الفرصة التاريخية الأولى أمام العراق كانت ثورة 1958. إن الانقلاب العسكري تحول لثورة شعبية حررت البلد من قيود كبرى، وأنصفت الفلاح المسحوق والمهدرة كرامته، وزادت بقفزات من تحرير المرأة، وأرجعت للأكراد حقوقا كبرى. تلك الفرصة التاريخية ضاعت بسبب أخطاء القيادات العراقية والدينية، والتآمر الخارجي المتعدد الأشكال والرؤوس.
واليوم فإن الفرصة التاريخية الثانية التي دشنها يوم 9 نيسان 2003، هي الأخرى في طريق الضياع. إن التآمر الإقليمي وخصوصا الإيراني والسوري وقف منذ اليوم الأول لاغتيال النصر، ومنع تجديد العراق ديمقراطيا وضمان تقدمه وازدهاره. وفي هذه المرة أيضا، فإن قوى البعث نفسها، المتحالفة مع قوى السلفية الفاشية، والمدعومة سوريا وإيرانيا وبأموال خليجية، تنفذ نفس دورها ذاك وبطرق أخرى، من خلال الإرهاب الشرس وعمليات التفخيخ والتفجير والاغتيال. أما القوى والأحزاب الدينية والمذهبية الشيعية القابضة على زمام السلطة والجمعية الوطنية، فإن مجمل سياساتها ومواقفها تعمل على قتل 9 نيسان من خلال محاولات تحويله إلى انتصار للإسلام السياسي المذهبي، وإقامة نظام ديني يعود بالعراق إلى عهود الكهوف المظلمة.
في الفرصة الكبرى الأولى استُخدم الدين سلاحا ضد الثورة وقيادتها والقوى الديمقراطية، وفي هذه المرة أصبح استخدام الدين وفتاواه في السياسة ممارسة دائمة ومستفحلة. وما بين هاتين الجبهتين من الأعداء فإن القوى الديمقراطية إما تهمشت وإما دخلت في صفقات سياسية ضارة مع الإسلاميين باسم المرونة والتكتيك الذكي. إن هذه القوى لم تستفد حقا من وضع دولي مناسب بسبب وقوف القوة العظمى لجانب شعبنا خلافا لما كان موقفها من ثورة 14 تموز.
إن التراجع المستمر أمام زحف الإسلام السياسي والمذهبي في موضوع الدستور وقانون الانتخاب، بدلا من تكتيل القوى العلمانية الديمقراطية الكردية والعربية والتركمانية والكلدو ـ آشورية، خطيئة تاريخية كبرى سيدفع العراق وشعبه أفدح أثمانها!
إن قوى البعث المتحالفة مع الأصولية القاعدية الدموية من جهة، والقوى المذهبية المهيمنة، تعمل معا، وكل معسكر بطريقته وأساليبه ولأغراضه، لقتل انتصار 9 نيسان. ولا أرى مع الأسف بارقة آمال على المدى القريب ولا حتى على المدى المتوسط. فيا ليتني على خطأ مبين! ويا ليت المتفائلين على صواب في التقدير!