صدر أخيراً للمسرحي والسينمائي علي كامل ترجمة لمسرحية "الموت والعذراء" للكاتب التشيلي أرييل دورفمان، عن دار "المدى" للثقافة والنشر، وقد قدّم لها علي كامل بمقدمة طويلة ومشبعة تضاهي النص المسرحي وتشحذ من راهنية العمل. ورغم ان المترجم لم يشر مباشرة الى تشابه الوضع الحالي في العراق والوضع في تشيلي بعد سقوط نظام بينوشيه الديكتاتوري، الا ان القارئ العراقي لا يملك الا ان يلاحظ المقارنة.
أرييل دورفمان غير معروف في العالم العربي حتى الآن حيث دور النشر تفضل ان تترجم أعمال لكتاب معروفين عالمياً خاصة الكتّاب الذين سلطت الأضواء بفضل منحهم جائزة نوبل. والكتاب (المقدمة الممتازة والمسرحية ذات الثلاثة فصول) مُهدى من قبل المترجم الى الشعب العراقي "الذي خرج تواً من ظلمة نفق كابوس الديكتاتورية لكي يتنفس هواء الحرية". استوحى دورفمان موضوع مسرحيته من خبر قرأه في صحيفة: رجل أنقذ حياة شخص انقلبت عربته في طريق عام وأثناء دعوة الرجل لذلك الغريب ضيفاً الى منزله تميز الزوجة نبرة صوت الرجل الغريب الذي عذّبها واغتصبها في السجن قبل سنين خلال حكم بينوشيه العسكري الاستبدادي الذي استمر حتى العام 1990. الا ان الحكومة الوطنية المنتخبة لم تستطع اجتثاث جميع رموز النظام السابق وبقي عدد من أزلام السلطة السابقة طليقين دون عقاب، مما أثار غيظ وضغينة الناس، خصوصاً أولئك الذين ظل يسكنهم الخوف رغم سقوط الديكتاتور، تماماً كما هي الحال حالياً في العراق رغم سقوط الديكتاتور واعتقاله.
تشيلي كانت في مرحلة انتقال الى الديمقراطية كما العراق حالياً حيث الكثير من الجناة مازالوا أحراراً يتساءلون برعب عن المصائر التي تنتظرهم في ما لو تم الكشف عن جرائمهم. والعراق كما كان الحال في تشيلي يلمس بشكل ما ان الديمقراطية الهشة تتصلب ويقوى عودها ولابد من المكاشفات واتباع نهج المصارحة على صعوبته.
ويرى دورفمان ان المكاشفات واتباع نهج المصارحة، وليس عبر جلد الذات هي الكفيلة بتفادي تكرار ما حدث. وفي الوقت نفسه يطرح دورفمان، كما يطرح جميع المثقفين السؤال الراهن والملح: كيف يمكن للجلادين وضحاياهم العيش على أرض واحدة وكيف يمكن الوصول الى الحقيقة اذا كان الكذب قد أصبح عادة.
ويتناول علي كامل المسألة والاشكالية من جميع جوانبها ويعطي دورفمان حقه من خلال كونه فنان وانسان يرى الألماسة من جميع جوانبها بالاضافة الى النداء الطوباوي الى حد ما لطي صفحة الماضي الدموي والبدء من جديد، رغم صعوبة تطبيق المبدأ الديمقراطي الذي يقول بأن للأعداء والقتلة وجه انساني أيضاً.
باولينا بطلة المسرحية هي الشخصية الوحيدة الفاعلة في المسرحية فهي لا تستطيع نسيان الرجل الذي عذّبها واغتصبها وهو يستمع الى رباعية شوبرت التي تحمل المسرحية اسمها. زوجها جيراردو يدعوها الى تحرير معذبها السابق وتركه ليذهب "ان لم يكن من أجل مصلحة البلاد، فمن أجل مصلحتنا نحن". اما هي فلا تميل الى التسويات والاتفاقات والمفاوضات. ونراها تقول لزوجها "عندما سمعتُ صوته ليلة أمس قفزت الى رأسي فكرة واحدة وحيدة، هي الفكرة نفسها التي ظلت تراودني طوال كل تلك السنين (...) كنت أفكر، متى سيأتي الوقت الذي أستطيع فيه أن أفعل بهم تماماً مثلما فعلوا بي، لحظة بلحظة، وان استخدم نفس الآلات التي استخدموها معي".
الا ان روبيرتو الرجل الذي تعتقد باولينا بأنه هو الرجل الذي عذّبها يؤكد براءته ويؤكد لها "بالأمس عاملك شخص ما ببشاعة وقسوة، واليوم أنت تمارسين نفس الشيء معه، وغداً سيفعل الشيء نفسه شخص آخر. وهكذا تستمر دورة العنف وتتواصل دون توقف".
أليس هذا ما يحدث في العراق الآن؟
الكاتب الخلاّق انسان يرى الحقيقة من مختلف جوانبها يرى الثنائيات يرى النفق المظلم ويرى الشمس العظيمة في نهايته. دورفمان من خلال "الموت والعذراء" ينقل لنا الحقيقة حقيقة الوضع البشري المعقد والبسيط في آن واحد من خلال شخوصه الثلاثة وهو، كأي كاتب مبدع آخر لا ينسى شاعرية الوجود ومن خلال بناء المسرحية نلمس الصعود الى ذروة الدراما ثم الهبوط السلس الى حيث الحياة كما يجب أن تكون وكما يجب أن تعاش. الا انه أيضاً يعرف بأن الشر أكثر جاذبية من الخير وان معادلة الوجود مرسومة سلفاً وان التناقض بين الحسي والميتافيزيقي قائم على الرقم، وما علينا الا ان نتلبس الأول ونتدبر أمور الثاني. أرييل دورفمان صوت من أصوات أمريكا اللاتينية نشعر بأنه قريب منا جداً. وهو بالتأكيد يحيلنا بالذاكرة الى من سبقه من الكبار وعلى رأسهم لوركا. وقد أحسن علي كامل
في اختياره وترجم لنا أيضاً لكاتب مسرحي جدير بأن تجد أعماله طريقها الى المسرح ليس العراقي فقط وانما العربي أيضاً.

علي كامل بكاميرة فاضل عباس هادي