لم تثبت تجارب العالم الحديث نظاما أشد على الفساد من الديمقراطية الحقيقية التي تشمل حرية تداول المعلومات والصحافة والرأي واستقلال القضاء والمجتمع المدني وسيادة قيم العدل وحقوق الإنسان، ولم نر تحققا لذلك خارج الأنظمة الديمقراطية، ولم تقطع رقبة فاسد كبير في أي بلد مستبد حتى الآن إلا عندما تتقاطع مصالحه مع مصالح الفاسد الأكبر أو حاشيته. والفساد، الذي يتحدث عنه الجميع هذه الأيام، بصيغته المجردة أو بإضافة تعبير المالي والإداري إليه، ويعدون بمواجهته، وضع العالم المتقدم مكافحته أولوية تقارب مكافحة الإرهاب نظرا لمساهمته في إفقار الشعوب والعبث بمواردها وامتصاصه لمخصصات التنمية والبناء الاقتصادي والاجتماعي، بل ودوره في تخريب القيم الأخلاقية والاجتماعية للمجتمعات والشعوب بحيث أصبح في كثير من تلك المجتمعات هو القاعدة وليس الاستثناء، بل وأصبح الإثراء السريع منطقا مشروعا بغض النظر عن الوسيلة وبات مقياسا للوجاهة والذكاء والتميز الاجتماعي.
الفساد سياسي المنشأ أولا وأخيرا
وقد يقول قائل بأن الفساد في كل مكان وزمان حتى في الديمقراطيات الغربية، ونقول نعم، ولكن شتان بين فساد يحاول التخفي والتهرب من تحت أعين الرقابة الإعلامية والشعبية الصارمة التي تسقط الحكومات وتقطع أعلى الرقاب سطوة، وبين فساد يتجول في الشارع بحرية حيث هو الخصم والحكم، فلا رقيب ولا حسيب سوى آهات المظلومين. إن ما يحاول الحكام في بلادنا تجاهله هو أن أي فساد مالي أم إداري أو اجتماعي هو فساد سياسي بالدرجة الأولى، فنهب المال العام والخاص، وانعدام سيادة القانون أو سيادته على المغلوبين على أمرهم فقط، يأتي من واقع تركز السلطة السياسية في أيدي مجموعة محدودة تختزل في ذاتها السلطات جميعا، وإن حاولت تجميل ديكور أوطانها ببعض الهيئات التشريعية والرقابية الشكلية، فما قيمة جهاز رقابي لا يستطيع مسائلة الرئيس أو رئيس الوزراء أو شيخ قبيلة أو أي متنفذ آخر، وما قيمة قضاء لا يضع مسئولا في قفص الاتهام. هنالك في مجتمعات quot;الإصلاح من الداخلquot; من هم فوق المسائلة، وما داموا فوق المسائلة فلا مكافحة للفساد ولا مفر منه وإن اخترعوا عشرات الهيئات الرقابية.. فليس هنالك من يحاسب نفسه، ولن تستطيع هيئة مرتبطة بالرئاسة أن تحاسب الرئيس أو ابن الرئيس أو حتى ابن عمه، وإن كانت مستقلة، فمن يحميها من عصابات الأمن والمخابرات، وأين ذا القضاء الذي سينفذ أحكامها وأوامرها أذا كان القضاة ذاتهم موظفون لدى السلطة التنفيذية؟ وحتى إذا تم ربط هيئات الرقابة والمحاسبة بالسلطة التشريعية، فمن هي السلطة التشريعية.. وكيف تنتخب، وأين في العالم العربي البرلمانات المتوازنة المنتخبة على أساس البرامج وليس على الأسس الطائفية والقبلية والنخبوية، والتي غالبا ما تحتفظ بأغلبية لحزب الرئيس أو السلطة تكفي على الأقل لتمرير أي قرار يشاء..
