أتابع بانتظام وباهتمام ما يكتبه الأخ الصديق د. كاظم حبيب في مجال الاقتصاد والفكر السياسي والاجتماعي حول قضايا البلدان العربية وخاصة ما يكتبه حول شؤون وشجون وطنه العراق. فالمادة المكتوبة تقدم لنا نحن غير العراقيين معلومات إضافية قيمة حول التطورات المتسارعة وما يدور خلف كواليس ودهاليز السياسة العراقية بحكم معرفته الجيدة بتاريخ العراق السياسي الحديث.
لقد أعلن عن كتابة سلسلة من المقالات في الصحيفة الإلكترونية إيلاف، صدر منها حتى الآن ثلاث مقالات، أود أن أتعرض لها ببعض الملاحظات. في المقال الثاني (هل هناك تحولات جارية في قوى الإسلام السياسي)يتعرض الكاتب إلى قوى الإسلام السياسي وخاصة جماعة الأخوان المسلمين. ويشير إلى العنف الذي مارسته جماعة الأخوان المسلمين إزاء القوى السياسية المختلفة وأن هذه الجماعة رغم مرور ما يقرب من ثمانية عقود على نشأتها فإنها لم تغير من برامجها وسياستها ومواقفها إلا لأسباب تكتيكية صرفه، أما استراتيجيتها فهي ثابتة ولم تغيرها الأحداث والتحولات الجارية في العالم وعلى صعيد المنطقة وهي عاجزة عن تحقيق أي تغيير حتى الآن ولن تحققه. ويشير إلى بعض الكتاب والسياسيين العرب الذين سوقوا للإدارة الأمريكية فكرة الاقتراب والتحاور مع جماعة الأخوان المسلمين ويحذر الأمريكان بأنهم "يستبدلون النار بالرمضاء."
هل صحيح أن الأخوان المسلمين لم يتغيروا؟ لا يمكن لأي حركة سياسية أن لا تتغير فهذا ضد منطق طبيعة الأشياء. وكذلك هناك علامات تشير بوضوح فعلاً بان هناك تغيير في نهج وسياسة الأخوان المسلمين تفرضها التطورات العالمية الجارية "إن الحركة التي لا تريد أن تراجع أو تدرك أخطاء ماضيها من الممكن أن يتحول حاضرها إلى كومة من الأخطاء ومستقبلها إلى كارثة – الحل يمكن في نقد الماضي ومراجعته وتحديد أخطائه من أجل تلافيها في الحاضر وتوظيف ذلك معرفياً وموضوعياَ في المستقبل"(عبد الله فهد النفيسي / الكويت).

"إن الديمقراطية لا تتجاوز كونها ممكناً من الممكنات وإن الإسلام لا يتناقض معها ضرورة، بل أن بينهما تداخلات واشتراكاً عظيمين كما أن التباين والاستدلال عليهما واردان" (الشيخ راشد الغنوشي / تونس).

"من المعروف أن الإسلام لم يأت بنظام سياسي مفصل ولكنه حدد مبادئ في الحكم تطبق حسب ظروف الزمان والمكان وما كان لرسالة سماوية خاتمة أن تحدد بشكل قاطع تفاصيل نظام للحكم، وأهم مبادئ الإسلام في الحكم هي: الحرية، العدل، المساواة، الشورى، البيعة الطوعية للحكم، محاسبة الامه للحاكم، فالتعددية السياسية لم يرد الحديث عنها بالتحريم ولا بالوجوب ولكنها هي الوعاء الأحسن لتطبيق المبادئ المذكورة آنفاً في هذا الزمان، وخاصة في ظروف بلد كالسودان متعدد الأعراف والثقافات والأديان" (الطيب زين العابدين / السودان).
كما أشير إلى ميثاق الشرف الذي أصدرته مؤخراً جماعة الأخوان السورية من أجل التعاون مع كل القوى السياسية الأخرى وكذلك ما صدر عن الأخوان المسلمين في مصر حول قضية الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتخلي عن الدولة الثيوقراطية والحكومة الدينية والحديث عن الدولة المدنية والاشتراك في التجمع الوطني من أجل الديمقراطية.
كما أشير إلى الدرس البليغ الذي قدمته الجبهة الإسلامية القومية في السودان لجميع حركات الإسلام السياسي، طائعة أم مكرهة. فبعد أن قامت بتقويض النظام الديمقراطي عن طريق الانقلاب العسكري وبسط الحكم التسلطي الشمولي والفساد والثراء الحرام وصلت إلى الطريق المسدود ولم يبق أمامها إلا التخلي عن شعاراتها الإسلامية والتوقيع على نصوص دستورية تضمن المواثيق الدولية لحقوق الإنسان في الدستور السوداني وتفرض احترامها وتفصل بين مؤسسات الدولة: التشريعية والتنفيذية والقضائية، والتنوع الديني والعرقي والثقافي وحقوق المرأة والتبادل السلمي للسلطة.
