"ابن خربة سيتزوج سونية القرعاء"... سرى الخبر في النهج سريان النار في الهشيم.. كأن رؤوس الناس إذ سمعوا به، مهشمةٌ هاماتها بالهراوات.. ومع ذلك كنا آخر من سمع به.. هل قلت كنا؟!.. نحن الذين تفرض طبيعة عملنا أن نعرف كل شاردة وواردة في النهج.. أن نسجل بالصوت والصورة كل الحركات والسكنات.. أن نقدّم في التقرير اليومي تصوراً واضحاً عن ألوان ملابس عرب النهج.. كل ملابسهم.. أن نجعل كل واحد منهم يبصم بأصابعه العشرة على تفاصيل دقائقه الرتيبة.. على اسم الحبيبة.. مرابع صباه.. أن يدور في دهاليز نفسه الأمـَّارة.. قلت كنا.. أما الآن فقد انسحبنا إلى الهامش.. ويمكنني أن أكون أكثر دقة من ذلك لأقول إنني ومجموعة الأعوان في النقطة قد أصبحنا بهذه الطريقة.. مجرد كومبارس.. على مسرح العرائس.. في حين تحول عرب النهج من تحت أقدامنا إلى جموع من الكراكيز الشاردة.. كراكيز تتخبط هائمة على وجوهها وسط دروب الحياة النازحة.. لا حسيب ولا رقيب..
وفجأة وعلى حين غرة منا انسرب ابن خربة على المسرح كما تنسرب العفاريت من القماقم.. راكضا يذرع النهج وسط القعقعة والعمائم.. أصبح على كل لسان.. ذهب.. جاء.. عرس ابن خربة.. طلاع الثنيَّات.. عنترة الوقت.. حتى حوائط البيوت المتصدِّعة تحاصرنا.. تستفزنا.. الفحم المتخثر على جدران السلخانة يتحدانا.. قلت بعد أن جمعت الأعوان: جميع عرب النهج مسجلون عندنا باعتبارهم حالات خطرة.. مشبوهين مع مرتبة الشرف.. اسمه غير مسجل هنا.. ما هو عملنا إذن؟ بدلا من أن تقتادوه ذليلا حقيرا ويرفسه أحدكم تحت قدميَّ.. تحولتم بقدرة قادر إلى حكماء ودراويش "سيدي لا تصدق كل ما تسمع، وصدق نصف ما ترى".. "سيدي ألسنة الخلق أقلام الحق".. "سيدي.."... قلت بعد تفكير عميق: ما الذي يتحتم علينا فعله للقبض عليه؟ نقتاده هنا إلى النقطة.. يأكل وجبة دجاج محمَّر.. نجعله يبصم على اعترافاته.. من يكون؟ من يقف وراءه؟ نشرِّحه.. نملِّحه..
قلت: احْتنِكوا عرب النهج.. سأريهم النجوم في رابعة النهار.. سأجعل نهارهم ليلة طويلة.. يغطي ظلامها لسان الفتيلة.. ألفُّ شموعهم في عباءة ليل ضرير طويل.. أخرسُ أنفاسهم في السيول.. قلت بعد تفكير عميق: أرميهم بالتقسيط المريح إلى المحارق.. أجلل أحلامهم في المشانق.. لابد أن يخرجوه.. أنا أعرف أنهم ضالعون.. أعنيكمْ.. لا أستثني منكم أحداً..
حتى عمِّي البكوش.. ذاك الذي تعرفونه.. بشحمه ولحمه.. تورط في الحكاية.. وفتحنا له هنا في النقطة ملفاً خاصاً.. هذا الملف الأزرق الذي بدأت الإضبارات تقرع أبوابه تباعاً... لأن الخير يتسابق..