وفي بادئ الأمر، عندما أطلقت الولايات المتحدة وأوربا مبادراتها للشرق الأوسط الكبير والأكبر في أجواء الحادي عشر من سبتمبر والحرب على الإرهاب وإسقاط نظامي كابول وبغداد، وما تبعها من رعب اجتاح الأنظمة العربية التي شعرت بأن تغييرها وشيك ما لم تركب موجة العالم الجديد، أخذت تلك الأنظمة تتحدث عن الإصلاح والسلام والتسامح والديمقراطية ومكافحة الفساد والمجتمع المدني بعد أن شعرت بأن استمرار الدعم الغربي، بل والحماية الغربية، مقرون بتكريس هذه القيم اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، إلا أن ما بدا لها بأنه تعثر أمريكي في العراق غيّر اللهجة الحماسية الأولية التي باتت تتحدث عن الإصلاح الذي ينبع من الداخل والتدريجي والخصوصية المحلية.. وما ظهر في اجتماعات منتدى المستقبل بالبحرين مؤخرا التي هدفت أساسا لتكريس الدور الرقابي لمنظمات المجتمع المدني في مراقبة الفساد خير دليل على التوجه الجديد للأنظمة التي رفعت راية التغيير في بادئ الأمر، وإذا بمصر تحبط الإعلان الختامي بإصرارها على أن يكون الدعم الذي أقره منتدى المستقبل موجها لمنظمات المجتمع المدني quot;المرخصة من قبل الحكومةquot;، أو بكلمات أخرى quot;المنظمات المدجنةquot;..
المسؤولية والمساءلة
لم تتوان الأنظمة في بلادنا منذ انطلاق الحديث عن الفساد في العالم عن استعراض منجزاتها في هذا المجال، وعن الحديث عن الهيئات التي أسستها لمكافحة الفساد وهيئات الرقابة والمحاسبة المرتبطة بالرئاسة أو بشخص الرئيس، لتثبت جديتها في مكافحته واستئصاله، ولم تفتأ تتغني باستقلال القضاء وسطوته، وحرية الأعلام في تناول قضايا الفساد والمفسدين، إلا أن هذا لم يكن كافيا، فقد جاء الإصرار الغربي على فرض المجتمع المدني ومنظماته الأهلية طرفا في عملية الرقابة بل والمكافحة. وهنا جاء الاختلاف الذي تكرس في اجتماعات البحرين، فالمجتمع المدني لا وجود له في مفهوم الأنظمة العسكرية وشبه العسكرية التي اعتادت الحديث عن الجميع منذ تأسيسها في خمسينيات القرن الماضي، فالمجتمع المدني في نظرها، إن وجد، يجب ألا يتجاوز النقابات والمنظمات الحكومية التي يقتصر نشاطها على التصفيق ورفع البرقيات في المناسبات الوطنية والقومية، فالاختلاف لا وجود له في ظل الفكر المتفوق للنخبة الحاكمة، والمتمرد على المألوف الحكومي السائد عميل للأجنبي بالضرورة، وإلا كيف لم يؤمن بالأهداف السامية للأمة أو الدولة أو الثورة أوالدين وغيرها من التسميات الهلامية..
ومن هنا جاء الخلاف العربي ndash; الغربي غير المعلن حول شكل الديمقراطيات المطلوبة، فإن ظن الحكام بأن الغرب تخلى عن تغيير الأنظمة واقتنع بالإصلاح المفترض (من الداخل) فهم واهمون، فالمجتمع المدني ودوره آت لا محالة شئنا أم أبينا وبات يحتل اولوية مطلقة في أموال الدعم الغربي لدول العالم العربي (التي رغم كل شيء، يذهب 30% منها الى جيوب البعض وفق دراسة مصرية قدمت في مؤتمر بيروت حول الفساد مؤخرا)، وإن كان للغرب مصالحه التي يعمل من أجلها تحت مختلف المسميات، فلا يعني هذا أن نتخلى عن مصالحنا في مستقبل أفضل لشعوبنا، ولا يعني التزامنا بالديمقراطية والحرية إذعانا أو عمالة للغرب، كما لا يعني ركوعنا تحت أقدام القمع والاستبداد المحلي مقاومة للاستعمار الجديد والامبريالية إلى آخر تلك السلسلة الشعارية التي لا زال البعض يعيش في قفصها..
إن الشفافية التي يتحدث عنها الساسة في منطقتنا سيف قاطع لا يدركون مداه، فأي مسئول ذلك الذي يسمح للرأي العام والصحافة بالاطلاع على تفاصيل إحالة المناقصات العامة، أو مناقشة الميزانيات والإنفاق الحكومي والنبش في أدراج الرؤساء والأمراء والوزراء وكبار رجالات الدولة والاطلاع على ميزانيات أجهزة القمع والمصاريف السرية التي يعشقها حكامنا القدامى والجدد.
