في مطلع القرن العشرين، عندما طالب العراقيون المستعمرين البريطانيين أن يرحلوا تنفيذاً لما قاله الجنرال مود عند دخول جيوشه العراق ( جئنا محررين لا فاتحين )، كان الجواب البريطاني ( لا نستطيع الاستمرار في الهيمنة على الهند ما لم نستمر بالسيطرة على العراق )!! وهو جواب بقدر ما ينطوي على مفارقة مضحكة مبكية، بقدر ما يتضمن تملصاً من وعد الجنرال مود ووضعه على الرف. حدث هذا في العقد الثاني من القرن الماضي، لنجد أنفسنا الآن مع الوعد الأمريكي بتحرير العراق من الاستبداد وبناء الديمقراطية!! وهذا النمط من الوعود لا يحتاج إلى تكذيب أو تصديق، لأن العراقيين إذا انقسموا إلى مكذبين ومصدقين، هذا يعني أنهم لم يستفيدوا من تجربة القرن الماضي، وسيضيعون القرن الحالي بالخلافات إلى أن يأتيهم ( محرر ) جديد وتكر السبحة لا سامح الله.
ما العمل إذن؟! العمل هو أن نستفيد من التجارب، وأولها أن نعي الفرق بين الدولة والسلطة، ونستفيد من التوزيع الجديد للمصالح في ظل النظام الديمقراطي العتيد، وهذه حقيقة وليست أوهاماً. وأيضاً أن لا نهدر الوقت والجهد في خلافات – حول الدستور أو سواه - تتحول إلى متاهات، لأن ثغرة استمرار الخلافات وما نتج عنها في الماضي، هو المسؤول عن إنتاج ظاهرة صدام حسين، بمعنى أننا بدل أن نحول الأزمة إلى دوامة يجب أن نجد لها حلاً، وبدل أن ننقسم إلى مصدقين ومكذبين للأمريكان، علينا أن نوازن بين مبدأين أساسيين، الأول : هو أن العراق موضوع تنافس للقوى الدولية والإقليمية، مثل كل بلدان العالم الثالث الأخرى خاصة عندما تكون الدولة مفككة، وأن الطرف الدولي الأقوى هو من يساهم أو يشرف على إعادة بنائها. ومن مصلحة العراق أن تكون لديه علاقات متطورة مع الولايات المتحدة ومع الغرب عموماً، ولكي تكون هذه العلاقات نافعة يفترض أن تكون لدينا دولة قانون حيوية مغايرة لنهج وطبيعة دولة الاستبداد السابقة، وهنا يأتي المبدأ الثاني : أي أن نعي أن الديمقراطية لا يصنعها لك الآخرون كي تتمكن من طردهم من البيت، بل العكس هو ما يحدث عادة، سيطورون لك الخلافات التي تساهم أنت في تكريسها، لكي تظل بحاجة لهم ويظلون معك إلى ما شاء الله. الديمقراطية إذن هي مشروع وطني يجب أن يتحمل كلفته العراقيون أنفسهم ما داموا هم المستفيدين منه أساساً.
ولأن هناك الكثير من رطانة الماضي ما تزال عالقة في أذهان الكثيرين، بوسعنا العودة ثانيةً إلى خلفيات الأحداث السابقة، فنقول : عندما استمرت مماطلات البريطانيين حدثت ثورة العشرين، ونتيجة لتضحيات الفلاحين العراقيين الهائلة خلال الثورة وخاصة في منطقة الفرات الأوسط، تأسست الدولة العراقية المعاصرة في 1921 وقتها لم تكن الحركة الوطنية التي قادها رجال دين وشيوخ ووجهاء عشائر، قادرة على فهم المعادلات السياسية الدولية، وتلك اللعبة التي أديرت في المنطقة لتركيب دول جديدة لمصلحة الهيمنة الاستعمارية، وهي لعبة ( استيعاب) توق الشعوب للتحرر والاستقلال، من قبل ( نخب ) رثة ثقافياً، تجيد الخضوع للقوى الخارجية على حساب سيادة واستقلال بلدانها، مقابل استفرادها بالسلطة وامتيازاتها. وهكذا ضاعت الفرصة على العراقيين، فكان الاستقلال يعني استفراد تلك النخب بالسلطة، وسيادة المظالم والأباطيل التي أصبح صدام حسين ( بطلها القومي ) بامتياز!!
لقد كانت دولة فاسدة منذ البداية ( استوعبت ) دائما تضحيات الحركة الوطنية الهادفة لتحقيق العدالة، عن طريق القمع أو التدجـين لمصلحة تلك النخب ولتمييع مشروع العدالة بمختلف الوسائل. فاستمرت المظالم ولكن بالتقسيط والمداورة، وكان هناك من يتوهم أن بوسع تلك النخب أن تستمر بحكم العراق لمائتي سنة أخرى، أي بتدوير الأزمة وإعادة إنتاجها باستمرار، لكن هذا ضد منطق الحياة نفسها، وهو لا يمكن أن ينسجم مع معادلات الصراع الذي ظل ينفجر بين وقت وآخر كدليل على استحالة الاستقرار السياسي مع استمرار الظلم.