"تدلىَّ عمي البكوش من بوابة النهج عند قهوة بونخيلة والعربة تلهث أمامه، وظل يوزع القهقهات حتى النهاية مقابل بيت الغولة.. وكلما احتسى الزبائن كؤوس الشاي واستفـُّوا حبات الفستق.. يعيد هو غسل الأكواب.. يجففها.. ويضعها مكانها على مائدة العربة.. ينفخ الكانون مرة أو مرتين ويرمي القطع النقدية في قارورة الفستق الزجاجية ويدفع العربة إلى المحل الموالي.. ابتسامته اليوم كانت مقرونة في كل مرة بحركة طرب لها الجميع.. يضم أربعة أصابع بقوة إلى كفه.. يفرد السبابة مشيراً إلى بيت الغولة.. ثم يهوي بها إلى الأرض في نصف انحناءة حادة.. يزمُّ شفتيه بقوة مجعداً أنفه تجعيدة خاصة..
ووسط ذهول عرب النهج يقوِّس السبابة في شدقه.. يقوِّس ويقوِّس والقهقهات تشيِّعه.. لقد بدأ الموسم.. بدأت المسْخرة على إيقاع كؤوس الشاي والفستق.. وعندما وصل السلخانة نضبت الإبريق، فتدلىَّ منسرباً مع النهج لا يلوي على شيء، وقعقعة العربة أمامه.. القهقهات عن اليمين وعن اليسار..
"وحين واجه بيت الغولة تحوَّل إلى الرصيف الأيسر من النهج وغاص في الجموع المتجهمة، وغاصت الجموع في الشارع، وغاص الشارع في ميدان الشهداء..
قلت: ميدان من؟!..
"تثاءبت حافلة ثانوية سكينة.. ساحت الزهور البرية.. نفس القامات.. الملاءات الزرقاء ذاتها.. الأعاصير المختبئة في الأكمام.. "طلبية" واحدة تنداح متذاوبة في أقبية النهج وسط الهمسات (ابن خربة سيتزوج سونية القرعة).. مقابل شباب السلخانة قوست إحداهن يديها أمام وجهها.. فغرت فاها على آخر مقاس.. تصايحت مع الأخريات "لنهربْ جاءنا ابن خربة".. وعند النهاية دخلت آخر واحدة في الباب المقابل لقهوة بونخيلة..
"كانت باقة من أطفال النهج تمارس لعبة جديدة.. يجتمع البراعم.. يغنون.. يشتجرون.. يتلاطمون بالأيدي على الوجوه ويبدون الحرد.. ثم تبدأ جولة مصارعة، ويصبح الطفل الفائز على الجميع هو "ابن خردة"... يجلس بجانب إحدى الزهرات فيما بقية الأطفال يرقصون ويحتفلون بنزق.. ثم يصار من حين إلى آخر لقلب الطاولة وإعادة اللعبة، ومن يفزْ يصبح هو "ابن خردة" الجديد، ويجلس إلى جانب زهرة أخرى ليلعبا لعبة "ابن خردة وسونية القرعة"..
قلت للأعوان: كيف حالكم الآن؟! ماذا تريدون بعد هذا؟ الخلق غزا الفضاء ودخل الألفية الثالثة ونحن عاجزون عن الإمساك بشخص له ارتباطات غير واضحة؟ وكلما عادت دورية عادت أخيب من أختها: "سيدي لم نجده...".. "سيدي بحثنا كل أقبية النهج.. كل الدهاليز.. الثنايا والطوايا.. سيدي دخلنا إلى شعاب الحنايا.. المعارج والمهالج..".. حسناً.. تبخَّرَ.. طارَ.. حسناً استمروا هكذا حتى نطير جميعاً من هذه النقطة بعد أن يصل خبر التغريبة إلى الجهات المختصة وحين تسألون في الملف اليومي تقولون لا نعرف هذا الإبن خربة..