لقد دق الاستعمار الأجنبي أول مسمار في نعوش شعوبنا عندما سلّمنا إلى أكثر الحركات السياسية مراهقة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وهي المزيج القومي-العسكري الذي قفز على كل حقائق علم الاقتصاد والاجتماع وحاول خلق تحديث على الطريقة الستالينية في بلدان تأكلها الأمية والتخلف وثقافات القرون الوسطى التي عمل الأتراك على تكريسها في عصور الثورات الاقتصادية والثقافية في أنحاء العالم الأخرى.. ومع انه من غير المنصف إنكار بعض القفزات التحديثية التي حققتها تلك الأنظمة، الا أن جريمتها الكبرى كانت المحافظة على ثقافة مثلث الراعي- كلب الحراسة ndash; القطيع، فقتلت الفردية وكرست تأليه القادة بل وحتى ما دون القادة وحكمت أوطانا عريقة بسوط الأمن والمخابرات والشرطة ورجل الدين بشعارات خيالية عن أمجاد تليدة تتحقق بحد السيف، ولقنت الأجيال، جيلا أثر جيل، بأن العزة والكرامة ليست في العيش برفاه وحرية على أرض الوطن، وإنما بسحق العدو الحاضر دوما في الواقع أم في الخيال، وإن لم يكن موجودا فلنجد أحدا في بطون الكتب القديمة، ليبقى الجميع في حال حرب دائمة. فتم احتكار السلطة بالكامل من أحزاب بعينها، تم اختزالها بالتالي إلى عائلات وأفراد يشكل الوطن خزينتها الخاصة، فلا يعبثون بالمال العام فحسب، بل والخاص بالمواطنين أيضا. وقد خلقت هذه الثقافة التي أمتدت لعقد، مؤسسة لا تزال هي الأكثر فعالية في مجتمعنا، وربما كانت الوحيدة التي لم تتأثر بمتغيرات الزمن، وهي مؤسسة الفساد، الأبنة الشرعية لأنظمة الاستبداد واحتكار السلطة والمال والفكر والأخلاق والدين الأرض وما عليها.
ومن هنا يأتي دور المجتمع المدني، الممثل الشرعي لشعوب مغلوبة على أمرها، فهي الجهة الرقابية الوحيدة التي تستطيع رفع الصوت في وجه من لا رقيب عليهم، مدعومة بالصحافة الحرة، ضمير المجتمع.. قد يكون هذا وهما بالنسبة للكثيرين في العالم العربي، ولكنه آخذ بالتحقق تدريجيا وتحت أعين السلطات التي فرض عليها التطور وثورة الاتصالات والتقارب العالمي القبول بأشياء كان مجرد الحديث عنها ضربا من الزندقة قبل جيل من الزمان، فمن يتخيل أن يتحدث السعوديون عن لجنة وطنية لحقوق الإنسان ويجرون انتخابات بلدية، وأن يتحدث الإخوان المسلمون على سبيل المثال لا الحصر، عن الديمقراطية وتداول السلطة. وقد يقال بأنهم يخدعون الغرب ويمتصون الضغط الغربي الهائل القادم تحت شعار مكافحة الإرهاب والفساد الذي لا يقل خطورة عنه، وقد يكون ذلك جزءا من الحقيقة ولكنه بالتأكيد ليس بالحقيقة كلها، فهناك عجلة لا يمكن إيقافها وهي عجلة الزمن، وقانون طبيعي أساسي وهوقانون التطور إن شاء من شاء أم أبى من أبى..
العراق ومعايير النزاهة السياسية
وفي الواقع، ورغما عن أنوف كل من اعترض على نتائج الانتخابات العراقية ( وكاتب هذه السطور أحد الممتعضين من نتائجها)، أقول وبثقة بأنها لو أعيدت ألف مرة لجاءت بنفس النتائج، ولو جرت وفق أقصى معايير النزاهة في العالم لما أثمرت عن أكثر مما أثمرت عنه، ولو أعيدت الانتخابات في مصر بنزاهة تامة وشارك الأخوان المسلمون أوما يتفرع عنهم بثقلهم، لفازوا بها بسهولة، وكذا الحال في اليمن والسودان وشمال إفريقيا والخليج وسوريا وكل بقعة من هذا الوطن. إن المسألة ليست نزاهة لجان الانتخابات، أو صندوق مزور هنا أوهناك، أو استخدام موارد الدولة لصالح حزب أو جماعة، وإنما ثقافة سائدة متجذرة تجد أرضيتها في ملايين البسطاء الذين جبلوا على الحياة بأحلام بسيطة، ربما كان أكبرها منزل في الجنة..
