المتابع لأحوال العرب والمسلمين يلاحظ أنهم عبارة عن نار تبحث عن حطب، أو مجموعة من الظامئين الباحثين عن quot;ماء الشرquot;، وشراب الانفلات وبريق الفوضى... يفرحون بكل صيحة، ويطيرون بكل شاردة لا تناسب أهوائهم، ليتخذوا منها مجالاً وعذراً لإنتاج الصراخ، ونطاقاً لإفراز التنفيس، ومساحةً لابتكار التسييس!!
هل تذكرون ذلك التفلّت، وتلكم الفوضى التي صاحبت رواية quot;وليمة لأعشاب البحرquot;، تلك الرواية التي صدرت في بداية الثمانينات، فاخترع المصريون quot;المأزومونquot; في أواخر التّسعينات سبباً للهجوم عليها، على اعتبارها مطية للخروج والتّظاهر في ميادين القاهرة. بل هل يحتاج القلم إلى التّذكير بما حدث العام الماضي، عندما قام رسام مغمور في جريدة مغمورة في بلد أوروبي مغمور يدعى الدنمارك، قام هذا برسوم مسيئة للمصطفى صلى الله عليه وبارك، الأمر الذي جعل العالم الإسلامي ndash; الغائب عن الوعي ndash; ومن خلال ريادة المتشددين والباحثين عن استزراع المشاكل، يقومون بالاعتداء والتّظاهر والإيذاع على كل ما هو دنماركي أو حتى يمتُّ للدول الاسكندينافية بصلة، ظهر ذلك في حرق سفارات تلك الدول في كلٍّ من دمشق وبيروت وطهران.
بل إن القلم ما زال يتذكر ما حدث في الثمانينات من القرن الماضي، حين صعّد المتطرفون قضية روائي مغمور اسمه سلمان رشدي، ولم يكن حينها معروفاً إلا في مساحات ضيقة وصغيرة من عالم الأدب البريطاني، وبعد التّصعيد، جعل منه متطرفون أشهر روائي عالمي، حيث ترجمت رواياته إلى لغات عالمية حيّة، وكلّ هذا بفضل حماقات وغوغائية بعض ما ينتجه الشّارع العربي والإسلامي الذي شنّ هجوماً محموماً على رواية quot;آيات شيطانيةquot; لسلمان رشدي.
وبعدها انتشرت فكرة مفادها: (أن أقرب طريق للشهرة العالمية هو الهجوم على الإسلام ورموزه). ولك أيها القارئ أن تتأمل موقف المسلمين وعلى رأسها فتوى الإمام الخميني الذي أهدر دم الروائي سلمان رشدي، وموقف المسيحيين في كل أنحاء العالم من الروائي الأميركي دان براون حين أصدر روايته quot;دافنشي كودquot; والتي نال فيها من المسيحية والمسيحيين وكشف الدهاليز الخفية في جوانح الكنيسة ومفاصلها، ومع هذا لم تصدر أي فتوى من الكنائس ضده.
والآن تكررت مأساة الشارع العربي إثر محاضرة البابا بينديكت السادس عشر، عندما ورد في محاضرته الطويلة سطراً منقولاً من محادثة قديمه، شبعت موتاً من قدمها ...
إن المحاضرة طويلة وهي عبارة عن ذكريات البابا عندما كان محاضراً، وقبلها تلميذاً، في جامعة (ريجنسبورغ) في ألمانيا، إنها محاضرة تتناول (الدين والعقل والجامعة بذكرياتها وانعكاساتها) وقد نشرت المحاضرة في موقع إيلاف الإلكتروني بخمس لغات منها العربية، وأشك في أن أحداً قرأها إلا النزر اليسير القليل جداً من العرب والمسلمين.
في هذه المحاضرة تناول البابا أخطر قضية وهي (العلاقة بين الأديان والفلسفة والأخلاق والعلوم والمنطق والإيمان بالله، والصراع بين الحضارات) بل حاول البابا جاهدا ربط هذه المعطيات واستغلالها في التقريب بين الشعوب ونشر السلام في أرجاء المعمورة حتى لا تكون مهدومة.
