ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا- الإسراء 85

لم يستطع أحد منذ فجر البشرية حتى الآن أن يعرف مكان الروح وآلية تكوينها في جسم الإنسان، لكنهم اتفقوا جميعا أن لا يد للإنسان في وجود الروح وتكوينها، لأنها خارج إرادته وقدرته، فهي قدرة إلهية يصنعها الله ويضعها في أجساد الكائنات، فتدب فيها الحياة. أي أنها الحبل السري الإلهي الذي يربط بين الإنسان والحياة. وعندما تنقطع العلاقة بين الروح والجسد تنتهي صلة الكائن- الإنسان بالحياة الدنيا، وتموت حواسه وقواه العقلية والجسدية والنفسية، فيقبر في باطن الأرض، ويُهال عليه التراب، ويأكله الدود، ومن ثم يتحلل جسده إلى تراب أو ما يشبه التراب.

عندما سئل السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني عن علاقته أو علاقة حزبه بإيران- كما ذكرت بعض الفضائيات اللبنانية في نقلها لأخبار مؤتمر الحوار الذي انفض دون اتفاق- وصف العلاقة مع إيران بأنها علاقة روحية. ولا أظن السيد حسن نصر الله يقصد بهذا الوصف علاقة الروح بالجسد، أي بمعنى الحياة والموت، وإنما يعني الصلة أو العلاقة الدينية، على اعتبار أن الدين من الروحانيات، بمعنى أن هذه العلاقة لا ترتب عليه أو على حزبه أية التزامات سياسية نحو إيران. إذ أنه لأول في التاريخ المعاصر تُقام للشيعة دولة تهتدي بتعاليم أئمتهم، وتطبق مفاهيمهم ورؤيتهم الدينية والدنيوية، دون أن يمنع هذا وجود زعيم ديني لكل جماعة شيعية، تقلده، وتلتزم في أكثريتها الساحقة باجتهاداته وفتاواه. وقد عاش الشيعة من قبل على مدى عهود وعهود مضطهدين، بعيدين أو مبعدين عن شؤون السياسة والحكم، بانتظار الإمام المهدي الذي سيعود ليقيم العدل في الأرض. إلى أن جاء المرشد الروحي للثورة الإيرانية ولشيعة إيران القائد آية الله الخميني، الذي بدل هذه المفاهيم، وارتأى أن على الشيعة أن يقوموا بواجبهم كلما أمكنهم ذلك، ريثما يعود الغائب، لتقليل مساحة الظلم في العالم، فانخرط الشيعة بكل قواهم وجوارحهم في الحياة السياسية. وشيعة لبنان جزء من شيعة العالم الذين يدور بينهم نقاش واسع الآن حول ولاية الفقيه، والتفاف الشيعة حوله، والتزامهم بآرائه.

قامت الدولة اللبنانية وما زالت تقوم على نظام المحاصصة الطائفية في المناصب العليا، والوظائف الهامة. فرئيس الجمهورية مسيحي (موراني)، ورئيس مجلس النواب مسلم (شيعي)، ورئيس مجلس الوزراء مسلم (سني)، وهكذا دواليك...

ثلاثة أرباع الطوائف الدينية اللبنانية تعاني من انقسامات داخلية، وآراء متباينة، وتيارات وتكتلات. فهذه طبيعة الحياة والمجتمعات. فالمسيحيون بمذاهبهم المتعددة (موارنة، روم، كاثوليك، أرمن...) لديهم في كل تجمع مذهبي تياران على الأقل، أو كتلتان متعارضتان، وأحيانا ثلاثة، وأحيانا أكثر. فالموارنة لديهم تيارات (لحود، الجميل، فرنجية، جعجع، عون، حرب...) والروم لديهم تكتلات (المر، مكاري، فرزلي، تويني، واكيم...) وكذلك الأمر لدى الكاثوليك والأرمن، ففي كل منهم تياران متباينان على الأقل. تيار مع الحريري، وآخر ضده، أو في الضفة المقابلة. والطائفة السنية أيضا تحوي العديد من الكتل والتيارات المتباينة الرأي والمصالح والرؤى (الحريري، كرامي، كتلة معروف سعد، وتيارات أخرى صغيرة) ولا يُستثنى الدروز من هذا الانقسام فلديهم كتلة جنبلاط، وكتلة الأمير طلال أرسلان، وهما على طرفي نقيض. وقد يكون الأمر بالنسبة لهذه التيارات والتكتلات مجرد مصالح شخصية، ولهث وراء المناصب والزعامات، إلا أن هذه الكتل والتيارات موجودة بقوة على أرض الواقع ومتصارعة. كما أن الأمر لا يخلو من وجود أفكار وآراء ووجهات نظر وسياسات.

الطائفة الوحيدة التي لا تعاني من هذه الانقسامات- علنا على الأقل- هي الطائفة الشيعية. فهم الطائفة الوحيدة المتماسكة، والموحدة الصف والكلمة، مما يعطيهم قوة ومنعة ومهابة. وقد يأخذ البعض على الشيعة عموما أن ولائهم لقادتهم الدينيين في أغلب الأحيان أقوى من ولائهم لقادتهم السياسيين. كما يأخذ آخرون على شيعة لبنان هذا التماسك والتوافق، ويفسره تفسيرات مختلفة. أولها الاقتناع بموقفهم، وثانيها الخوف، وثالثها عدم الرغبة في التنوع والتمايز، والمواقف المستقلة. وإذا كان هذا التوافق يعطيهم قوة الآن، ألا أنه قد لا يكون علامة صحية مستقبلا.
[email protected]