بلاغة الإضبارات والجمل الممطَّطة لا تعني شيئاً عند هؤلاء.. من يضمن مثلا رد فعلهم إذا قرؤوا في هذه الإضبارة: "أما سونية نفسها فقد كثفنا حولها المراقبة.. كانت جالسة طيلة اليوم في السلخانة وكأن الأمر لا يعنيها في شيء.. - وهنا يجب عليَّ أن أعترف لكم سيدي بأنني أستشهد من إضبارة وردت إلى هذا الملف.. ملف طبيعة المواد التي تتاجر فيها سونية.. بعضها سجائر وتبغ مطحون تضعه على البساط الذي تجلس عليه بصبر.. والبعض الآخر - حسب المصدر - موزع على أقساط صغيرة.. ويبقى تحت الغطاء لا تبيعه إلا لزبائن معروفين في السلخانة -.. المهم: "سلوك سونية اليوم كان مريباً على أقل تقدير.. التنين اليوم آثر أن يلعب دور عروس البحر.. من بداية التغريبة إلى نهايتها وهي مقرفصة في براءة كمن لا يعنيه الأمر.. إطراقتها ساهمة، كمن يفكر في المستقبل، لها تفسير واحد معتاد في مثل هذه الأحوال هو القبول.. القبول كان التفسير الوحيد فيما نرى.. وحتى قبل أن تصل نوبة التغريبة ذروتها حين هوَّش عليها ذياب الحنـَّاش بمزماره ممازحاً: "ياعروس النهج".. نـَقطـَتـْهُ بسيجارة لفـَّتها عن طيب خاطر مبتسمة.. صحيح أن الابتسامة كان فيها شيء من التكشيرة.. وكانت على كل حال مروِّعة.. التقط ذياب الحناش السيجارة بشفتيه.. وعاد بحركة أكروبات إلى وسط الحلقة..
"تدفقت الكراكيز.. أهلاً أهلاً.. في هذه اللحظة وعلى حين غرة منا قفز بوزيد البلهوان قفزات متتالية في منتصف الحلقة ممسكاً بعصاه كحيلة.. ازداد التصفيق.. تدفقت الكراكيز حوله.. قفز على رجْل واحدة وعقف الأخرى في الهواء.. أما الطبل فكان يسبح على بطنه لاعباً لعبة شد الحبل مع الحمائل الجلدية المتشبثة بمنكبي بوزيد البهلوان بهمة.. هز الجدائل الشعثاء بقوة على إيقاع الطبل ومزمار ذياب الحناش.. الغدران الفاحمة تنساح وسط الدخان الأشهب على منكبي الذئب الأغبر.. بدأت أقدام الكراكيز تتحرك تلقائياً مع الإيقاع.. تدفق العشرات من جهة قهوة بونخيلة.. اللعنة على البلاغة.. "وهذا أمر متوقع فمن يرضى أن تفوته تغريبة ابن خربة في عرضتها الأولى؟!
وفجأة حدث كل ما كنا نتوقع مرة واحدة دون مقدمات.. بدأت التغريبة حين هوَّش بوزيد البهلوان بعصاه "كحيلة" تهويشة واسعة في الهواء (آس.. آس) فصمت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير:
بالله يا حاضرين صلوا على النبي
وكل من صلى عليه ربه هداه
تدثرت الزعاريد بالهلاهل.. هاج الراقصون وماجوا.. اختلطت الأبدان، وفي المنتصف كان بوزيد البلهوان يبارز ذياب الحناش.. وكلما ضرب الكوز بالزير.. (في التقرير: كلما ضربت كحيلة بالمزمار).. يراوحان رجليهما وعرب النهج مدورون حولهما.. الأيادي العليا تهوي على السفلي.. تسحق طواحين الهواء.. موجة تصفيق لم تشهدها السلخانة ولا النهج.. سأقول: لم تشهدها المنطقة قاطبة.. واستمرت أسماط الزجل.. لا يفصل بين دفقها سوى العملاق البرونزي حين ينتصب آمرا (آ...س) والكراكيز تقبض على روي كل بيت وتردده و:"زيدْ يا بوزيد"..
