بين الجهل والعقل
إنّ ما يصدر في هذه الطّبيعة من حركات وأعمال عن جمهرة المخلوقات، على جميع أصنافها وفصائلها الّتي لا تُحصى، يدخل في باب الصّراع على المأكل والمشرب، أي لبقاء الفرد البيولوجي في الطّبيعة من جهة، أو لأجل إكثار الذّات من خلال البحث عن فرصة للتّزاوج وتخليف النّسل ابتغاء البقاء الجيني من الجهة الأخرى، وهذان الأمران متداخلان غير منفصلين من ناحية الجوهر. وفي هذه الحركات والأعمال الصّادرة عن المخلوقات جميعًا يجتمع جنس البشر مع جنس الحيوان.
مقابل ذلك، فإنّ كلّ ما يصدر من أعمال بشريّة تستند في صدورها، ابتغاءَ مصداقيّتها، إلى منصوصات ذهنيّة عابرة للقرون والأزمان ولا تدخل ضمن أعمال صراع البقاء الحيواني الأصيل، فهي تدخل في باب العقيدة الّتي انفرطت من قيد الغريزة الحسّيّة.
***
إنّ الأعمال الصّادرة ابتغاء البقاء البيولوجي هي سنّة الطّبيعة مثلما هي معلومة لكلّ بشريّ يملك ذرّة من عقل، بينما الأعمال المستندة إلى العقيدة فهي سنّة ما وراء الطّبيعة. أو، بكلمات أخرى، هي سنّة الإيمان الّذي لا صلة له بقوانين الطّبيعة، وإنّما يندرج في باب الغيبيّات، وهذه الغيبيّات هي قصر الدّين المنيف. فالدّينُ، كلّ دين، هو عقيدة وليدة الجهل. لقد وُلد الدّين في التّاريخ من نقطة الجهل هذه بالذّات. لقد عزا الإنسان في مراحل تطوُّره الأولى كلّ ما لم يستطع تفسيره في الطّبيعة إلى قوى فوقيّة كامنة في هذه الطّبيعة وفي هذا الكون المترامي الأطراف المُحدق به من كلّ جانب. هنالك حدّان مُقيّدان للحياة البشريّة ومنهما يبدأ الدّين، وهذان الحدّان هما الولادة والموت لدى بني البشر. ولمّا كان بنو البشر يختلفون عن سائر الحيوانات من حيث هم عاقلون فإنّ هذين الحدّين لا يمكن تفسيرهما بما يتعدّى حقيقة حدوثهما. وحتّى مع تطوّر العلوم الّتي قد لا تُبقي شيئًا مجهولاً في كيفيّة حدوث هاتين الظّاهرتين من ناحية مركّباتهما وتفاعلاتهما البيولوجيّة والكيماويّة في الطّبيعة، إلاّ أنّ سؤالاً واحدًا يبقى مطروحًا بلا إجابة، لماذا كلّ هذا وما الغاية منه؟ هذا السّؤال المفتوح هو أساس الدّين. ولانعدام امكانيّة الإجابة على سؤال من هذا النّوع، بمعنى أنّ الجهل هو سيّد الموقف في هذه الحال، ينتهز الفرصة مشعوذون لطرح عقائد تستمدّ قوّتها من هذا الجهل البشري، مستعينة بالميل البشري الطّبيعي إلى البحث عن إجابات.
***
وهكذا، وعلى مرّ التّاريخ، وفي محاولة البحث عن إجابات لظواهر طبيعيّة قام الإنسان ينسبها إلى أرواح وقوى قائمة في أجرام سماويّة، من شمس وقمر ونجوم، أو في نهر أو بحر، أو في شجر أو حجر إلى آخر ما يمكن أن يخطر على بال، ثمّ انبنت حول هذه العقائد مجتمعات بشريّة، لطبيعة الإنسان الّتي تميل إلى العيش في حدود مجموعة بشريّة تكون على غراره أو شبيهًا به. وهكذا تفرّقت الأقوام إلى أمم وشعوب تتحكم في سلوكيّاتها آلهتها القبليّة المتعدّدة. هنالك أناس، وعلى مرّ العصور البشريّة، قد برعوا في اقتناص فرصة الأخذ بسلاح الجهل هذا، لأغراض قد تكون صدرت لدوافع عامّة من ضبط سلوكيّات الأفراد في هذه المجموعات البشريّة، وقد تكون لدوافع أنانيّة، على غرار ساسة الأمم أو رجال المؤسّسات الدّينيّة على العموم.
