ليس من عادة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي تفجير مفاجئات من أي نوع في خطاباته، التي اعتاد على إلقائها في المناسبات الوطنية، كعيد الاستقلال أو الجمهورية أو ذكرى وصوله إلى السلطة يوم السابع من نوفمبر من كل سنة، على امتداد عقدين من الزمان، وذلك على غرار رؤساء عرب كثر، لا يجدون حرجا في الخروج عن النص وإدخال بعض الطرافة على أحاديثهم إلى شعوبهم، ولم يكن لاستثنائية الحدث التونسي هذا العام، حيث تحتفل تونس بالذكرى العشرين للتحول، أي شفاعة أو تأثير على السيرة الرئاسية، إذ حقق الخطاب العشرين التوقع، ولم يخرج بالتالي عن المألوف أو المتوقع. أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
قبل دقائق من بدء بث خطاب الرئيس بن علي على شاشة القناة الفضائية التونسية، قلت لأبي، وقد كنا ننتظر الخطاب في جلسة عائلية، أن الرئيس سيعلن عن إجرائين إثنين عندما سيتطرق إلى مسألة الإصلاح السياسي، أولهما الترفيع في المنحة المالية المعطاة من خزينة الدولة لصالح الأحزاب السياسية المعترف بها، وثانيهما زيادة حصة أحزاب المعارضة (المعترف بها دائما) في البرلمان، وعندما بدأ الرئيس فعلا الخطاب وأعلن عن الأولى، قلت لوالدي في ثقة تامة، انتظر قليلا سيعلن حتما عن الثانية.
وقد تذكرت بهذا الصدد، حديثا دار بيني وبين أحد السياسيين التونسيين المعارضين قبل سنوات، اتفقنا فيه على أن الشأن السياسي التونسي غير قابل للخضوع للتحليل السياسي، لكن الأيام قد دارت فيما يبدو، وبعد عشرين عاما من وصول الرئيس بن علي إلى السلطة، أصبح بمقدور المحلل السياسي أن يتنبأ ولو قليلا، بما يمكن أن يقدم عليه النظام الحاكم في تونس، أو الأحرى بأقصى ما يمكن أن يقدم عليه في هذا الوقت بالذات، وضمن الظروف المحلية والإقليمية والدولية القائمة حاليا.
في الصحف الصادرة خلال اليومين التاليين على خطاب الرئيس بن علي، نشر للوزير وفقيه القانون الدستوري الدكتور زهير مظفر، تعليل طريف (ومضحك نسبيا) يعلل فيه إقصار المنحة المالية الحكومية على الأحزاب المعترف بها والممثلة داخل البرلمان، بأن المال العام يجب أن يذهب إلى الهيئات الحزبية التي تتمتع بحد أدنى من المصداقية الشعبية، ولا أحسب عالما بالشأن السياسي التونسي، مهما كان متواضع المعرفة مثلي، يرى أن الحزب الاجتماعي التحرري مثلا، الممثل في البرلمان حتما، والذي سيتمتع بالكرم الحكومي، هو أكثر شعبية ومصداقية من الحزب الديمقراطي التقدمي بقيادة مي الجريبي، أو حزب التكتل من أجل العمل والحريات بقيادة مصطفى بن جعفر.
خطاب الرئيس بن علي جاء كعادة خطاباته السابقة، مليئا إلى حد التخمة بالإحصائيات والأرقام، خصوصا في مستهل فقراته التي منح فيها الأولوية للشأنين الإقتصادي والإجتماعي، ومع تقديري الكبير لهذه السنة الحسنة التي استنها الزعيم التونسي، والذي اعتبر فيها مجمل شعبه في مستوى ثلة مميزة من الخبراء والمثقفين القادرين على فهم نسب التضخم وعجز الموازنة ومعدلات الفائدة وغيرها من المصطلاحات العصية على فهم محدودي المعرفة من أمثالي، فإن المنتظر لدى عموم المواطنين التونسيين في مثل هذه الذكرى الهامة من تاريخ دولتهم المعاصرة، كان حديثا سياسيا أكثر بساطة ومباشرة، عن قضايا مستقبل نظامهم السياسي، ومكافحة البطالة والهجرة السرية، و التصدي للفساد، وكيفية التعامل مع الأحزاب والحركات السياسية المحظورة، وفي مقدمتها حركة النهضة الإسلامية وحزب العمال الشيوعي التونسي وحزب تونس الخضراء، فضلا عن قضايا العفو التشريعي العام وإخلاء السجون التونسية من سجناء الرأي والسياسة وتحرير الصحافة من الرقابة الفعلية لا القانونية والإدارية.
