في عالم الصراعات الناشبة التي يعيشها العالم اليوم، يتم استحضار التاريخ الخاص بطريقة ملفتة، لا بحسابه وعيا يقوم على الشمول والتنوع، بقدر ما يكون مستنده التركيز على مضمون التحديد والانتساب وتكريس مجال العضوية، ومن هذا فإن الفرعي يكون له الحضور الأوسع على حساب الأصل، فيما يحضر التوقف والانغلاق، والذي يكون بمثابة المعيق بوجه التفاعل المفترض، والذي يحاول التوجه نحو إفساح مجال الوعي بالتعددية والتنوع والاختلاف.

الانغلاق والانفتاح
تشير المجمل من الدراسات الاجتماعية إلى خرافة انغلاق الجماعات، باعتبار أن الظواهر الاجتماعية إنما تستمد حضورها من مجمل التفاعلات التي لاتعرف التوقف، والمجمل من التبادلات القائمة بين القوى الرئيسة. وإذا كانت الفاعلية تحضر بوصفها الرابط المؤكد على إبراز مجال الحضور والأهمية والتأثير، فإن الفاصل الموضوعي يبقى مشيرا إلى الأهمية التي تنطوي عليها مكونات التقويم المستندة إلى ثنائية التبعية والاستقلال، تلك التي تكون بمثابة الفيصل الذي يحدد مكنون التوجهات ويعمل على توضيح مجال الرهانات، والسعي نحو إبراز القواعد المشتركة التي يقوم عليها مسار الفعل الاجتماعي.وما بين التقليد والإبداع يكون العامل الثقافي حاضرا وفاعلا في المجمل من التفاعلات التي يشهدها العالم اليوم، حيث التوتر في أقصاه.وهكذا يتصدر المشهد العالمي حالة التشكيك والخواف التي تفرضها مسألة صدام الحضارات، تلك التي بشر بها هنتنغتون في خضم تفاعلات النظام الدولي الجديد الذي جاء في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي، وحالة التوسع التي تبدت عليها الولايات المتحدة، للتصدي لمسائل الشرعية الدولية وحقوق الإنسان والحفاظ على البيئة والشفافية والمقرطة. أجندة واسعة وهائلة ميزت قسماتها التداول المفرط للعولمة والانفتاح الاقتصادي الذي تبدى من خلال توقيع اتفاقيات الجات والدور الكبير الذي راحت تتصدى له الشركات العابرة للقومية.