ولو كان سنة العراق (وما أكره مصطلحات الطائفية إلى قلبي) هم الأغلبية لفازوا بسهولة وبنفس النسب التي حققها أقرانهم الشيعة وقد فعلوا هذا في مناطقهم، وهذا يسري على المسيحيين والصابئة والأكراد والجميع، فنحن شعب لا نقرأ البرامج السياسية، ولا تهمنا تلك البرامج أصلا، ما دام هنالك من يفكر عنّا ويقرر لنا ويرسم لنا مسار الدنيا والآخرة من فراش الزوجية إلى أنهار الجنة أو خوازيق جهنم. فالحديث عن الديمقراطية في العراق وغير العراق لا زال حقا يراد به باطل، وما زال بعيد التحقيق ما أن ينتقل من أوراق المثقفين إلى ارض الواقع. فبعد عقود من الاستبداد، واختزال الوطن في الخدمة العسكرية والركوع والسجود للحاكم الأوحد، جاء العراقي يبحث في صندوق الانتخابات عن إثبات هويته، طائفية كانت أم أثنية، قبلية أم عشائرية، على حساب الهوية الوطنية التي لا تزال تحتاج الى سنوات لتتبلور من جديد، بعد أن يشعر الفرد العراقي بمميزات هذه المواطنة وليس فقط بشعاراتها المجترة..
الدين السياسي وريثا للاستبداد الإيديولوجي ..
في ظل كل هذا الظلم وكل هذا الفساد، ظهر الدين السياسي على الساحة، باسم مكافحة الفساد والقيم العليا والكلام الجميل عن محاسن الأخلاق، ولكنه ما أن تمكن حتى رفع العصا، وبات يمارس الدور القمعي بل والفساد ذاته الذي مارسته السلطات ذات الأردية الأخرى، وهذا طبيعي، فمسارات السياسة تحكمها ذات القوانين الاجتماعية، فالطرف الديني لا يسعى إلى شراكات أو ديمقراطيات، فهو الحق الذي لا قبل له ولا بعد، فإنما يتحدث باسم الله فمن يعارض.. ويسقط quot;أنصاف الآلهةquot; أولئك في نفس مستنقع احتكار السلطة وقمع الرقابة الشعبية والحريات الصحفية والرأي الآخر، ويشكلون برلمانات الشورى، ويصلون أخيرا الى بحر الفساد حيث لا مسائلة ولا اعتراض، فالمسائل كافر، فمن ذا الذي يحاسب الشيخ أو الإمام أومن حولهم، الناطقين باسم الله بكرة وعشية. وأولا وأخيرا، فلم ينزل أخواننا الإسلاميون - سنتهم وشيعتهم - من السماء، فهم أبناء نفس القيم الاجتماعية التي أنتجت غيرهم ومن قبلهم ولا تزال تنتج من سيأتي بعدهم.
كيف يفهم حكام العراق الجدد الفساد والسياسة
في ندوة تلفزيونية، يتحدث أحد أعضاء ما يسمى بهيئة النزاهة في العراق، التي يفترض أن تكون مستقلة، فيصف أسباب الفساد بأنها التربية المنزلية وضعف الوازع الديني، متجاهلا كل العوامل الأخرى التي تخلق الفساد كظاهرة سياسية-اجتماعية.. هكذا، تمكن الأستاذ من حل معضلة العالم الثالث المستعصية، وهو يعلم بأنه لا يستطيع محاسبة رجل دين محلي صغير من ذلك الصنف الذي تعج به شوارع العراق اليوم، فيملكون الرقاب ويقتلون ويشكلون المحاكم ويحيون ويميتون، ومنهم من يقبض الأموال مقابل الحكم المطلوب، بل ولا يستطيع محاسبة موظف متوسط ينتمي إلى هذه الحركة السياسية أو تلك، في ظل نظام أكثر ما يمكن ان يقال عنه بأنه كاريكاتوري بوزارات تحكمها المحاصصات السياسية الطائفية، بل والعائلية, التي تمثل قمة الفساد السياسي لأنها تحرم الشعب من فرص الحصول على الوظيفة اللائقة وتلغي مفهوم الرجل المناسب في المكان المناسب، وتهدر المال العام بوضعه في غير موضعه أولا وبإبعاد العابثين به عن المساءلة ثانيا.
