كان عبد الباسط في منتصف الستينيات من عمره، يمشي مستنداً على عصا خشبية متآكلة مثل أسنانه السوداء. ملابسه رثّة، قديمة، لكنها نظيفة دائما. كان يرتدي جلباب أهل الريف ويحتفظ فوق رأسه بطاقية رمادية لا يخلعها عن رأسه أبدا، كانت تلك الطاقية تخفي أثر ندبة طالت جزء من جبهته أيضاً. لم يكن وجهه مريحاً أبداً خاصة تلك الندبة العميقة تحت جفن عينه اليمنى.
لم أكن أدرك ما الذي يعمله عبد الباسط تحديدا، ولكن من المفترض أنه يعمل حارساً للبناية المقابلة لمنزلنا. كنت ألاحظ أنه يقوم بأعمال كثيرة لا تحصى كتنظيف سيارات السكان وشراء حاجيتهم من السوق وإن لزم الأمر فإنه قد يعمل لدى السكان كنجّار أو سبّاك أو كهربائي أيضاً.
كان الأمر يبدو مضحكاً كثيراً لنا كأطفال لم يتجاوزا العاشرة من العمر بعد لمّا كان عبد الباسط يمر من أمامنا و بيده سلة مشتريات أو أنبوبة غاز، بينما اليد الأخرى تستند على عصا..! كان الأمر منبع قهقهاتنا ومرحنا يغذيها بالطبع شكله المتآكل.
لم يكن العجوز عبد الباسط يبدي أيّ انزعاج من ضحكاتنا و مرحنا وحتى سخريتنا منه وهو يسير على هذا النحو غير المألوف. بل كان يرسم ابتسامة فيها شيء من الارتباك تحمل في طياتها الكثير من الطيبة والألفة التي لا تتماشى مع تلك الندابات التي يحملها و جهة الأسمر.
وذات يوم ممطر جاء عبد الباسط كالعادة يحمل سلة من البيض والطماطم والخبز لأحد سكان البناية، وما أن مرّ من أمامنا ، حتى بدأنا كالعادة في طقوس الضحك والمرح والتفت عبد الباسط لنا كالعادة مبتسماً و لكنة فقد توازنه وتزحلق وسقط بسلة المشتريات فتعالت ضحكاتنا أكثر وأكثر.
نادتني جدتي وقالت لقد شاهدت ما حدث لعبد الباسط اليوم وشاهدتك أنت و أصحابك وأنتم تقهقهون وتمرحون.
- لماذا كنتم تضحكون..؟
فقلت وأنا أضج من الضحك: يا جدتي انه رجل مضحك جداً.. أما لاحظت كيف سقط فارتطم البيض وأفسد الطماطم ..!!
كان ذلك مضحكاً للغاية..!
نظرت لي جدتي نظرة غريبة وأومأت لي بهدوء شديد أن اجلس قربها، وقالت : هل تعرف يا صغيري بأن ثمة ملائكة موجودة معنا .؟؟
قلت : بلى!
اقتربت مني هامسة وعيناها تشع ببريق غريب من الحزم والحنان في آن واحد وقالت أسمع أن عبد الباسط هو أحد هؤلاء الملائكة.
فاجئني كلامها فجاء رد فعلي عنيفاً: هذا غير صحيح يا جدتي. الملائكة لها أجنحها وهي بيضاء تطير في السماء، لا تنزل على الأرض وعبد الباسط هذا ليس من الملائكة.. أنا أعتقد أنه هارب من السجن أو من السيرك ولكنه لا يمكن أن يكون من الملائكة أبداً.
قلت ذلك بكثير من الحماس و الثقة و كأن الملائكة من أصدقائي المقربين.
حسناً سأحكي لك حكايات عن ملائكة الأرض ولكن دعنا نبدأ بعبد الباسط ndash; هل تعرف لم يمشي متكأ على عصا؟ هززت راسي نفياً وقد بدأ الفضول يتسلل جوارحي.
كان عبد الباسط يعمل في قريته حارساً لمخازن القطن، ذات يوم جاء لصان من الأشرارعلى شاحنة يريدان سرقة محصول القطن، فتصدى لهم عبد الباسط وحدثت معركة أطلق فيها اللصان النار على عبد الباسط فأصابته رصاصة في ساقه اليسرى. لقد استطاع عبد الباسط حماية محصول القطن للسيد الذي يعمل لديه، ولكنه لم يستطيع أن يحمي رجله، فعاش بعد ذلك وهو يعرج كما ترى..
