كل نظام سياسي في هذا العالم - بغض النظر عن كونه ديمقراطياً أم استبدادياً ndash; يستند في بقائه على بعدين أساسيين يظلان يتحكمان بنوعية قوته وامكانية استمراره ومداها.
الأول هو حجم الفئات المستفيدة من بقائه داخل البلد. والبعد الثاني حجم المصالح التي يوفرها للدول أو المؤسسات الأقليمية والدولية ذات التأثير المباشر أو غير المباشر على النظام في البلد المعني.
ومن يعود لتاريخ نظام البعث في حكم العراق ( 1968 ndash; 2003 ) يستطيع أن يرى ارتفاع وانخفاض الخطوط البيانية في علاقة النظام بالمجتمع العرقي من جهة ودول المحيط الإقليمي من جهة أخرى، على ضوء البعدين المشار إليهما. وعليه فإن سؤال: لقد سقط نظام صدام ولكن هل انتهى حقاً؟! قد يثير جواباً سريعاً مفاده: نعم انتهى تماماً، فكل نظام يسقط لا يعود من ينتفع به بحكم زواله.

هذا الجواب الذي يبدو ( واقعياً ) هو في الحقيقة غير دقيق!! والسبب هو أن عقيدة حزب البعث في جانبيها التنظيمي والأيديولوجي، هي عقيدة تآمر ولصوصية تعتمد على ( مبدأ الغنيمة ). الدولة عند البعثيين هي غنيمة الحزب، لذلك لم يحدث ولا مرة واحدة إعلان الأرقام الحقيقية لموازنة الدولة السنوية. ومقولة ميشيل عفلق ( حزب البعث هو حزب انقلابي ) هي عنوان ملطف لتاريخ من التآمر والانقلابات المشبوهة، تمت ترجمتها دائماً بالصراع المستميت على السلطة وبشتى الوسائل وبغض النظر عن أية قيم أخلاقية أو دينية أو سياسية منطقية، لأن السلطة هي الهدف فهي أداة الهيمنة على البلاد والمجتمع.

هذا في الواقع، هو المبدأ الذي دأبت عليه غالبية الأحزاب الثورية، يسارية وودينية وقومية والتي قد تختلف في الدرجة أحياناً وليس في الجوهر فيما يخص نزعة الأستئثار بالسلطة وإقصاء الآخرين. لكن البعثيين في العراق وسوريا استغرقوا في التجربة إلى أبعد مما هو متوقع، وهذا ما يفسر هبوط مستوى المعيشة في العراق وسوريا رغم أنهما من أغنى بلدان المنطقة!! الأمر الذي يفسر الارتباطات المشبوهة لهذين النظامين على عكس إدعاءات (مقاومة الامبريالية والصهيونية) وليس أدل على ذلك من تنافسهما الدائم على قتل أية فرصة للتقارب بين البلدين، ناهيك عن ( القطار الأمريكي ) الذي أوصل بعث العراق مرتين إلى السلطة في 1963 ثم 1968 وتباهي البعث السوري على لسان قادته بأنه قام بتصفية الحركة الشيوعية في المنطقة معتبرين أن ذلك صمام أمان لبقائهم في الحكم. الأمر الذي يفسر أيضاً العدد الملحوظ من قادة وكوادر الحزبين، الذين تخلوا عن الحزب أو أعدموا أو شردوا بسبب رفضهم العمل في ظل أنظمة مشبوهة تفتقر إلى المنطق السياسي المتوازن.
عود على بدء، نقول: أن العقلية اللصوصية لصدام وقيادته جعلته ينتبه مبكراً لاحتمالات المستقبل المشؤوم الذي ينتظره. لذلك قرر بعد تأميم النفط في 1972 تحويل خمسة بالمائة من عائدات النفط ndash; وهذا ليس سراً - لحسابه الخاص في البنوك الدولية، أعتبره صدام بمثابة مالية للحزب تحسباً للطوارئ، أي لاحتمالات سقوط النظام، لاستخدام هذه الأموال من أجل العودة إلى السلطة!!

