذكر، المتواشجة بالفن الجديد، الشاهد عليه ذلك القرن المبدع؛ الأب الشرعيّ للإتجاهات الفنية والأدبية المختلفة، كالدادائية والتكعيبية والسوريالية والواقعية الجديدة. بيْدَ أنّ مخرجنا، من ناحية اخرى، كان ضحية سوء فهم، فادح، من مجايليه وأخلافه على السواء : لقد نظر كثيرون، وخصوصاً من النقاد، إلى فيلمه هذا، الموسوم، (علاوة على تحفه السينمائية عموماً)، كما لو أنه تجديدٌ لموضوع بوليسي، بحت؛ أو حتى كعمل تجاريّ، فيه ما فيه من إثارة وتشويق. إن ما يدحض مثل هذه الآراء، حقيقة إنتماء السينما الهيتشكوكية إلى خانة quot;الأعمال الصعبةquot; ذات الجمهور الضيّق، المتميّز بالوعي والثقافة. لا ننكر هنا، بطبيعة الحال، شعبيّة أفلام مخرجنا، أو معظمها بالأصح؛ إلا أن ذلك يجب ألا يخدعنا : فلم يسبق للأفلام تلك أن حققتْ قط أرقاماً قياسية في شباك التذاكر أو في التسويق الخارجيّ، كما كانه حال أعمال مخرجين أمريكيين أقل موهبة بكثير من هيتشكوك. كذلك نعثر على أمثلة عديدة، في منافاة سلوك مخرجنا هذا لعقلية quot;السوقquot;، التي كانت وما فتأت متحكمة بالسينما الهوليوودية. ففي فيلمه المميّز quot;بسيكوquot; (1963)، على سبيل التمثيل، ضحى هيتشكوك بالمردود المالي، الممكن جنيه من التسويق التجاري، حينما آثرَ إعتماد الأبيض والأسود في فيلمه ذاك: إنّ رهافته القويمة وحسّه الجماليّ السليم، قد دفعاه إلى تجنب ألوان (سكوب) لخاطر مشهدٍ واحد، وحيد؛ حينما يتدفق دم ضحية القاتل، المهووس، من جراحها نحو بالوعة الحمّام. ونستبين الفرق الصارخ، الواضح، بين أسلوب هيتشكوك في الجزء الأول من quot;بسيكوquot;، وبين أسلوب من قام بإخراج الأجزاء الثلاثة، التالية، من ذلك الفيلم : لا نتكلم هنا عن الألوان المعتمدة في كل من تلك الأجزاء الأخيرة، بل في المشاهد العنيفة، المبالغ فيها؛ كما في صور الذبح بالسكين القاتلة، المتكررة المرة تلو الاخرى أمام أعين النظارة، وبما يُثير الإستهجان والسخط، حقاً.

3
quot; نوتوريوسquot;، مفردة لاتينية وتعني: مشهور، معروف، ذائع الصيت، لكن quot;مشنوعٌquot; هو المعنى الأقرب، إذ له صفة سلبية، ويتطابق مع محتوى فيلمنا هذا، أكثر من غيره من إشتقاقات المفردة، الموسومة؟ على كل حال، فالحكاية في عمل هيتشكوك الجديد، كانت بشكل أو بآخر من واردات الواقع. إنها حكاية الذرّة؛ تلك القوّة المدمّرة، التي أخرجها الإنسان من قمقمها الأزليّ إلى خرابه الأبديّ. خلال الفترة الزمنية، المحددة لتصوير الفيلم (أواخر عام 1945)، كانت هيروشيما وناغازاكي، المدينتان اليابانيتان، قد إندثرتا وساكنيهما بفعل الإكتشاف اللا إنسانيّ، النوويّ، ذاكَ. على أنّ الرعب ما لبث أن تناهى، هذه المرّة، إلى العرين الأمريكيّ نفسه، إثرَ لغط متهاطل عليه بما بدا أنه حقيقة. فثمة إشاعة أيامئذٍ، أشارت إلى مجموعة من النازيين الألمان، الفارين إلى حمى القارة اللاتينية، على أنهم بصدد صنع قنبلة ذرية وبوسائل بدائية، لكي يجرى تفجيرها لاحقا في إحدى كبريات المدن الأمريكية : ستة عقود من الأعوام يخلفها وراءه هذا الفيلمُ، الخالد، quot; نوتوريوس quot;، وها نحنذا ما فتئنا نداور في فلك الإشاعة ذاتها؛ والآن مع إرهابيي إبن لادن، وما صار يُعرف في حاضرنا بـ quot; القنبلة القذرة quot;، علاوة ً على إنشغالنا بمحاولات إيران، النووية (!).. ننحي زمننا جانباً، منتهضين إلى التشمير بالجدّ مع أولى بواكير هيتشكوك، الهوليوودية، هذه. ويبدو أنّ فكرة quot; نوتوريوس quot;، المتكئة على تلك الإشاعة، الموصوفة، لم ترُق لمنتجي أفلام مخرجنا الكبير. فما كان من هيتشكوك إلا المضيّ أماماً في مشروعه هذا، مؤسساً لأجله شركته الخاصة، المنذورة منذئذٍ لإنتاج أعماله السينمائية والتلفزيونية. من جهة اخرى، ثمة عنصر أكثر جدّة، بدا أنه أضحى شاغل هيتشكوك؛ عنصرٌ نسائيّ في واقع الأمر، كان له معه قبلاً تجربة سينمائية واحدة، حسب : إنها الممثلة إنغريد بيرغمان، السويدية الأصل، والتي ما قدّر لأيّ كان إلا الإفتتان بها؛ وخصوصاً