وكانت الطامة الكبرى عندما دافع رئيس الوزراء ذاته، الذي يفترض بأنه من نخب الائتلاف الحاكم المثقفة، على شاشة التلفزيون عن المحاصصة عندما رد على السائل بسؤال مفاده quot; أوليس في ألمانيا محاصصة؟quot; وكأن جيرهارد شرويدر وانجيلا ماركل قد قسموا وزارات الديمقراطية الألمانية المتطورة بين أبنائهم وأبناء عمومتهم وطوائفهم ومناطقهم.. هكذا يفهم جماعة النزاهة عندنا الفساد، وهكذا يفهم حكامنا الجدد السياسة والديمقراطية بعد ان أشبعنا حكامنا القدامى ركلا بالبساطيل العسكرية وشعارات القائد الأوحد الذي ابتلع وابناؤه حقوق البلاد والعباد، التي يبدو انها لن تعود حتى زمن طويل.. وإن قسونا على السلطة المتهرئة هنا، لا ننسى الطرف الآخر، الذي يمارس الفساد السياسي بأسفل صوره، فيبرر القتل الجماعي والاختطاف والابتزاز بشعارات ومسميات تجد صداها لدى أطراف فقدت سلطتها، واخرى تشعر بالاقصاء السياسي والاجتماعي، فهل هنالك quot;فساد فكريquot; أكثر من قتل الأبرياء تحت أية ذريعة كانت، فكيف إذا كانت الذريعة مجرد الاختلاف.وبين هذا وذاك والسلطة، يبحث الحالمون عن الوطن، مثل النخب المحدودة التي ما انفكت تصيح في صحاري الوطن القاحلة تبحث عن هذا الوطن في خطاب الحكام وما يسمى بالقوى السياسية العراقية.
الأيزوالديمقراطي
ينتظر المعترضون على النتائج اللجنة الدولية التي ستحقق في نزاهة الانتخابات، ولن تأتي اللجنة بالجديد. فقد أصدرت الأمم المتحدة والولايات المتحدة صكوك النزاهة مسبقا، وفي الواقع، فإن العقل الغربي الذي تقولب تجاريا إنما يفكر بطريقة تختلف عن طريقتنا. فشهادة الأيزو التجارية التي تمنحها المنظمة العالمية للمقاييس التي يفتخر المنتجون بعرضها في إعلاناتهم وعلى منتجاتهم لا تعني جودة المنتج بالضرورة، وإنما تعني التزام المنتج (بكسر التاء) بمعايير إدارية وإجرائية معينة خلال عملية الإنتاج. وسيسري هذا على تقييم الانتخابات العراقية كذلك، كما قيموا سابقا انتخابات مصر واليمن وغيرها. فاللجنة غير معنية بكون أكثر من نصف بسطاء الشعب يدلون باصواتهم نتيجة لفتاوى دينية أو الترهيب غير المباشر وما الى ذلك مثلا، وإنما يهمهم شكل صناديق الانتخاب وأمن المراكز وأسلوب الفرز وما الى ذلك من الخطوات الإجرائية التي لا تعجز أية دولة عن توفيرها، وستصدر شهادة quot;الايزوquot; الديمقراطي لتعلن بأن الانتخابات نزيهة إلى حد مقبول (على الأقل).
وعلى المعترضين، مساهمة في بناء الخطوات الأولى للديمقراطية التي لا يمكننا الحديث عنها قبل أجيال قادمة، أن يذهبوا الى المعارضة، فليست الديمقراطية أن يصبح الجميع حكاما باسم التوافق الوطني، فهذا هراء لن يتحقق، فلا بد من معارضة قوية تعمل عبر البرلمان والصحافة والمجتمع المدني لمراقبة أخطاء الحكومة وتصحيحها، بل والتعاون معها متى تطلبت مصلحة الوطن والمواطن، ذلك إذا كان للوطن والمواطن المتعب مكان في ضمائر هذه الحكومة وتلك المعارضة.
التعليقات