ومن حين لآخر تنتشر أسماط جديدة.. فيما يبدو أنه تجلٍّ شعري جديد... أبوزيد امتطت رأسه اليوم ربات الشعر فطفحت مغانيه.. طالت النوبة واستطالت.. وسمعنا مقاطع من تغريبة بني هلال التي اعتاد بوزيد أن يجمع بها المال قبل ظهور ابن خربة في النهج.. وقبل انتهاء النوبة هوَّش بكحيلة في الهواء بحركة نصف دائرية.. (آ...س).. بيَّض عينيه في السماء.. حفز نفسه بصوت مسموع.. بدأت الكراكيز تتفرق منهكة في النهج.. ارتفعت مجادلة في السلخانة حول آخر مباريات الدوري..
"أما بوزيد البهلوان فقد امتطى كحيلة.. حفزها بهمة.. راحت تعلك لجام ذكري التغريبة.. والقبضة البرونزية تعاند اللجام.. الكراكيز توسع الطريق.. (وسَّعْ وسَّعْ.. ها هو جا).. وبوزيد مغتبطاً بما تحصل عليه اليوم في جرابه، يكافئ الكراكيز بحمحمة كحيلة وآخر السماط:
كحيلة يا رفاعة الأثقال.. يا زهو البال..
عليك فارس من أولاد هلال
مع كل هذه التفاصيل.. البلاغة المتخثرة.. الحبر المسفوح.. مازلت لم أعرف حقيقة ابن خربة.. وحين قارنت إضبارات الأعوان.. تقطعت خيوط التغريبة جميعها عند ثلاثة أشخاص سأسميهم "مشبوهين": عمِّي البكوش.. بوزيد البهلوان.. سونية القرعة..
قلتُ: عمي البكوش طوي الله فمه على الصمت منذ اليوم الذي فتح فيه عينيه على الدنيا. ويطوف النهج بائعاً فقط.. لا أحد من عرب النهج يعرف اسمه الحقيقي.. ولأنه لا يثرثر بصوت عالٍ مثلهم سَمَّوْهُ البكوش.. من حسن الحظ أن كل أخرس هو أصم أيضاً.. فكرت: إذن كيف سمع بالتغريبة حتى يصبح أول من شغِب بها في النهج؟ رآها فيما يرى النائم تلك كانت الإجابة المنطقية الوحيدة.. توقفت كثيراً أمام ملاحظة عابرة وردت في تقرير إحدى دوريات العسس إثر عودتها من حظر التجول: "رأينا في الهزيع الأخير ظلا يتحرك في ضمير إضاءة النهج الخافتة.. كان يتسلل على رؤوس الأصابع مقوساً ظهره.. تابعناه.. (طبعاً).. كمنت مفرزة الهاون في السلخانة.. حين اقترب من أحد الأقبية التصق بالحائط.. كانت قطة فاسقة تعكر صفو المكان بزعيق السفاد.. تعلك ذيلها وتقعي.. تعلك ذيلها وتقعي.. تحرك الظل مع الإيقاع.. يبدو أنه يعاند إعصاراً ساحقا.. اشتبكت الأشياء مع ظلالها.. وعندما دخلت النوبة حدوداً محمومة، ارتفع نباح السلاقي من الأقبية.. وسرى الهرج والمرج.. جميع الأعوان.. كل المفارز.. "لا جديد".. "الوضع الأمني مستتب".. كثفوا البحث.. مفرزة الهاون مقابل قهوة بونخيلة.. انتباه عسس الهاوية عند مدخل الشارع.. تمامْ.. حوِّلْ..
جمعت الأعوان: مبروك عليكم الآن؟.. كنا نبحث عن مشبوه واحد، وأصبح عندنا الآن مطلوبان.. ابن خربة.. ومشبوه خيال الظل.. والبقية تأتي.. "سيدي كل الخيوط تقطعت عند عمي البكوش.. عند بوزيد البهلوان.. عند سونية القرعة.. عند العفريت الأحمر الطالع بقرنيه من قمقم النهج كالفزاعة، دعونا من هذا التخريف..