أولئك الذين أجاز لهم السعدُ العمل معها. كان هيتشكوك، أحدهم؛ وهوَ فوق ذلك كله المخرجُ المهابُ، المتعيّن على كل من في طاقمه الإمتثال لأوامره وتوجيهاته، الصارمة. ولكنّ مذكرات الفاتنة السويدية هذه، وعنوانها quot; حياتي quot;، أفردت للمعلم المرعب ذاكَ، صفحاتٍ دافئة، وديّة. مما يجعلنا نستنتج بمعاملة خاصة، محضها الرجلُ لنجمتنا خلال سير تصوير الفيلم، حتى أنه تجاوز بكل أريحية صرامته وتشدده، فيما كان ينصت لملاحظاتها خلال تصوير الفيلم. إن إنغريد بيرغمان، بأيّ حال، هيَ البطل الرئيس لفيلم quot;نوتوريوسquot;؛ حيث إحتل دورها الرائع، المميّز، مساحة الكادر، الأكبر. وبلغ من تواشج إسم نجمتنا السويدية بتحفة هيتشكوك هذه، أنّ واحداً من أشهر كتب السيرة عن حياتها، قد جُعِلَ عنواناً له إسم quot;نوتوريوسquot; نفسه.

4
كما كان شأن معظم أفلامه، فإنّ رائعة هيتشكوك، الموسومة، إغترفتْ حكايتها من نصّ من تأليفه. لقد نوهنا آنفاً، بكون نصوص مخرجنا قد وجدتْ لها مكاناً في هذه السلسلة الأدبية أو تلك؛ وربما كان ذلك بفعل شعبيّة أفلامه. على أننا يجب ألا نغض الطرف هنا، عن حقيقة اخرى : وهيَ أنّ نصوص هيتشكوك، (وأغلبها سيناريوهات لأعماله السينمائية)، وإنْ لم تحظ بمكانة مرموقة في عالم الأدب الحديث، ولكنها أسهمتْ بفاعلية، جد مؤثرة، في تأسيس صِرْح الأدب السينمائي. فلطالما إشتكى الروائيون من فشل نصوصهم سينمائياً، حتى أنّ هذه الحقيقة أضحت معروفة، وصَرّح بها بعضهم بمرارة؛ كهنري ميللر وغارسيا ماركيز ونجيب محفوظ. هنا تكمن أهميّة مبدعين، بحجم هيتشكوك وبازوليني وبونويل ـ كأمثلة من أسماء شهيرة ـ جمعوا بين مَلكة الفنّ وموهبة الكتابة؛ لتتبجّس من هكذا قران لفرعَيْ نهر الإبداع أمواهٌ عذبة، دافقة ورائقة. كان quot; نوتوريوس quot; من واردات ذلك القران، الموصوف، وعبره تمّ ترسيخ عبقرية هيتشكوك في عالم الفنّ السابع. قبل كل شيء، علينا الإشارة إلى ثيمة رئيسة، شكلتْ على رأينا محورَ حكاية الفيلم : إنها ما يمكن نعته بـ quot; الجريمة غيرَ المكتملة quot;. لقد تتبعنا أثر الثيمة هذه في سينما هيتشكوك، ولاحظنا أنها الطاغية على مواضيع أفلامه جميعاً. إنّ إنغريد بيرغمان، مثلما قلنا من قبل، تلعبُ دور البطولة في فيلم quot; نوتوريوس quot; : ها هيَ إذاً تتقمّص هنا شخصية quot; أليسا quot;، الفتاة المبتلية بإدمانها على الكحول إثر صدمتها بمعرفة حقيقة والدها المتوفي، الذي سبق له أن عمل خلال الحرب لصالح النازيين. في غمرة إحباطها، تتعرّف فتاتنا على شابٍ وسيم (النجم غاري غرانت)، معجب بها؛ فلا تلبث بدورها أن تبادله عاطفته. بيْدَ أنه لسخرية قدرها، تكتشف quot; أليسا quot; أنّ حبيبها هذا ليسَ سوى عنصراً في مكتب الأمن الفيدرالي (إف بي أي)، وأنه بصدد تجنيدها في مهمّة سريّة، من المفترض أنها ستكون بمثابة إعادة إعتبار لعائلتها. المهمة تلك، مكانها في العاصمة البرازيلية؛ جنة السيّاح.. والجواسيس. عند هؤلاء الأخيرين، كان على بطلتنا المراوحة، سعياً لإقتناص فرصة ما، مناسبة، للتعرّف بأحدهم. وما عتمتْ شبكة الجمال الأنثويّ، أن أوقعت قنيصتها بسهولة : إنّ أحد معارف والدها، الألمان، كان ثمة في دائرة الشبهة؛ في عصبة جواسيس تسعى لرفد النازيين بشحنة يورانيوم، في سبيل صنع قنبلة ذرية. تتزوّج quot; أليسا quot; من هذا الرجل، وتنتقل للعيش معه في القصر الفخم، الذي يضمّ أيضاً والدته؛ المرأة المتسلطة، الشريرة، المتبدية في الحكاية كما لو أنها الرأس المفكر لعصبة الجواسيس تلك. حينما يلتقي الحبيبان مجدداً، تنبعث عاطفتهما القديمة. على أنّ أمرَ الزوجة، المخادعة، يُصار إلى علم سيّد القصر وأمه؛ خصوصاً بعدَ تيقنهما من إيصالها للمكتب الفيدرالي معلومات قيمة للغاية عن شحنة اليورانيوم. يقرران على هذا التخلص منها بسمّ قاتل، بطيء المفعول، قاما بدسه في شرابها المسائي. ولكن الحبيب، إلى الأخير، يكون هناك في قصر الجواسيس ذاك، ويتمكن من إنقاذ quot; أليسا quot; في اللحظة الحاسمة.