أليس كل هذه مؤشرات حقيقية للتغيير وليست تكتيكاً كما يصفها الكاتب؟ ولماذا هذا الحكم القطعي بأنها لن تتغير؟ ولماذا لا نتصور بأن هناك تيارات متصارعة تدفع للتغيير وليس الأمر تكتيكاً فقط؟ ولماذا لا يتم استثمار هذا الوضع والدخول معهم في حوار صادق مفتوح بدلاً من العمل على إقصائهم وتحذير واستعداء الأمريكان عليهم؟ والأمريكان والغرب عموماً لا يحتاجون لنصائحنا لفرض سياستهم على بلادنا.
يشير الكاتب إلى مخاوفه حول فوز محمود احمدي بمنصب رئيس الجمهورية في إيران وإن امتلاك القنبلة النووية في إيران لن تكون دفاعاً عن النفس بل تهديداً للأخر.
لماذا هذا الحكم الاستباقي على رئيس دولة لم يستلم سلطاته بعد ولم نعرف شيئاً عن سياسته العملية وكيفية ممارسته للسلطة وما يفرضه المنصب من مسؤوليات وواجبات وإكراهات، صحيح إنه ينتمي إلى التيار السلفي المتشدد، ولكن هل استطاع محمد خاتمي الليبرالي الداعي لحوار الحضارات أن ينفذ برنامجه الإصلاحي أثناء رئاسته لفترتين. ربما يستطيع الرئيس الجديد، وقد أعلن منذ البداية فتح ملفات الفساد حتى لو طالت رموز النظام الكبار وردم الهوة بين الطبقات مما يجعله لصيقاً للفقراء ونصيراً لمطالبهم الملحة، أن يحقق الإصلاح المنشود الذي فشل في تحقيقه سلفه، فلا شكوك حول توجهاته في إطار المؤسسة الدينية، لكن ذلك بالذات قد يجعله أكثر حرية وتحركاً. كما يمكن الإشارة بالرغم من القبضة المتشددة للملالى إلى أن علمنة المجتمع الإيراني في تزايد واضطراد كما يقول أحمد سلماتيان " (Ahmad Salamatian) عضو سابق في البرلمان الإيراني."
ولماذا تمارس الضغوط على إيران لإيقاف تطوير برنامجها النووي للحصول على الطاقة واستخدامها سلمياً من أجل تحقيق مشاريعها التنموية؟ ولماذا الحكم الإطلاقي من جانب الكاتب بأن إيران سوف تنتج قنبلتها النووية لا للدفاع عن نفسها وإنما لتهديد جيرانها؟ هل تقف إيران مكتوفة الأيدي وهي تعيش يومياً التهديد الأمريكي والغطرسة الإسرائيلية. إن امتلاك أسلحة نووية وما يعنيه ذلك من "الرادع النووي" من قبل إحدى البلدان العربية أو الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط التي تتكالب الدول الغربية الرأسمالية على ثرواتها ربما تؤدي إلى مفاوضات جدية تقود إلى نزع وتحريم الأسلحة النووية لكل دول المنطقة، عملياً إسرائيل بل وربما العالم بدون استثناء إذا أردنا أن ننقذ البشرية من هلاك محتوم.
يتعرض الكاتب في المقال الثالث( فكر القوى القومية العربية التقليدية وممارساتها...)لفكر القوى القومية العربية التقليدية وممارساتها. المقال يغلب عليه طابع التعميم والحكم الإجمالي، فيقول مثلاً: يتضمن الفكر القومي اليميني رؤية فكرية شمولية يسعى أصحابها إلى بناء دولة شمولية استبدادية ويقول في فقرة أخرى أن الفكر القومي إقصائي يسعى أصحابه إلى محاربة أي فكر أخر، في هذه الفقرة تسقط كلمة يميني، هنا يحدث الالتباس للقاري، هل يتكلم الكاتب عن تيارين منفصلين من الفكر القومي (قومي وقومي يميني) أم تيار واحد؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا التكرار؟ فالتشخيص في الفقرتين متطابق. ويقول أن الفكر القومي في جوهره غير ديمقراطي ويخلط بين العَلمانية والدين. والواقع إن هذا الخلط ليس له علاقة بفكر القومية العربية وإنما هي إشكالية المفاهيم وخاصة مفهوم العلمانية وقضية فصل الدين عن الدولة فهي قضايا لا تزال ملتبسة وعصية على توحد المفاهيم لعدم دقة وشرح هذه المفاهيم وتفسيراتها المتعددة والمتباينة. وعدم التمييز بين الدين كعقيدة ميتافيزقية والدين كظاهرة اجتماعية. ثم يتعرض إلى المؤتمر القومي العربي الذي انعقد في بغداد عام 2000 والتأييد الحار إلى قائد الضرورة وقائد الأمة العربية صدام حسين. إنني أتفهم جيداً شعور الإحباط والغضب الذي يعتري العراقيين وهم يرون كيف أن بعض الكتاب والأدباء والشعراء العرب وأعضاء المؤتمر القومي كانوا يتكالبون على جوائز الطاغية صدام حسين والشعب العراقي يعاني الأمرين من عسف السلطة المستبدة ومن الحصار الأمريكي الجائر، ولكن ألا يوجد القومي العربي الذي ينظر إلى القضية العربية في بعدها الإستراتيجي والتحرشات الأمريكية للعراق وانتظارها اللحظة المناسبة لتنفيذ استراتيجيتها العسكرية الهجومية العدوانية للسيطرة على الشرق الأوسط بدءاً بالعراق؟ وما يمكن أن يصاحب ذلك من تفكك واقتتال وانفراط عقد المجتمع وتقسيم العراق أثنياً وطائفياً. كما إنني لا أدري ما هو المبرر في التعرض للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في هذا السياق والمنظمة لم تشترك في المؤتمر القومي في بغداد، وكيف توصل إلى أن نسبة 95 % من أعضاء المنظمة من التيار الناصري وخاصة اليميني منه.