"سيدي سمي (..........) لأنه أصلا التقط رضيعاً من قماط خرائب النهج.. عندها عرف الجميع قصة أمه.. المهم: في سن الدراسة كان الوالي "الرومي" يرغم أطفال النهج على الدخول في مدرسة الإرسالية، فدفعه أحدهم للوالي بدلا من ابنه.. حسنا ثم ماذا بعد؟ هذا كل ما نعرف.. من أين عرفتم هذه التفاصيل التي تحسدون عليها حقا؟!. سمعناها من أحد المسنين.. من قالها له؟ عمي البكوش. دعونا من هذا التخريف.. لينفرط عقدكم الآن من أمامي.. وليؤدِّ كل منكم ما أوكل إليه.. الأمور أصبحت تقتضي تدخلا جديا وحازما.. لابد مما ليس منه بد. حتى لا تلتهمنا العاصفة.. وما أدراكم ما العاصفة؟!..
حلم الأخرس:
قلب عمي البكوش يده في الهواء حين أشرت إليه مستفسرا عن الحلم الذي أشيع أنه رآه وكان الشرارة الأولى لزواج ابن خربة.. رسمت بيدي خربة في الهواء.. فردت الثومة العليا من سبابتي ورفعتها بقوة، ثم شقلبت يدي في الهواء إلى الخلف.. يبدو أنه فهم المقصود، فسدر مبتسما وبدت عليه علامات المرح.. لم أفهم.. شجعه مزاجه الرائق أكثر على الإمعان في التحدي والافتراء.. جلس على الكرسي الوثير يميني دون استئذان.. هذا هو جوابه الوحيد على سؤالي.. قررت أن أمسك بزمام المبادرة هذه المرة.. كورت يديَّ جيداً ووضعتهما على صدري مفرجتين شيئا ما ثم حككت برؤوس أصابعي شعر رأسي بحرقة.. وعندما هز عمي البكوش رأسه متأففا.. شقلبت يدي مسائلاً.. ابتسم وفرد سبابتيه وجعل يحكهما إحداهما بالأخرى.. عرفت أنه مازال يناور ولا يريد أن يعترف باسم صاحبه.. وكان لابد من تغيير الطريقة.. دخلت رأسا في الجد: زغردت ورحت أوقِع بالسبابة على شدقي المنفوخ.. هنا مد يده في طيبة وربت على يدي وأشار بإصبعه إلى السماء في ضراعة.. ارتخت عينه وابيضت حدقته.. قلت: رجل صعب.. الذئب الأغبر مازال يرفض الاعتراف باسم صاحبه.. غيرت ملامح وجهي.. عقدت ناصيتي وزممت شفتي بقوة كأنني أكز.. كنت في الواقع أطبق بفكي السفلي على العلوي.. أضراسي تكاد تتكسر.. وسمت جبهته الباردة بسبابتي.. وحين حملق يتملاني مرَّرْتُ شفْر يدي على رقبتي.. ظل ساهماً كأنني لا أعنيه.. ألححت على رقبتي فقرر أن يخرج عن صمته وأشار بالخنصر إلى الأرض وبصق بخفة.. فهمت أنه يستعيذ من الشيطان.. هذا أول الخير الذئب الأغبر يتعوذ ليتبرأ من صاحبه.. يبدو أنه ألِف النقطة.. أخذ يجوس في المكتب الأغبر يتفحص كل وسائل الإيضاح: العصي.. الكرابيج.. الحبال.. الفلقات.. وأخيرا وقف عن يميني يتملى الصورة المبروزة عند ظهري.. هذا أول الخير.. بدأ يلف حبل النهج حول رقبته بيده.. ذنبه على جنبه.. في التقرير سأكتب (بما كسبت يداه).. أطرق كمن يفكر في المستقبل.. أرسل رأسه بين كفيه.. دلفنا بعد ما فتح الأعوان الدهليز.. مع اقتراب درجات السلم من القاع راح يلهث.. فتحت إنارة إضافية.. كان بعض الزبائن مازالوا يتلوَّوْن بحرقة.. يتلمظون بقية وجبة دجاج محمر أكلوها بـ"الهناء والشفاء"..