5
شكلاً، كانت الحبكة البوليسية، هيَ الأكثر مناسبة لفيلم quot; نوتوريوس quot;. إلا أنه، كما سبق ولاحظنا، فثمة حكاية حبّ، كانت مهيمنة على التحفة الهيتشكوكية هذه؛ حكاية، شاءَ لها المخرجُ ـ ككل ما عرضته أفلامه، تقريباً ـ أن تتضمن ثيمة quot; التحرر quot;؛ سواءً بسواء، أكان ذلك مصيراً شخصياً أو عاماً. بكلمة أوضح، أنّ العلاقة التي توثقت بين quot; أليسا quot; وحبيبها، قدّرَ لها أن تحررها من عقدة الذنب، الموصوفة آنفاً، بكل ما خلفتها في نفسيتها من جراح. وفي الآن نفسه، منحتْ تلك العلاقة الحبيبَ شريكة لحياته : وكان quot; تحرير quot; المجتمع من خطر كارثة محققة، مفترضة، هوَ الوجهُ الآخرُ للثيمة الموسومة تلك. ما سبق لنا عرضه في حكاية الفيلم، عن خلاص بطلته من القتل المدبّر، يضافرُ ما أثرناه عن quot; الجريمة غير المكتملة quot;؛ بوصفها ثيمة أثيرة، متوافقة بدورها مع هوى هيتشكوك. وإذ ألمحنا لمشكلة البطلة، النفسية، فلنقل إذاً أنّ مخرجنا بذاته قد إحتبس في داخله، أيضاً، عقدة نفسية لا تقلّ عمقا : كان الطفلُ quot; آلفريد quot; عنيداً ومشاكساً في طبعه، وعلى الرغم من حقيقة خجله وإنطوائه. ومما فاقم في حالة الطفل هذا، أنّ والده ـ وهوَ للمناسبة، ضابط بوليس ـ كان شخصاً صارماً، يشترط من جميع أفراد العائلة الإمتثال والنظام والإنضباط. يوماً، وفي ذلك العمر المبكر، يرتكبُ quot; آلفرد quot; هفوة ً ما، هيّنة؛ إلا انها كانت كافية للأب القاسي لكي يأمره بالتوجه مع رسالة لرئيس المخفر، القريب، ليُصار إلى سجنه ليلة هناك. يكبر طفلنا، وأثرُ الحادثة تلك يكبر بدوره، ليستحيل عقدة ً، عصيّة، في أعماقه. ها هوَ، وقد أضحى مخرجاً ذائع الصيت في quot; هوليوود quot; وعبْرَها، في أنحاء المعمورة؛ المخرج، الذي سيُعرف أكثر من أيّ شيء بأفلامه، الغرائبية، المعتمدة شكلاً بوليسياً بحتاً. صرامته في العمل وقسوته على طاقم أفلامه ـ بما فيهم أشهر النجوم ـ وإنضباطه؛ كل ذلك يُحيلنا إلى شخصية الأب، ضابط البوليس. بيْدَ أنّ هيتشكوك، المحكوم بعقدة طفولته، تعمّد السخرية من رجال البوليس في مجموع أفلامه الثلاثة والخمسين؛ حدّ أنه أوعز فيها للناس العاديين أن يقوموا بهمة ودأب، ناجحَيْن، بمهام أولئك الموظفين الرسميين. وكما فعلتْ مواطنته أجاثا كريستي، في رواياتها البوليسية، فإنّ مخرجنا هذا، إعتمد أحياناً في أعماله السينمائية والتلفزيونية شخصية quot;التحرّيquot;؛ أو البوليس الخاص. يبقى أنّ تأثير آلفريد هيتشكوك، على السينما العالمية، العميق حقاً، مسألة بدهيّة لا يُمترى فيها؛ تأثير، إنسحبَ أيضاً على السينما العربية ـ والمصرية تحديداً. على أنّ هذا موضوعٌ آخر.

[email protected]