أما تلك الندبة التي تعلو رأسه، فتلك قصة أخرى.. تنهدت جدتي تنهيدة عميقة و كأنها تستحضر
ذكرى مؤلمة لا تحبذ أن ترويها لي و لكنها تابعت قولها: عندما شبت النار في بيت جيرانه، لم يستطيع سكان القرية إطفاء النيران المشتعلة وكان هناك أطفال لا يزالوا داخل البيت, فاقتحم عبد الباسط الكوخ بكل نخوة كي ينقذ من بداخله ولكن وهو في طريقه لإنقاذ آخر الأطفال سقط جزء من خشب السقف فوق رأسه و رغم الوجع تابع إنقاذ الجميع، وبعدها ذهب في غيبوبة طويلة ظن فيها الناس أنه سيموت ولكنة لكنه عاد للحياة ثانية حاملاً تلك الندبة كعلامة محبة من الله و وسام جديد تباركه السماء يتوسط رأسه..!
كان حديث جدتي عن عبد الباسط يمثل لي نقطة تحول مثيرة لأن حديثها شكل لي صدمة لمفهوم الإدراك لما غالباً ما يقرره خيالي بعدما تراه عيناي.. ولذلك قررت أن أقاوم جدتي وقلت بلهجة فيها تحدي الرمق الأخير.. وماذا عن تلك الحفرة العميقة في وجهه؟
ابتسمت جدتي و كأنها أدركت بأن هذا السؤال هو آخر ما في جعبتي وقالت: حسنا أنت تريد أن تعرف سر ذلك أيضاً .. هذه الندبة العميقة تحت عينه قصتها كانت هنا و في حينا هذ، فقد تبع بعض الشبان ابنة جارنا الخواجة اليونانيquot;كاريكاسquot; محاولين التحرش فتصدى لهم عبد الباسط مدافعا عن الفتاة كالملائكة، ونجم عن المعركة ندبة عميقة تحت عينه، بل أن احد هؤلاء الشبان الأشرار ضربة بسكين وشق بطنه ورغم ذلك ها أنت تراه حيّا يعمل بجد ونشاط ومحبة مستعد لحمايتنا من الشرور .

لم أستطع النوم تلك الليلة، فقد انتابني الحماس بأن يأتي الصباح سريعاً كي أقف لأرى شكل الملائكة الحقيقي.. كنت اشعر بأني أصبحت أكثر وعياً وإدراكاً وحكمة فأنا أعلم سر عبد الباسط.. وبأني قد ارتكبت معصية في سخريتي من أحد الملائكة.
في الصباح نهضت باكراً لكي أرى عبد الباسط يمشي وهو يحمل حاجيات السكان كالعادة.. كنت أريد أن يراني وأنا لا اضحك علية هذه المرة بل كنت أود أن أرفع يدي لتحيته من بعيد لعلة يعلم بأني أيضاً أحب الملائكة وبأني عندما كنت أضحك علية لم أكن أعلم بأنة واحداً منهم ndash; وانتظرت - ولكنه لم يأتي.. تشجعت وذهبت إلى مدخل البناية و بدأت أنادي: عبد الباسط.. عبد الباسط.. وتذكرت بأن الملائكة لابد أن تستحق مزيداً من الاحترام ولا يجب أن نناديها بأسمائها مجردة هكذا ndash; تلعثمت وأنا أبحث عن كلمات شاردة ولكن في النهاية صحت قائلاً: عم عبد الباسط.. عم عبد الباسط .. وجاء صدى صوتي.. باسط . باسط.. ثم لا شيء سوى صمت غريب طويل- لم يقطع هذا الصمت سوى طرقات حذاء سيدة تحمل في يدها حاجيات تسوقها من خضار وخبز ولفافات حلوى ndash; نظرت برقة إلي ثم أخرجت قطعة من الحلوى ومدت يدها لتعطيني إياها قائلة: لا تتعب نفسك فهو لن يرد عليك.. لقد رحل عبد الباسط ولن يعود مرة أخرى بعد اليوم.. جاء أهله وأخذوه فجراً.. لقد كان مريضا جدا...