وقفنا في منتصف الدهليز.. الزبائن الآن مجموعة نزقة من الدمى على مسرح العرائس أثناء النوبة.. لم يخف استياءه.. أشار بالسبابة فوق.. بصق قليلا وأغمس الخنصر في الأرض.. عندما صعدنا درجات السلم عرَّفته على عريف الدهليز الذي كان يدندن بصرير الأبواب والسلاسل.. كشر في وجهه وأشار إلى عتمة الدهليز وأخذ يجلد الهواء بسبابته.. الذئب الأغبر ظل ساهماً وإن لم يخف استمتاعه بهذه الحفلة التنكرية.. هز رأسه مؤمِّنا.. دخلنا المكتب.. ملأت فراغات المحضر.. أدنيته من الطاولة.. رسمت خطاً مستقيماً تماماً وعقدت إبهامي إلى الوراء.. ثم رسمت خطاً معوجاً وأشرت بسبابتي إلى الأرض.. تذكرت عصاي المعقوفة باسطة ذراعيها بالوصيد.. أخذت أهش بها على الخط المعوج.. لكن عمي البكوش لم يعر اهتماما لدرس الخطين.. ظل ينقل عينيه بين الصورة عند ظهري والعصا.. وحين نقر بسبابته عقفة العصا فهمت الأنشوطة التي يريد حياكتها حولي.. قررت أن أعالج الأمر بطريقة مبتكرة.. قلت: أحرقه في عيون عرب النهج.. أجعلهم يعتقدون أنه أحد "الأعوان".. كانت الابتسامات تشيِّعنا.. وقرب السلخانة على مرأى من جميع العرب قبلت رأسه وربت على منكبه: (مع السلام).. وفي المحضر سجلت: "لم يقوس إصبعه في شدقه. وإنما خلف عينه فوق عظْمة الحجَّام".
أبوزيد البلهوان في بيت الغولة:
رجل حسن الصنع عضلاته مفتولة: يصلح حمالا أو زبالا أو أي عمل شريف آخر.. يستحضر في أذهان عرب النهج صور الأبطال.. كبار السن يشبِّهونه بأبي زيد الهلالي.. الصبايا والشباب يعتبرونه "أبا عنتر"..
أما هو فيعتبر نفسه شاعر زجل.. مداحاً في الموالد.. تاجر أوابد في السلخانة.. قطب مجاذيب الشاذلية: فكاهياً.. جوالاً دون هموم.. رجل كل المواسم.. وحين اقتحم عليَّ المكتب وانصرف الأعوان.. بدا كأنه هو من أرسل في طلبي.. كشف عن ذراعيه المفتولين.. أرسلهما إلى وسطه: - نعم سيدي؟
-لماذا اخترت هذه الأيام أن تكون شاعر زجل؟
لست شاعر زجل!
والتغريبة التي ترددها منذ عشر سنوات في السلخانة أليست من جنس الزجل؟
هل أفهم إنني متهم بقول تغريبة بني هلال؟
أنا من أسأل: نعم متهم ونصف.
هذا خبر سأعلنه الآن في السلخانة بعد خروجي.
خروجك أنت لن تخرج من هنا إن لم تعترف..
أعترف بماذا سيدي؟
بأنك قائل التغريبة.
ألمْ أعترف؟.. سجلوا أنني قائل التغريبة.. سجلوا أنني أطلقت شائعة لدي النعمان عن أخلاق زوجته.. وأنا ذياب بن غانم.. أنا الجازية.. أنا حسن بن سرحان.. هذه رأس الزناتي خليفة.. هل ارتحتم الآن سيدي؟
ابصمْ هنا..
هاك العشرة وإن رأيت من المفيد أن أبصم بما هو أكثر فقل ولا تكنِّ.