لقد فعلوا ذلك من أجل تخليد ذكراهم في عمليّة لا تختلف كثيرًا من ناحية الجوهر عن عمليّة صراع البقاء وتكثير الذّات لدى الحيوان في الطّبيعة. وهي عمليّة غريزيّة يفعلها الحيوان في مواجهة ظاهرة الموت، مثلما يفعلها البشريّ الّذي يرغب في تخليد اسمه على مرّ الزّمن. ولا شكّ أنّ هؤلاء، كما نراه عيانًا لدى أهل المؤسّسات الدّينيّة وعلى وجه الخصوص لدى أهل التّوحيد من الدّيانات السّماويّة لا بدّ سيستمرون في رفع راية الجهل أمام العامّة من البشر ابتغاء البقاء في مراكز قوّة تدرّ عليهم وجاهة اجتماعيّة من جهة، أو أرباحًا ماديّة منقولة وغير منقولة من جهة أخرى، دون أن يجتهدوا في في القيام بعمل خلاّق أو مُبدع لما فيه منفعة البشر.
***
من هنا، فإنّ الارتقاء إلى الوحدانيّة الدّينيّة، كما حدث في هذه المنطقة من العالم لا يختلف عن مسار الدّيانات البدائيّة الأخرى، إلاّ من حيث أنّها حاولت جمع كلّ ما نُسب إلى الآلهة القديمة والمتعدّدة ووضعها في عُهدة قوّة واحدة، وذلك بُغية توسيع حدود القبيلة، ومن ثمّ بناء أمّة الإله الأوحد الّذي تنسب إليه كلّ كبيرة وصغيرة. وبكلمات أخرى، تتطوّر آلهة الشّعوب بتطوّرها هي ذاتها. وهكذا لم يعد لدينا إله للقمر، ولا إله للشّمس أو الغيم والمطر، لأنّ العقل الواعي قد اخترق هذه الآلهة في انطلاقته إلى كشف المحجوب ومغاليق الكون.
غير أنّ ثمّة أناسًا يُصرُّون على تنصيب الجهل إلهًا عليهم وعلى من يسير على خطاهم. ولعلّ أبرز مثالين على إعلاء راية الجهل هذه من قبل زمرة المشعوذين هؤلاء ما كان صرّح به غير واحد من هؤلاء على اختلاف مذاهيهم من أنّ التّسونامي الّذي ضرب مناطق شاسعة على شواطئ المحيط الهندي هو عقاب من الله لهؤلاء البشر على خطاياهم. والسؤال الّذي يعلو في هذا السّياق، ما هي خطايا الأطفال والأجنّة في الأرحام الّذين بلا شكّ قضوا في تلك الكارثة؟ أو كما صرّح غير واحد من هؤلاء المشعوذين بأنّ الهوريكان كاترينا الّذي ضرب أميركا هو عقاب لها، وقد قال بذلك مشعوذون مسلمون ومشعوذون يهود ولسببين مختلفين. فالمسلمون قالوا بذلك لأنّ أميركا تحارب الإسلام، بينما قال اليهود بذلك لأنّ أميركا أجبرت إسرائيل على إخلاء المستوطنات والرّحيل من غزّة. وهكذا نرى أنّ كلاَّ منهم يُغنّي على ليلاه.
***
إنّ الأمر الّذي يختلف فيه صنف البشر عن سائر أصناف الحيوان، هو ذلك المنطق الّذي يُخرجُ قوّة العقل الواعي إلى الفعل. والعقلُ، لُغةً، هو الرّبط. وسُمّيَ العقلُ عقلاً لأنّه يربطُ بين أمور قد لا يتبدّى لسائر الحيوان أنّ هنالك ما يربط بينها إلاّ عبر خيط الحسّ. والحسّ، لو أمعنّا النّظر فيه، فلا شكّ أنّا سنجده، قياسًا، في مرتبة أدنى من مرتبة العقل.
إنّ مسار العقل البشري قد مرّ منذ بدء التّاريخ على هذه الأرض بمراحل مختلفة، بدءًا من التّجسيد في الأطوار البشريّة البدائيّة وانتهاءً بالتجريد في الأطوار العليا. من هنا فإنّ العقيدة، بما تعنيه من دلالة الإيمان الدّيني الّذي يضع حجابًا على العقل، تقع في مرتبة وُسطى بين مرتبة الشّهوانيّة الحسّيّة وبين مرتبة الأُسيّة العقليّة الّتي هي غاية الغايات. ولذا فإنّ الإرتقاء في سلّم الحياة الطّبيعيّة لا يمكن أن يتأتّى إلاّ عبر العقل. هكذا كان على مرّ العصور، وهكذا سيكون إلى أبد الدّهور.
والعقل المجرّد الأسمى لا يمكن إلاّ أن يكون عقلاً أخلاقيًّا، لما فيه من سمات الحقيقة المطلقة الّتي تتلاشى فيها الفروق بين الصّائت والصّامت. بمعنى معرفة وحدة الكون بكلّ ما يحويه هذا الكون من اختلاف هو في نهاية المطاف ذروة الائتلاف.
التعليقات