أكثر من ذلك أن المحاضرة انتقدت المسيحية، وخاصة في موقفها من الإصلاحيين في القرون الوسطي، لذا تبدو المحاضرة وكأنها مراجعة تاريخية لتاريخ المسيحية، ومن يقرأها لا يجد فيها إلا ذلك التتبع التاريخي لحركة الأديان، وعلاقتها ببعض، وعلى هذه النقطة يعلق الدكتور عبدالخالق حسين ndash; نشر هنا في إيلاف- بقوله: ( ولكن بدلاً من دراسة هذه المحاضرة القيمة دراسة عقلانية، والاستفادة منها، راح المتطرفون المسلمون ومعهم ndash; للأسف- المعتدلون، رافعين عقيرتهم، صارخين بالويل والثبور ضد البابا واليهود والمسحيين (أحفاد القردة والخنازيرquot; على حد تعبيرهم، وكأنّهم أعطوا عقولهم إجازة أدبية وأطلقوا العنان لمشاعرهم البدائية بحجة التجاوز على الإسلام)!!!
لماذا أصبحنا هكذا مجموعة بشرية تجمعنا الطبلة، وتفرقنا العصا، نسكر من زبيبة، ونثور من كلّ ريبة، ونتشنج في كلّ حوار، ونرفض كل ما لم نعتد عليه من نقاش أو أفكار؟!!
إن العجب يأخذنا بعيداً لهذا الصّراخ الطّويل حول محاضرة البابا، فكيف سرقنا كلماته من قدر محاضرته، واجتزأناها من متنها الطويل العريض. إن محاضرة البابا لم تكن سوى مذكرة تاريخية فيها من الدروس والعبر والرصد التاريخي الكثير، ومع هذا لم يقرأها إلا الذي صمت، وصرخ منها الكثير الذي لم يقرأها ولم يدر عن فحواها.
إن كل ما قاله البابا ليس أكثر من نقل محاورة تمت في عام 1391م أي قبل حوالي 700 سنة، بين الإمبراطور البيزنطي مانويل باليو لوغوس وبين فارسي متعلم حول مسألة الحرب المقدسة، وكان في المحاورة سطراً يقول ( إنّ محمد صلّى الله عليه وبارك أمر قومه بنشر الدين، الذي نادى به بالسيف)!!. وبعد إيراد هذا السطر من محاضرة تبلغ آلاف الأسطر ، قال البابا ما يلي : (ليس القصد هنا إعادة التخندق، أو النقد السلبي، بل القصد توسيع مفهوم العقل وتطبيقاته). وتابع قائلاً ( عند هذه النقطة فقط نصبح قادرين على الحوار الحقيقي للثقافات والأديان الذي بتنا في حاجة ماسة له اليوم!).
وختم البابا تعليقه بقوله ( وبعد أن عبّر الإمبراطور عن نفسه بهذه القوة مضى يشرح مفصلا لماذا يكون نشر الإيمان بالعنف منافياً للعقل والمنطق، فالعنف لا يتفق وطبيعة الله، ولا يتفق وطبيعة الروح، فيقول والكلام للإمبراطور (إ ن الله لا يسر بالدماء، وليس التصرف بعقلانية مناقضاً لطبيعة الله، فالإيمان يولد في رحم الروح وليس في الجسد)!!.
والحقيقة التي لا مفر من رؤيتها بعد محاضرة البابا، أن العرب والمسلمين أضحوا مجموعات من البشر تفرقهم العصا بعد أن جمعتهم الطبلة، إنهم أناس أضحوا كحطب يبحث عن نار، أو لنقل نارا تبحث عن حطب وقضايا، حتى تستمر مشتعلة، فمن رواية إلى رسوم مسيئة وآخر التداعيات وليس آخرها محاضرة البابا!!