ضد منطق الحياة التي لا يمكن أن تتوقف عند نقطة معينة، إذ أن معادلات الصراع أما أن تتطور لتصل إلى حلول أو ترتد إلى الوراء فتصبح ( الأزمة ) ثقافة سائدة داخل الدولة وخارجها، ولأن الحركة الوطنية استغرقتها حلقة مفرغة من الخلافات، وهيمنت على وعيها أوهام الشعارات والمفاهيم الأيديولوجية الانقلابية، فكان أن حط طائر الشؤم على شجرة العراق حتى أصبحت السلطة بيد شخص مهووس بالقتل والجريمة، لا يميز بين الشجاعة وبين الصفاقة، وظل شبح التشرد يلاحقه حتى وهو في أروقة القصر الجمهوري، فجمع حوله المزيد من الأشباه والبلطجية، فكانت النتيجة أن مارست هذه الزمرة خلال الخمس والثلاثين سنة من الحكم، كمية من المظالم والجور تعادل ألف سنة لو كانت بيد مستبدين هادئين كالذين سبقوه. وهذه الكثافة من الظلم والاستهتار بالقوانين والحقوق والأعراف، أدت إلى انتقال الشر من الداخل إلى الخارج على هيئة حروب معروفة.
وهكذا اختصر صدام حسين عمر تلك الدولة الفاسدة بالطريقة التي تمت في 9 – 4 - 2003وهذا هو معنى القول بأن الاحتلال الأمريكي لم يأت اعتباطاً، فبعد انتفاضة آذار ( مارس ) 1991، وأثرها الحاسم على طبيعة وبنية الدولة، حيث تحول ( النظام السياسي ) إلى ( سلطة طوارىء ) آيلة إلى السقوط، ولكن دون أن يعرف أحد متى وكيف وبيد من ستسقط، فأزداد القلق الأمريكي من احتمالات تحرك قوى إقليمية أو دولية بمهمة إسقاط سلطة الطوارئ تلك، لتبادر إدارة بوش الابن بإنجاز ( المهمة ) بالذرائع المعروفة وبغض النظر عن رضى أو رفض هذا الطرف أو ذاك.
هذا ما حدث وأصبح تاريخاً ماضياً حتى نيسان ( أبريل ) 2003 لأرض الرافدين الحزينة. أما ما يحث الآن ولكي لا يتشاطر بعضنا على البعض الآخر، هو من حيث الجوهر نفس ما حدث في بداية القرن العشرين، لكن الأدوار واللاعبين تغيروا. غير أن تطورات الحياة المعاصرة وطبيعة إدارة الأمور في بلد ثري كالعراق، قد تعطي أوراقاً أو فرصاً أفضل للاعبين الجدد كي يظهروا أمام شعبهم أكثر فطنة وتقديراً لمشاعر مواطنيهم، بحكم الخبرة المفترضة التي اكتسبوها خاصة بعد المآسي والويلات التي مرت على العراقيين.
أما الشعارات الوطنية والقومية الباذخة في افتعالها وهشاشتها، والتي يرفعها الآن بعض المتحذلقين العراقيين من أنصار الدولة السابقة و ( المقاومة الشريفة جداً) فهي لن تؤدي إلى ( ثورة عشرين) جديدة وفقاً لأوهامهم. بل أن تلك التصورات المغرضة لم تنتج سوى ( مقاومة ) و ( جهاد ) من النوع الذي استباح دماء العراقيين بالعشرات شهرياً، والضحايا هم أما عمال أو بائعي سجائر على أرصفة بغداد الموحشة أو عابرو سبيل أو مصلون في مساجد آمنة. وكل هذه الجرائم تنتمي لعادات وتقاليد تلك الدولة الفاسدة، بل هي الأنفاس الأخيرة لذلك الوحش الذي كبس على صدور العراقيين خلال القرن العشرين. ومن يريد أن يزايد على تأسيس الجيش العراقي الجديد من قبل الأمريكان، عليه أن يتذكر بأن الجيش العراق السابق تم الإعلان عن تأسيسه في آذار ( مارس ) 1921 في القاهرة، حيث قرأ جعفر العسكري بيان التأسيس بحضور فيصل الأول وحسقيل ساسون وبرعاية وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل، حيث أنيطت به مهمات أمنية أساساً وخصصت من أجله ربع واردات الدولة!! وكان المطلوب ( تزيـيد قوة الجيش عدداً بحيث يصبح قادراً على إخماد أي قيام مسلح ينشب في آن واحد على الأقل في منطقتين متباعدتين ) على حد تعبير المرحوم فيصل الأول!!
ليس من مصلحة أحد أن يزايد على أحد فيما جري في الماضي أو ما يجري الآن. لكن يبقى رهان العراقيين على ضمائر وفطنة بعض القوى الجديدة، رهاناً لا بد منه بعد كل تلك المآسي والويلات. ولكن كيف وبأي الأساليب سيتم تطبيق العدالة لتشمل جميع العراقيين؟! هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يطرحه العراقيون على أنفسهم، ليشاركوا جميعهم في الإجابة عليه، لا أن يشتركوا في تطوير الأزمة وتعميق الخلافات المفتعلة لتطول معها إقامة الضيوف المحررين!! علماً بأن الاحتلال كان في الحالتين داءً ودواء!! ذلك ما حدث في ( الماضي ) ونحن شهوده وضحاياه، فهل سنعي التجربة الراهنة ونستفيد منها حقاً؟!
- آخر تحديث :
التعليقات