حسناً وقد اعترفت بأنك قائل التغريبة أجبني بصراحة: ما هي حقيقة سونية القرعاء؟
لا أحد يعرف (عجوز شريرة) وجه نحس.
هذا ليس وقت الابتسامات العراض: من أين جاءت إلى النهج؟
لا أحد يعرف (ظهرت فجأة في النهج تبيع أشياء (....) أنا أنصح.. هي تزبد بتخريفات عن أسلافها المزعومين، وحينا تفاخر بأزواجها الملونين.. وتتحرَّق على ابنها المفقود.. سيدي لعنة الله عليها وعلى ابنها.. السؤال الموالي؟..
بوزيد اسمعني جيداً.. صبرنا عليك كثيرا.. شاعر جوال: قلنا نعم.. فكاهي مرح: قلنا نعم.. أحد الضالين قلنا: آمين.. ولكنّ ثمة حدوداً لكل شيء.. نحن وصلنا الآن إلى اللحم الحي.. تعالَ معي... هل رأيت عرب الدهليز؟ رأيت ذلك الذي يتلوى في الزاوية السفلى.. ذلك المتكور على نفسه مثل (الدجاج المحمر).. أنا في النهاية معجب بأزجالك.. لا أريد أن تأكل ما أكلوا.. انظر إلى هذا الخط المستقيم.. وهذا الأعوج.. إذا استقمت معنا واعترفت بكل شيء فستخرج من هنا..
أخرج؟!
دعني أكمل.. تخرج بدون عاهة مستديمة في قدميك.. لن تستضاف في الدهليز.. أما إن آثرت الخط الأعوج.. انظر إلى هذه العصا المعقوفة.. ستكون كالمطرقة.
والسندان؟
أنا من أسأل.. السندان قدماك طبعاً.
ما المطلوب؟... يا سي الحسن الشاذلي.. الغوث الغوث.
المطلوب بالضبط أن تدلنا على ابن خربة.
هل تصدق عرب النهج.. أنا لست مجنوناً ولا مجذوبا.
المهم أنك (مج).. هل تنكر أنك تعرفه؟ أين التغريبة.. والشعر الملحون والرقص في السلخانة "يا ناري آه.. يا ناري"؟.. أنت من حشرت نفسك في المشكلة.. أنت من اخترت الخط الأعوج؟
هل تريد أن تعرف كل شيء سيدي..
ناولني العصا.. هذه العصا معقوفة من أين؟
من فوق..!
اتفقنا.
أنت مجذوب... القانون لا يحمي المجاذيب... هنا يبدو أن بوزيد فضل قناع المجذوب على المجنون لكي يتستر على صاحبه ابن خربة.. وكان عليَّ أن أقفل المحضر لأتفرج على عرض تنكري.. دخل بدون مقدمات نوبة جذب حادة.. احمرَّت عيناه.. قفز يذرع المكتب.. أرسل لحيته بين كفيه المقفرتين.. أخرج خرقة خضراء ليدلل على إعجابه بمجاذيب القادرية.. انداحت الأزجال.. استغاث بالصالحين:
(الغوث.. الغوث.. يا سي الحسن الشاذلي)..
وعندما خرج إلى النهج سمعت لأول مرة على الطبيعة مقاطع من التغريبة بعيدا عن تقارير الأعوان وإضباراتهم المقعَّرة:
قالوا للجازية بنت الهلالي
شنْهي علاماتْ كبيرْ النواجعْ
قالت وسعْ الباع والجودْ والعطا
وإغاثة الملهوف وحمْلْ المواجعْ
وعندما احتشد عرب النهج حوله.. ونحن واقفون وأصابع الأعوان على الزناد.. رماني بنظرة أمام الجميع:
وثلاث شمايت منهنْ
اعروضنا نْظايف:
ذبح الهفايف
وخلوط الوصايف
وعين الجفا للملهوف والخايف...
وقبل أن يغوص وسط الهرجة لوَّح بالطربوش (إلى اللقاء) قريبا يا (...)..