لقد كان للمسلمين فرصة برتقالية بعد محاضرة البابا أن يفتحوا النقاش مع الغرب من خلال وضع الحقائب، وإيضاح الأمور فعسى أن يكره المسلمون شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً وربما يأتي مع المحنة منحة كما يقول الصوفيون.
كانت محاضرة البابا فرصة لكشف المستور، ونبش المطمور، من خلال التسليم بأن الإسلام استخدم السيف في إطاره القانوني ومضماره الصحيح!! وقبل البابا بآلاف السنين قال الشاعر حسان بن ثابت رضي الله عنه ، الذي كان بمثابة وزير الإعلام للدولة الإسلامية الأولى، قال:
دعا المصطفى دهراً بمكة، لم يجب
وقد لان منه جانبٌ وخطابُ
فلما دعا والسيف صلت بكفه
له أسلموا واستسلموا وأنابوا
إن حسان هنا يصرّح بأنّ السّيف كان أحد الوسائل التي استخدمها الإسلام الأمر الذي يجعل الوقوف في وجه البابا وقوفاً متشنجاً حماقة لا آخر لها، لأن، نصف شعر حسان وبقية شعراء الدعوة الإسلامية الأولى ممتلئ بوصف المعارك والمغازي والحروب، والقفز على هذه الحقيقة هو قفزٌ على حقائق لتاريخ ووقائع الجغرافيا.
وهذا لا يمس بصورة أو أخرى جوهر الحقيقة أن الإسلام دين سلام وسماحة، ولا يتشوّف للحرب ولا يبحث عنها، ولكنه في بدايته، وضع بين خيارين هما، إما الاضمحلال أو الحرب، فاختار الثانية ومن هنا عمل السيف عمله بوصفه الحل الوحيد، والخيار الفريد الذي ليس منه مفر ولا محيد!!
ثم أن البابا لم يأت بجديد فهذه القضية (قضية انتشار الإسلام بالسيف) قضية طرحت منذ مئات السنين، ومن قبل علماء مسلمين، والقول بأن الإسلام لم يستعمل القوة quot;المنضبطةquot; هو قول يتجاهل الكثير من آيات القتال والحروب في القرآن الكريم، أو كما تسمى quot;آيات السيفquot; ثم إن القول والعمل بحد الردة، الذي استغله بعض الخلفاء للتخلص من خصومهم، أمرٌ يصب في صالح من يقول إن الإسلام انتشر بالسيف، الأمر الذي يجعل تطبيق هذا الحد، يشير إلى أن الإسلام يحافظ على بقائه في أوساط المجتمعات بالسيف، وفي هذا ظلم لهذا الدين العظيم الذي كانت كلّ آياته تشير إلى أنه دين سماحة ومحبّة لا إكراه في دخوله ولا إجبار في الإيمان به..
من هنا ليتنا ننطلق من محاضرة البابا لفتح حوار يشرّق في الأرض ويغرّب تحت شعار: (الإسلام رحمةً للعالمين).
وبناء على ما سلف لا نجد مبرراً منطقياً لهياج العرب والمسلمين، فكل ما هناك أن البابا اتكأ على نص تاريخ عتيق، يفيد بأن الإسلام انتشر بالسيف، ومثل هذا الأمر يجب أن لا يثير لأنه طرح منذ مئات السنين، بل إنه ينبغي أن يكون فرصة لإيضاح حقيقة الإسلام... وربما صحت الأجسام بالعلل، ورب ضارة نافعة.
إن قضية نشر الإسلام بالسيف، التي ضج الضاجون، وثار الثائرون من جراء ذكر البابا لها، هي قضية تقبل الجدل، وتستوعب النقاش، وتحتمل القراءات،( لأن الحقيقة التاريخية تؤكد وقوع حروب شنتها جيوش المسلمين ضد غير المسلمين) في عهود الإسلام الأولى من راشدية وأموية وعباسية وعثمانية الأمر الذي يجعل انتشار الإسلام بالسيف له وجهته المنطقية كما ذكر ذلك الدكتور عبدالخالق حسين في مقاله الذي أشرنا إليه آنفاً.