هل يمكن أن نتصور بأن رجل في قامة الأمين العام للمنظمة والذي قضى عشرة سنوات في سجون الرئيس السادات والذي يدير المنظمة منذ سنوات بتجرد وبدون عائد مادي أن يقبل على أن يبقى على راس هذه المنظمة وجل أعضائها من اليمين الناصري. ولماذا الزج باسم د. مهدي الحافظ في قضية عفي عليها الدهر؟ والقضية لم تكن في المقدمة من أجل إصلاح سير المنظمة بقدر ما كانت التطلعات والطموحات الشخصية والمصلحة الذاتية الضيقة وراءها.
ويقول بأن أتباع الفكر القومي وعلى مدى يقترب من سبعين عاما لم يجدو ما يبرر ويستوجب تغير جملة من أفكارهم ونهجهم ومواقفهم السياسية. هذا استنتاج غريب وإطلاق حكم إجمالي على فترة سبعين عاماً وعلى تيارات وقوى شديدة التنوع. وهذه الفترة تشمل شخصيات وزعامات وطنية لها دورها الرائد في إتباع نهج سياسي واقتصادي وطني مستقل وسياسات اجتماعية لمصلحة القوى الضعيفة في المجتمع. ويقول كما طرحت القوى القومية كلها دون استثناء شعار فلسطين أو الموت والموت لإسرائيل وأضاعت فرصا كثيرة لتحقيق السلام بين إسرائيل والدولة العربية وإيجاد حل واقعي للقضية الفلسطينية. والسؤال الذي يفرض نفسه، هل كانت تملك فعلاً القوى القومية مفاتيح حل القضية الفلسطينية حتى تضيعها؟ كما يتصور الكاتب وكأن لا وجود لإسرائيل وحليفا أمريكا.
ويصل في خاتمة المقال إلى النتيجة المثيرة، وهي صعوبة الوصول إلى اتفاقات وتحالفات بين القوى السياسية الوطنية والديمقراطية وبين الجماعات التي تشكل التيار القومي اليميني المتشنج والجماهير العربية التي تتعرض لضغوط القوى القومية والتي تربت على هذه الشعارات والاتجاهات السياسية غير الديمقراطية. إذن مع من تستطيع قوى الديمقراطية والتحرر والتقدم أن تعمل بين الجماهير العربية التي تربت كما يكتب على هذه الشعارات والاتجاهات السياسية غير الديمقراطية؟
والكاتب يستخدم أثناء عرضه بعض الكلمات الحادة ذات الرنين الصاخب، فقد وردت كلمة شوفينية تسعة مرات في مقال يتكون من ثلاث صفحات ونصف الصفحة. لا شك في ضرورة نقد الحركات الإسلامية وإظهار أخطائها وتناقضاتها وكذلك الحركة القومية العربية بمختلف تياراتها وربط ذلك في السياق التاريخي التي نشأت وعملت فيه. وإلا يكون النقد هدفه الإقصاء والتشهير والاستعداء ونحن في هذه الظروف العصية التي تعيشها مجتمعاتنا وانسداد الأفق أمام الطبقات الفقيرة الشعبية المهمشة واحتكار مجموعة صغيرة للقسم الأكبر من الثروة الوطنية والحكم الاستبدادي الفردي بل الوضع في حاجة ماسة إلى تكاتف كل القوى الوطنية من أجل مستقبل أفضل وحياة إنسانية. وهناك نقاش واسع بين القوميين والإسلاميين وتيارات أخرى به قدر ملحوظ من مراجعة الفكر ووقفة صادقة مع النفس. هذه بعض الملاحظات والمجال لا يسمح للمزيد منها وأهدف بذلك لإثارة النقاش ودفع الحوار إلى الأمام بإظهار نقاط الخلاف "والخلاف لا يفسد للود قضية".
لقد عودنا د. كاظم حبيب على مقالاته الجيدة وتحليلاته الرصينة. وإنني اعتقد بان هذه المقالات كتبت على عجل ولم يجد الوقت الكافي لإعادة النظر فيها، وكما أتمنى أن لا يكون أغراء النشر دافعاً إضافياً للتسرع بإذاعتها على الناس.
واختم مقالي بكلمات للكاتبة:
ماري فون ابنر-اشن باخ (Marie von Ebner-Eschenbach 1830 - 1910)
لا تخشى الذين يحاججونك
وإنما الذين يتجنبونك