وهو إذ يضحك بصخب أو فتور ويبتسم بعمق أو سطحية نعرف أن ردود أفعال أبا ذر الغفاري هي ردود أفعال من نجى من موت محقق، أو من تمكّن من الضحك على ذقون جلاديه! أبو ذر رجل تائه بين الكلمات وزوغان العين والضحك اللا متماسك. حواره عبارة عن تحشيد لمشاعره الداخلية التي ستقوده الى (الانفجار) الاختفاء بغرض تنظيم انتقاما مقدسا من القتلة.

أبو ذر الغفاري
(تقديم)
يتحدث إلى أحد فلاحي والده الكثيرين.

ـ أخذونا أولا إلى سرداب السلمان. سرداب السلمان سجن مشتول في منتصف صحراء الشلب. لا يقيم فيه أحد إلا السجناء السياسيين الخطرين. السجانون من أعتى خلق الله. بينهم من نفوه نفيا إلى ذلك الجحر الصحراوي، وبينهم من يشغل مهمة التجسس على البعض المنفي إلى جانب مهمته الأساسية كسجان. كل يوم يتغير الطاقم الجاسوس. كل سجان جاسوس يعمل يوما واحدا في الأسبوع ويقضي بقية الأسبوع في إجازة لكي يهيئ نفسه لليوم العصيب الجديد في سرداب السلمان. السجانون المنفيون يعملون خمسة أيام في الأسبوع، ثمانية ساعات في اليوم الواحد. الهوام في كل مكان. السجن هو قلعة قديمة فيها آبار جافة وأخرى صالحة. البئر الجاف يستخدم لعقوبات السجن الانفرادي. في البئر مختلف انواع الزواحف تظهر حسب فصل السنة. في الربيع تظهر العقارب. في الصيف أبو الجنيّب. في الخريف الصراصير. وفي الشتاء لا شيء. في الصيف تنتشر الأفاعي والعقارب السامة والظباء في باحة السجن. الرقابة في السجن ليست صارمة.
حركة

ـ إذا هرب السجين من سرداب السلمان يصبح فريسة للذئاب، أو الضباع، أو يموت عطشا تحت حرارة الشمس لأن أول واحة تبعد يومين مشيا على الأقدام، أو يضيع في الصحراء اللا نهائية. لن تكتب النجاة لأحد إذا ما هرب إلا إذا عرف الطريق جيدا، شريطة أن يمتلك ما يسد الرمق. تلك هي الأسباب التي دفعت عن ذهني أي محاولة للتفكير بطريقة ما للهرب.
حركة

(حدث أول)
ـ فتح أحد السجانين العفاريت كوة صغيرة في باب الزنزانة الخرافي صباحا وقذفنا، أنا وبقية المعتقلين، بخبز شبيه بالجلد العفن. في الظهيرة رمى لنا من الكوة حليبا ممزوجا بالروث، وفي المساء فتح الباب ورمى لنا قطعا كبيرة من اللحم النيئ المتعفن.
هكذا منذ اليوم الأول للاعتقال!
ـ وللغرابة بدأنا نسمن على أثر تناول اللحم العفن ونسمن نسمن!
حركة

ـ في ليلة ما رأيت حارسا يسترق السمع على السجان العفريت ويختفى. ليلة وليلتين وثلاث. ذات ليلية ظهر الحارس واسترق السمع والنظر واختفى، لكنه بعد زمن عاد من جديد وأبدى لنا الود. بيد أنه هرب بسرعة على أثر سماع قرقعة من بعيد.
ـ كان هذا حدثا كبيرا بالنسبة لنا! رحنا نضرب أخماسا بأسدادس عن سر السجان الذي يتعقب السجانين! في ليلة أخرى أخبرنا أنه أحد أقرباءنا من جهة الأم. وبعد ان بسط أمامنا شجرة العائلة المعقدة، فالوالد كما تعرف مزواج، عرفنا تقريبا من هو ومن أين أتى، وصرنا نعتقد أنه يتعاطف معنا بحكم كونه قريبا لنا. أنت تعرفه لا ريب! إنه فلان الذي ظننا أنه غرق قبل سنين في شط الحلة ولم تظهر جثته أبدا!

(حدث ثاني)
ـ في ليلة أخرى أعطاني مدية قادرة على حزّ وريد سجان دورية الغروب العفريت. فانتظرت قدوم العفريت والسكينة في يدي تكاد تفلت من كفي من كثرة ما تعرّقت يدي وارتجفت. لكنني في اللحظة المحددة فعلت المطلوب وهربت مع أخواني ترافقنا تمنيات الحارس (القريب) الذي وعدته خيرا بعائلته حالما أرى الوالد. وما كان من الحارس إلا أخبرنا بأن أكثر الطرق أمانا للوصول إلى المدينة:
ـ طريق شفاثة النفاثة!!
همس لنا.
ـ قضينا الليلة الأولى نحتضن بعضنا مرتعدين من ظهور الضباع.
ـ ظهيرة اليوم الثاني بال كل واحد منا، بدوره، في راحة كف الآخر وشربنا بول بعضنا لكي لا نموت من العطش.
ـ مساء اليوم الثاني بانت حقا واحة من بعيد. اقتربنا من الواحة وتفحصناها. عندها صاح الأخ الأكبر:
ـ الطريق صحيح! لقد وصلنا محطة الأمان!
ولم يقل محطة الأمان الأولى.
حركة

(حدث ثالث)
ـ عصر اليوم التالي قدم خيالة يمتطون جيادا ويحملون بنادق صيد أحاطوا بالواحة وصاروا يغيرون علينا ويطلقون النار وكأننا طرائد صيد. هربنا هنا وهناك واختفى أحد أخواني (اعذرني، لقد نسيت أي واحد منهم!) في قعر بئر وآخر في قلب نخلة ولم تبعث تلك المحاولات إلا بهجة الصيادين. فاستفاقت غريزتهم وهم يرون أخواني يتصرفون كحيوانات طريدة. وسمعت بعد أن اختبأت تحت جبل من الروث واحد من الصيادين يتفاخر بأنه اصطاد أربعة لوحده وابنه البالغ عشرة سنوات اصطاد واحدا بينما البقية لم يصطادوا إلا ثلاثة. وضحك قائلا للبقية: (كل واحد يأكل ما رزق) وأشعل نارا، وأمر خدمه ضاحكا أن يضعوا بقية اللحوم في أكياس الخيش (لإعادتها إلى المنشأ) ولم أفهم من كلامه ما يقصد بإعادة الجثث المسلوخة إلى (المنشأ؟) في حين توّعده صياد آخر وهو لم يكد يبتلع الإحساس بمرارة الخاسر أنه سيفوز فوزا ساحقا في جولة الصيد القادمة: (سأطلب من مدير السجن إرسال ثمانية سجناء جدد بعد غد وسنرى من يفوز في نهاية الجولة)

(خاتمة)
ـ ذلك الخطأ أصبح مصدر نجاتي. لقد بلّغ زورخان السجن الصيادين، وهم من حاشية الفارس الأبدي المقربين أن (القطيع)، أي نحن، الذي سيصل واحة النزهة بعد يومين مكّون من ثمانية سجناء ولم يقل تسعة.
حركة

ـ أعاد الخدم الأشلاء المتبقية نيئة إلى السجن لكي توزّع طعاما على السجناء السياسيين.
حركة

ـ تصور يا بن عمي! هكذا، وبضربة واحدة فقد أبي كل أبناءه.