وهنا لا بد أن نفرّق بين الإسلام بوصفه ديناً سماوياً نبيلاً سمحاً، يدعو للرحمة، وبين اجتهادات المسلمين التي هي إنتاج بشري يحتمل الخطأ والصواب، الأمر الذي يجعل ما يسمّى فتوحات، قد يسميّه الآخرون معارك طالت غير المسلمين لتجعلهم مسلمين بحد السيف ولقد قرأ كلّ الطلاب في مدارسهم الابتدائية أن الجيوش الإسلامية كانت تخيّر أهل البلاد المفتوحة إما الإسلام أو دفع الجزية. وحتى تكتمل الأمور يمكن القول بأن الإسلام انتشر عبر طريقين، إمام القدوة أو القوة، ويضرب العالمون ببواطن التاريخ، مثلاً بالقدوة حين دخل الإسلام إلى جزر أندونسيا، قائلين إنه دخلها عبر بوابة التجار، حين انبهر أهل هذه الجزر برقي وحسن وصدق تعامل التجار المسلمين معهم، الأمر الذي جعلهم يدخلون في دين الله أفواجا.
ويضرب للبلاد التي دخلها الإسلام من خلال القوة بالأندلس لذا لم يستمر فيها ولم يتمدد لأن لغة القوّة وعنف الأعراب، لم تنمحي خلال ستة قرون، ولا يفلح العنف حيث أتى!!
لقد حملنا الدفاع عن الإسلام ودحض محاضرة البابا إلى امتطاء لغة فيها الإخلاص ولكنه إخلاص الجاهلين، وولاء، ولكنه ولاء الأغبياء الذي يحمل صاحبه إلى مهاوي الردى، حين يأخذه الحماس ويحمله الاندفاع الأرعن إلى إنكار حقائق هي صحيحة بوصفها حقائق، ولكن لها قراءتها تختلف من شخص لآخر.
فمثلا قد يفسر ضرب الأب لابنه بأنه قسوة وعنف ووحشية، وقد يفسر على إنه حرص أبوي على فلذة كبده، وغاية التفسير يحددها الفرد بنفسه من خلال زاوية نظره. ولو أردنا مثالاًُ على الولاء الغبي والإخلاص الجاهل فلن نجد أجبن من مقال الدكتور أو الباحث الإسلامي أحمد صبحي منصور ( صاحب الكتب الإسلامية الكثيرة) الذي أخذه الحماس وولاء الأغبياء في رده على البابا إلى التهجم على البخاري في سياق نفيه للحديث القائل ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمداُ رسول الله) لقد أنكر الدكتور أحمد هذا الحديث وشن هجوما على الإمام البخاري، واصفا إياه بأنه رجل شعوبي اشتهر بحقده على العرب، وأن هذا الحديث من افترءاته، ومن أراد الاستزادة حول ما كتبه أحمد منصور فليرجع إلى أصل المقالة التي نشرت في موقع (الحوار المتمدن).
إن هذا الاندفاع جعل السيد منصور يشكك في البخاري، فإن حاول وأفلح، فكيف سيفلح في تفسير قول المولى جل وعز (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون بدين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة (آية 29) . كيف تفسر ذلك أيها الأستاذ كيف تفسر ذلك يا دكتور أحمد منصور، وأنت صاحب كتاب (القرآن وكفى).
بقي في القلم نقطة حبر تبعث على الابتسامة لأن المسلمين هذه المرة أضحوا حائرين في من يقاطعون؟ فإيطاليا ليس لها ذنب، كما أن العالم الغربي يغلب على سكانه الاتجاه المسيحي ومن المستحيل أن يعادى الغرب كله، لذا وقع المسلمون في حيرة فلا مقاطعة تنفع ولا شكوى تفيد.
التعليقات