معاناة الكُتاب مع الرقابة في الصحف صداع لا ينتهي، وقصة لا تُختم إلا لتبتدى... إنها مصارعة إدخال الجَمل، وليس الجُمل في بياض الورق، وبطون الصحف!
يقولون لك: لا تكتب في هذا الموضوع، ولا في ذلك، ولا في ما بينهما من موضوعات، لأن هناك إيعازاً من المسؤولين بإقفال الموضوع!!! ولا يخفى على القراء أن كلمة إيعاز quot;مفردة يصعب تؤكيدها بنفس القدر الذي يصعب فيه نفيها!quot;
تسأل عن الممنوعات، أو الموضوعات التي يُحظر الكتابة فيها فتجدها طويلة مديدة عريضة، لذا من الأسهل والأفضل أن تسأل عن المجالات التي يسمح الكتابة فيها، وهنا يأتي الجواب!
أكتب عن الخطوط السعودية، ولكن لا تنتقد الأسعار أو مواعيد الطائرات التي تتأخر، بل حاول أن تنتقد المضيفين والمضيفات، وتبلدهم، وكسلهم، ولا تنسى أن تطالب بعودة quot;بسعودة المضيفين الجويينquot;، ولا تذكر عمل المرأة بوصفها مضيفة، فهذا يسبب لنا إحراجاً مع بعض الجهات الشرعية!
حسناً ماذا أيضاً؟! يقال لك- يا أخي أكتب عن المجاري، ولكن لا تنتقد المسؤولين، بل ركز على هموم المدينة- أي مدينة- في ظل غياب الصرف الصحي، ولتكن كتابتك غير ضرورية عن أناس غير ضروريين!
كما يمكن أن تكتب عن quot;النصب في بطاقات سواquot; ولكن لا تذكر اسماءً لأن ذلك لا يخدم القضية! بل تحدث بشكل عام، وليكن كلامك بوصفه كلاماً ساكتاً لأناس ساكتين، فالنبي صلى الله عليه وبارك يقول: quot;لا ضرر ولا ضرارquot; ثم ماذا، أيها الرقيب الفاضل، ماذا تريد من القلم أن يكتب؟
اكتب عن إدارات التعليم، ولكن في مجال المديح والثناء، لأن منسوبي الصحف غالباً ما يحتاجون هذه الإدارات ولا تريد أن تكون على علاقة متوترة معهم، وإذا كان لا مفر من النقد لهذه الإدارات فإتبع الأثر البنوي القائل: (سددوا وقاربوا)، وأتحدى أي رقيب يعطي تعريف محدداً لمفهوم التسديد والمقاربة!
احذر- ثم احذر، ثم احذر أن تنتقد مدارس تحفيظ القرآن، أو القضاء، أو الرئاسة العامة لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن ذلك لا يخدم الصحيفة quot;أي صحيفةquot;، كما أنه لا يخدم المصلحة quot;العامةquot;، ويثير البلبلة ويجلب من المتاعب أكثر مما يمنح من المكاسب، لذا إبتعد أيها الكاتب عن نقد هذه الأجهزة من باب أن سد الذرائع أولى من جلب المنافع!!!
ويؤكد الرقيب أنه يسمح للكاتبndash; أن ينتقد وزارة العمل، ولكن من زاوية واحدة وهي محاولة الضغط على الشركات لتوظيف السعوديين، ولكن لا يتعرض لظاهرة كثرة الخدم، لأن ذلك مسائلات للجريدة هي في غنى عنه!!!
وكن على علم بأن نقد الجمعيات الخيرية أمر غير quot;لائقquot; لأنه قطع للخير وخدمة للتوجهات الغربية!
ثم لا تنسى أن نقد الإعلام والرقابة والمطالبة بالحرية يزعج المسؤولين، لذا حبذا لو ابتعدت عن مناطق الإزعاج وبؤر التوتر، خاصة وأن مثل هذا الإنزعاجات كثرت، الأمر الذي جعل البعض يفكر في إستحداث منصب وكيل الوزارة لشئون المنزعجين، مهمته إستقبال إتصالات وكلمات المتضايقين والمتبرمين وأهل الإنزعاج وإمتصاصها وإستيعابها ومحاولة إيجاد تبريرات وخلق تطمينات وإبتكار أعذار لهفوات الكتاب، وهذا كله يجعل المسؤول يستقر ويهدأ ويطمئن بأن الأمور على ما يرام!!!
وهنا قال الرقيب: إنني أتعجّب منكم- معشر الكُتاب- إنها فرصة لكم لتكونوا عالميين، اتركوا quot;تفاصيل الحياة البسيطةquot; والهموم المحلية، واتجهوا إلى الكون كله، فالعالم الإسلامي يئن من جراحاته، ويرزح تحت ظلم أعدائه!!! لٍمَ لا يكون الواحد منكم أُممياً واسعاً في تفكيره، هائماً في أفلاكه، وطائراً في فضائه- أين أنتم من شتم أمريكا؟! كيف تغضون الطرف عن quot;سجن جوانتامواquot; هذا العهر الأمريكي القبيح!؟
أين أنتم من قضايا المسلمين في كشمير وفي الشيشان وفي ساحل العاج وفي شرقي نيبال والجرحين القديمين في فلسطين والعراق!!!؟
عليكم بتوزيع اللعنات على الغرب، اشعلوا quot;نظرية المؤامرةquot; وعلموا المواطن الغلبان لينسى جراحه، وليتناسى أتراحه، وليفكر ملياً في آلام أمته وهموم ملته، ليعلم أنه مستهدف، وأن القوم- كل القوم- متربصون به!!!
أيها الكتاب طالبوا من المواطن أن ينزع رأسه المهموم بحياته اليومية، وليدفنه في أوجاع ومأسي أمته، فمن يعرف مصيبة غيره تهون عليه مصيبته، وأثبتوا أن الوطن والمواطنة رجس من غمل الشيطان، ومستحدثات تآمرية زرعها الإستعمار ليذيب الروابط الإسلامية لصالح الأوطان الصغيرة، والبلدان المتناحرة، وأكدوا على مفهوم البيت الشعري القائل:
أبي الإسلام لا أبَ لي سواه
إذا أفتخروا بقيسٍ أو تميمي!!!
ليكن توجهكم ووجهتكم وإتجاهكم وتوجيهكم أُممياً، وإعتبروا أن تعثر أي بغلة في كردستان أو الشيشان أو الدار البيضاء أو الدار الصفراء، من صميم إهتمامكم، ولا تلتفتوا للسياسة الوطنية القائلة أننا لا نتدخل بشؤون الآخرين، كما أننا لا نرضى للآخرين أن يتدخلوا بشؤوننا، فهذا كلام سياسياً لا كلام مثقف ومفكر، وما يُلزم السياسي ليس بالضرورة يلزم المثقف.
تناسوا أيها الكتاب الآثر النبوي القائل: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) فهذا أثر يذوب في مفهوم آخر مفاده أن quot;من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهمquot;، انسوا قضاياكم البسيطة، فالحياة الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، اكتبوا شتماً في الغرب، وأوسعوهم ركلاً وإتهاماً وإدانة، لن تجدوا- عندها- أحداً يحاسبكم، فهؤلاء كفار، والكافر حلال الدم مباح النفس، ومهما قال وسيقول فهو من الكاذبين، ومهما قلتم وستتقولون فأنتم من الصادقين فالمسلم لا يكذب، وإن حدّث أو كتب صدق، فاشتموهم قاتلهم الله أنّا يؤفكون!
[email protected]