موجهات التبعية
ويبقى سؤال التبعية والاستقلال حاضرا وفاعلا في العقول والنفوس، السؤال الذي أفردته تهديدات العولمة للخصوصية الثقافية، حتى بات الحديث عن الهوية ماثلا بصورة ملفتة، ليبرز التطويع الاصطلاحي الذي راح يتم تجهيزه في المختبر الثقافي لدى جهتي المواجهة، تلك التي راحت تعيش لحظات الازدواج في التوصيف، ما بين المستعمِر والمستعمَر،في حقبة ما قبل الاستقلال، والمركز والأطراف، والشمال و الجنوب، تلك التي أبرزتها معطيات مرحلة الاستقلال، وتوجه الكيانات السياسية نحو ترسيم معالم حضورها السياسي، من خلال التأكيد على الخصوصية ومحاولة الإفلات من قيد التبعية للقوى الأكبر، حتى برزت أعراض هذا التأكيد في نزوع مرضي كانت له ،عواقبه الوخيمة على دورة التفاعل الحي والمثمر في المجال الاجتماعي، بل أن اللجم والمراقبة الشديدة كان له الإسهام المباشر في تحديد مسار الإبداع، وتوكيد مسار التبعية، ذلك الذي ظل جاثما على المجمل من الفعاليات، والتي يتصدرها على الصعيد الثقافي، باعتبار الهيمنة وممارسة السطوة على مقومات المبادرة، حتى كان التعطيل لدور الانجاز وإغفال مجال الابتكار، لتتصدر المشهد حالة من التبعية الشائهة، تلك التي يتم نبذها في الخطاب الرسمي السياسي، فيما يكون حضورها رئيسيا في صلب المحتوى الثقافي والسياسي والاقتصادي، بل أن المفارقة تبلغ مداها الأرحب، حين يتم التنديد بهذه التبعية، والتي يتم وصفها تارة بالذيلية وأخرى بالرجعية، أو بالعمالة والانخراط في خدمة مصالح القوى الخارجية ، في الوقت الذي يعمل النابذون والشاتمون على تكريس مجال التبعية وتوسيع مجالها، من خلال الوقوع في فخ النهل عن الآخر تحت دعوى، التطلع نحو ممارسة الانتقاء والانتخاب من الظواهر. وعبر هذا التصور المجزوء وقعت المزيد من أنظمة مرحلة ما بعد الاستعمار في وهم الاختيار المنقوص، حتى كان النهل عن الآخر يتسلل من خلال تسرب مفاهيمه وأنماطه، عبر بوابة التوجه المطمئن صوب المنجزات والمبتكرات والمخترعات والمكتشفات والمفاهيم والنظريات والقواعد وتقاليد العمل، نهل واسع وكبير، لكن التطمينات كانت تصدر وفق شعارية، الأخذ بما يفيد وطرح ما لا يتناسب معنا.تلك التي تتقاطع بشكل فج مع طبيعة الظواهر، والتي لا تقبل الاجتزاء أو التقسيم.

المحتوى والمعنى
أين يمكن تحديد مجال الفصل بين التبعية والارتباط، وماهي القواعد التي يمكن الوقوف عليها في سبيل تمييز مفاصل اللقاء والافتراق في الظاهرة الواحدة.، وكيف يمكن الوعي بمدار التكيف والإبداع، هذا إذا كان للإبداع وجود في المجمل من التفاصيل التي تدور في مجال نمط العلاقات الاجتماعية التقليدية. هل يمكن الاكتفاء بتقصي مظاهر اللجم والإيقاف وتكثيف مسار الاستتباع، أم أن هناك ثمة أمل في إمكانية ترصد بصيص أمل لإدراك مسار النمو والدفع نحو إحداث نوع من العلاقة مع الوعي بالتطور، هذا الذي ظل بمثابة الحلم الذي يراود المخيلة، فيما يكون واقعا ملموسا في مجتمعات الحداثة الغربية ، أو في المجتمعات الناهضة حديثا، والتي قيض لها أن تؤسس لنفسها معدلا تنمويا باهرا.

في غمرة التوتر الذي يعيشه العالم، تعود الأسئلة الكبرى لتأخذ مكانتها المهمة والأثيرة في النفوس، أسئلة تتناسل بإفراط ، فيما يبقى الواقع على ما هو عليه، القوي يزداد قوة والضعيف يزداد وهنا وتراجعا وتأخرا.علاقة معقدة تقوم على التشابك والتداخل ، التوصيف الأبرز فيها يقوم على توجيه التصنيف بين الإيجاب والسلب والصالح والطالح والجيد والرديء، فيما تبقى إرادة المبادرة راسخة وثابتة عند طرف واحد ، يوجه قواعد اللعبة وفق ما يريد وحسب مقتضيات حاجاته المباشرة.ليبقى الطرف الآخر واقعا في إسار التلقي ، عبر جملة من الفعاليات والتي تكاد لا تخرج عن:
1.تهجين المعنى تحت مسعى الإبداع.
2.تغييب المحتوى باعتبار سيادة الشعور بالانسحاق، والسعي نحو التزود بما هو جاهز من تصورات.
3.غياب القدرة على تحديد مسار الممارسات والمصالح ،باعتبار الانشغال بمعطيات وقواعد ورهانات ، صادرة عن نسق ثقافي آخر.
[email protected]