وخلال فترة التسعينات، وبعد التجربة القاسية التي عاشها النظام خلال حرب تحرير الكويت وانتفاضة آذار ( شعبان ) 1991 قامت مخابرات النظام بتشكيل مراكز مالية وسياسية وإعلامية متمرسة في الخارج. وهي تعمل على خطين، الأول علني لكنه يعمل تحت أقنعة تظهره بمظهر المختلف، والثاني سري يعتمد مفهوم الخلايا النائمة التي يتم تحريكها وفق الحاجة والضرورة. باشر الأول عمله قبل سنوات من الحرب الأخيرة. وهو يتمثل بعدد من الفضائيات والصحف التي لم تعد تخفي هويتها وهدفها، بالإضافة إلى عدد من التنظيمات السياسية العراقية الهامشية التي ظلت على الدوام تدعي ( معارضتها ) للنظام، وكل منها يتكون من أفراد معدودين غالبيتهم من الشيوعيين أو القوميين السابقين الذين أسقطتهم أجهزة الأمن والمخابرات في فترات سابقة، ورحلتهم إلى الخارج لاختراق المعارضة العراقية أو إرباك عملها. وهم دعوا دائماً للصلح مع النظام ( تحت راية الديمقراطية الخفاقة ) باعتبار ذلك هو الحل الوطني لدرء مخاطر وقوع الحرب الامريكية وتقسيم العراق والاعتراف بإسرائيل ومدها بالنفط العراقي وما إلى ذلك من مزاعم أثبت الواقع بطلانها، كل هذا كي يبرروا رفضهم لمبدأ إسقاط النظام الذي تبنته المعارضة العراقية، وهذه هي مهمتهم الأساسية. ونجد من المفيد هنا إيراد تفاصيل حول بعض هؤلاء، فهم يتوزعون بين باريس ولندن وهولندا وجنيف والسويد والنروج، وقد ذهب بعضهم فعلاً وعلانية إلى بغداد قبل الحرب بشهور، وبشروا باقتراب ( التغيير الديمقراطي ) وشتموا المعارضة ( العميلة )!! بينما بشر أحدهم آنذاك، من باريس، بأن تغيير وزارياً سيحدث، ولمح إلى إنه سيكون رئيس الحكومة الجديدة!! هذا الشيوعي السابق كان قد شكل، بعد إسقاطه في ( مديرية الأمن العامة ) مطلع السبعينات، حزباً تابعاً للمديرية المذكورة، اسـمه ( الحزب الماركسي اللينيني ) هدفه استيعاب المنشقين عن الحزب الشيوعي الرسمي وبقية اليساريين الذي ارتفعت وتيرة نشاطهم في تلك الفترة، لكن أمره فـُضح حينها فتم ترحيله إلى لبنان ثم باريس، وهذا الشخص أشار إليه طارق عزيز، خلال آخر زيارته لباريس قبل سقوط النظام، بقوله ( من يريد التفاوض مع النظام عليه أن يأتي عن طريق فلان ) وسماه باسمه طبعاً. وكل هذه وقائع منشورة في الصحافة ومثبتة. وهناك ملفات كثيرة أهم وأخطر تنتظر الكشف عنها بعد استتباب الوضع الجديد في العراق.

إن هؤلاء المهرجين ما زالوا يواصلون ( نضالهم القومي ) عبر فضائيات وصحف معروفة الهوية كما صارت تستخدمهم أنظمة عربية معادية للعراق الجديد. وهم أيضاً يستغلون الهامش الديمقراطي لبعض مواقع الانترنيت العراقية الوطنية، وأصبحوا بعد سقوط النظام لا يتوانون عن شتم الديكتاتورية وجرائمها!! وهذا ( المبدأ ) مباح في حزب البعث في ظروف ( النضال السلبي ) أي شتم الحزب أو قيادته من أجل ( مواصلة النضال ).

وكل هذه الأطراف تركز الآن على دعم ما يسمى ب ( المقاومة العراقية الشريفة ) وتبرير جرائمها، ودعم أي نشاط من شأنه عرقلة عمل السلطة الجديدة وتشويه سمعة الحركة الوطنية عموماً، وكل هذا باسم الوطنية!! ما يذكرنا بمقولة بن جونسون العميقة: ( الوطنية هي آخر ملاذ للأنذال ).