لم أتبلَّغ من الاسم السبة الذي ودعني به... وغاص وسط الكراكيز.. غاصت الكراكيز في النهج.. وغاص النهج في السلخانة.
أوديب يلتقي بأبي الهول:
لقد عقلت الخنصر والبنصر وبقيت الآن السبابة: سونية القرعة.. عرب النهج لا ينزهون أحداً، وإحضار إحداهن رغم كل شيء أمر مخفور بالشبهات.. أذهب شخصيا لاستنطاقها في السلخانة، ذلك هو الحل المنطقي الوحيد.. زيارة أبي الهول ليست لحظة هانئة.. سفنكس لا ينطق ولسان سونية نار موقدة كلسان السعلاة.. ذاك فرق وحيد.... الجلسة نفسها.. مشاكسة الأغراب.. النظرات الدهرية ذاتها.. لو جئت بزي مجعلك لا أضمن الاسم الذي ستطلقه عليَّ.. بالقيافة الرسمية ستكون تلك النهاية "الحكومة وصلت".. هذه العجوز لم تطلق على أحد إسما إلا آنسه في القبر وتوارثه أحفاده أباً عن جد.. عندما تتبعنا تغريبة (بيت الغولة) اتفق جميع الأعوان: (سونية أول من سمى نقطة الدرك الوطني بيت الغولة.. أول من سمى ساحة الحزب السلخانة.. ماذا ستسميني يا ترى؟! لست أعور حتى تغمز "عقله واحد".. "تكرم عينه".. لست أعرج.. لست أقرع.. لست طويلا.. لست قصيرا.. توكلت على الله.. أجمل ما أملك بدلة العرس المصونة.. مازالت في الدولاب تتحدى غبار السنين.. تأكدت من موقف زهرة اللوتس والفراشة المتعلقة برقبة القميص...
لقد فتح الله عليَّ: لن أسألها رأسا عن هوية ابن خربة.. نخوض في حوار ماكر طويل عريض حتى أضع يدي على كل شيء..
أهلاً أهلاً.. أبو الهول يجلس اليوم على كنبة.. مفزع حقاً.. العينان تدفق منهما الكحل على المحجرين.. الفم خرج للتو من بطن حيوان مغدور.. المفترسة تكشِّر.... ويمكنني أن أكون أكثر دقة من ذلك لأقول إن الشفة العليا ارتخت تدريجياً إلى أعلى كاشفة عن طقم الأسنان.. تجعَّد الأنف.. وضعت شفْر يدها أمام جبهتها، وحين صبَّحتُ وسط الهرجة وخصومة الكراكيز المتحلِّقة حول طاولة "الدامة".. وبرطمة متسكعي السلخانة ومشجعي الدوري، لم تجب. أعدت بصوت عالٍ: (صباح الخير).. فرَدَتْ السبابة وثبتتها وراء محارة أذنها: "الحكومة وصلت".. لكي أكتسبها جلست على طرف الكنبة.. ابتسمَتْ.. أما ما حدث بعد ذلك فلا يمكن لأحد أن يتوقعه.. غمَزَتْ بطرف لأحد الكراكيز، وفي ثانية حضر بو زيد البلهوان وذياب الحناش.. تحلَّق أمامنا عرب النهج بالمئات.. أطبقت الحلقة.. وفجأة جلجلت الصنوج والدفوف وغرَّد مزمار ذياب الحناش.. دمْدم طبل أبي زيد البلهوان.. تدثرت الزغاريد بالهلاهل.. وهوَّش الذئب الأغبر بعصاه كحيلة وأنا أرى مشدوها مشلولا.. (آس.. آ...س):
ها هو ضبطناهْ..
مدَّاري.
يا ناري.. آهْ
يا ناري.
ويا ناري.. آه
يا ناري.
... ... ..
.. .../

القصة فائزة بالجائزة الأولى من مسابقة غانم غباش للقصة القصيرة التي يمنحها اتحاد كتاب وأدباء الإمارات.


[email protected]
قاص موريتاني