كل هذه الجماعات والصحف والفضائيات والجماهير المغفلة التي تصدقها، ورغم أن هدفها أصبح واضحاً، وهو المساهمة السياسية في عرقلة المشروع الديمقراطي وتبرير جرائم قوى الإرهاب والتخريب، وإعلامياً تضليل الرأي العام العربي عبر الترويج للطائفية وتسويغ احتمالات الحرب الأهلية، ومحاولة خلق ( واقع عراقي ) آخر لا علاقة له بما يجري من تحولات مختلفة منذ سقوط النظام. نقول رغم كل هذا فإن هذه الجماعات لم تعد مهمة جداً، خاصة بعد أن أصبحت مكشوفة وبمثابة أوراق محترقة بفضل الجهد الإعلامي الكبير والمؤثر الذي أبداه العشرات من المثقفين والإعلاميين العراقيين في الخارج، وهم في الغالب مستقلون أي غير مرتبطين بأي حزب من الأحزاب، وهذه ظاهرة جديرة بالتأمل. وعلى كل حال فإن تلك الجماعات المشبوهة قد استنفذت دورها وستنـتهي عما قريب. لكن الأخطر من ذلك هو الجوانب المستترة في المشروع الصدامي أو البعثي حتى لو اضطر إلى تغيير قناعه السياسي، إذ بدأ يدفع للواجهة وبالتدريج بعض عناصره من ( الخلايا النائمة ) خاصة مع بدء محاكمة صدام، والمرجح أنه سيستمر حتى بعد إعدام صدام. ويمكن اعتبار دعم النظام السوري للجماعات الارهابية وأيتام النظام السابق وبقايا ( التيار القومي ) و( مبادرة ) بعض المحامين العرب ونقابة المحامين الأردنيين لحشد مؤسسات عربية ودولية للدفاع عن صدام حسين!! بمثابة خطوات واضحة الهوية، ونشاط ملموس للمؤسسات الصدامية الإعلامية والمالية، وإلا من سينفق على كل هذه الجهود؟! ومن يصدق أن محامياً أردنياً واحداً مستعد لترك عمله والدفاع مجاناً عن صدام حسين؟! وفيما يخص نشاط هؤلاء، ليس من الصحيح هنا تذكيرهم بالقيم والأخلاق، لأن أزمة الأخلاق لا تحدث إلا عند حامل الأخلاق، ولا يمكن أن تحدث عند من باعوا ضمائرهم من زمان مقابل الصمت عن كل ما تعرض له الشعب العراقي من ويلات ومآسٍ، ناهيك عمن يعتقد أساساً أن الحديث عن القيم الإنسانية هو حديث فارغ ولا قيم له في الواقع!!
إذا كانت أجهزة النظام قبل سقوطه تتحفظ على العلاقات المباشرة مع مراكز الارهاب السلفي التكفيري كي لا تتحمل مسؤولية دولية، فإن هذا التحفظ قد سقط مع سقوط النظام، لذلك انفتحت أبواب الأوكار الحزبية البعثية داخل العراق لإستقبال المزيد من الإرهابيين المحترفين وكذلك حثالات المجتمعات العربية التي لا تجد طريقة للهروب من عجزها وإنحطاطها الأخلاقي إلا بقتل المزيد من الأبرياء والعزل عبر العمليات الإنتحارية، وبموازاته أصبح التنسيق في أعلى مستوياته بين البعثيين والإرهابيين خارج العراق.
أن عدم الكشف عن الهوية السياسية لما يسمى ب( المقاومة العراقية ) ومصادر تمويلها، هو أحد أوضح الأدلة على ما نقول. وتجمعات الدبلوماسيين ورجال المخابرات السابقين، وتواجدهم وعيشهم في بعض الدول العربية، هي مؤشرات على ذلك. وإلا كيف يمكن أن نفسر الوقاحة واستمرار الحماس الذي يبديه إعلاميون عرب وكتاب معروفون، سواء في الدفاع عن النظام السابق أم تبرير المقابر الجماعية والجرائم الجديدة لما يسمى بالمقاومة، أو خلط الأوراق في عملية مفضوحة؟! هل يمكن أن يتم كل ذلك دون كلف باهظة ومصادر إنفاق؟! هل يمكن أن يتحمل أحد مسؤولية الترويج لكل هذه الأباطيل دون ثمن حقاً؟!
إن الوقائع ستكشف لاحقاً عن طبيعة المراكز المالية والمخابراتية والإعلامية التي أسسها صدام حسين خارج العراق ودعم النظام السوري والمنظمات الارهابية لها. أن أسراراً كثيرة في هذا الشأن سيحتاج الكشف عنها المزيد من العمل من قبل النظام العراقي الجديد لفضح امتدادتـها والمتورطين فيها، فما حدث في العراق قبل 9 ndash; 4 ndash; 2003 وبعده، هو أن عصابة القتلة التي كانت تحكم العراق من خلال الدولة وأجهزتها، تم إسقاطها بمعنى واحد، هو إخراجها من الدولة، لكن الأجهزة السرية التي لم يلق القبض على أكثرية عناصرها بعد، تعرف أنها مطلوبة للعدالة وليس لها خيار سوى الاستمرار في أعمال الإرهاب والتخريب بانتظار العودة إلى السلطة!! لكن هذه القطعان المنفلتة التي تجمع القسوة المطلقة إلى جانب الصفاقة وانعدام الضمير، لم تستطع أن تُدرك بعد نوعية وحجم التغيير الذي حدث داخل العراق وخارجه، ولن تستطيع أن تدرك بأن عودتها الوحيدة ستكون إلى جهنم وبئس المصير، فما يتجنب ذكره الإعلام العربي دائماً هو تلك الأنتصارات الكبيرة التي تحققها وزارتا الدفاع والداخلية يومياً على مواقع الأرهابيين حيث يتم اعتقال العشرات وأكتشاف مخابيء أسلحتهم ومراكز ارتباطاتهم.
أن الأرهاب يتلقي باستمرار الضربات الموجعة ولذلك يزداد همجية وعشوائية كلما اقترب من مصيره المحتوم وستكون نهايته أقرب مما يتوقع الكثيرون.