الرئيس بن علي الحريص بشكل فائق على أناقة مظهره، بل حتى أناقة القاعة التي يلقي فيها خطابه، وأناقة الحاضرين الذين قدرت بعض المصادر عددهم في حدود العشرين ألفا، غالبيتهم من قيادات الصفوف الأولى لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم (أكبر حزب في العالم من حيث عدد الأعضاء قياسا بعدد سكان البلاد)، رأى دائما في أي حديث عن القضايا آنفة الذكر، مؤشرا ممكنا على ضعف النظام ونقطة قد تمس بهيبة الدولة، وهو ما دفعه باستمرار إلى تجاهل الحديث العلني عنها، وعدم التطرق إليها إلا من خلال تلميحات طفيفة متقطعة، كالتي وردت في خطابه العشرين، والتي أكد من خلالها مجددا أن رحلة تونس مع التنمية متلازمة المسارات مستمرة، وأن نظامه ثابت الأركان قوي لا يتزعزع و لا يأبه لانتقادات الحاقدين والمفلسين.
وقد أعلنت بعض منظمات المجتمع المدني ليلة الخطاب، إقدام السلطات التونسية مشكورة على إطلاق سراح مجموعة صغيرة أخرى من سجناء حركة النهضة، من بينهم القيادي البارز في الحركة الإسلامية التونسية المهندس عبد الكريم الهاروني، الذي قاربت فترة قبوعه في السجن فترة حكم الرئيس بن علي نفسه، وهو ما يعني أن المتبقين من السجناء الإسلاميين عادوا قلة قليلة جدا ربما لا تتجاوز العشرين، غير أن الرئيس التونسي لم يرى في الأمر ما يرقى إلى الذكر في خطاب رئاسي.
و نظام الرئيس بن علي يرفض الاعتراف بوجود سجناء سياسيين، حتى أن وزير العدل البشير التكاري ndash; الذي ينظر إليه غالبا كملكي أكثر بكثير من الملك- قد استهجن بشدة في تصريح ليومية تونسية يومين بعد الذكرى، أي حديث عن سجناء رأي أو سياسة، إذ قال quot; ليس لدينا في تونس سجناء سياسيين حتى نقوم بإطلاق سراحهمquot;، ولا شك أن البعض سينتظر طويلا حتى يقلب التاريخ صفحة ويفتح صفحة، فيطيل الله في عمر الوزير العتيد ليجيب لاحقا عن نفس السؤال بنفس نبرة الولاء الحادة التي عرف بها، وقد ثبت أن أكثر الساسة ولاء أكثرهم تقلبا وانصرافا عن الوفاء عندما تغيب المصلحة ويلف العهد النسيان.
من الأمور اللافتة في خطاب الرئيس بن علي الأخير أيضا، اصطحابه لعائلته الصغيرة، ممثلة تحديدا في زوجته السيدة ليلى بن علي، التي تتحدث أوساط كثيرة عن تعاظم دورها السياسي والاقتصادي، بما يذكر نسبيا بحضور الماجدة وسيلة زوجة الزعيم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة مؤسس الدولة التونسية المعاصرة، وكذلك لابنته الثانية من زوجته الثانية، وهي شابة جميلة وأنيقة، ركزت على وجهها كاميرا التلفزيون الرسمي أكثر من مرة، وهي تجلس بثقة وأدب جم خلف والدها وإلى جانب والدتها وعدد من أركان العهد الجديد، ولعلها إشارة من الرئيس التونسي إلى ما تضطلع به العائلة من مكانة لديه.
وقد جاءت نبرة الرئيس بن علي الخطابية هذه المرة أكثر سرعة من المعتاد، وأكثر ثقة أيضا، كما كانت أساريره أكثر انفراجا وتعبيرا عن الفرح، فيما جاء تعامله مع جمهور الحاضرين أكثر مرونة وتلقائية وخروجا محدودا عن النص من خلال تكراره عبارة quot;بارك الله فيكم، تفضلوا (بالجلوس)quot;، فقد اعتاد التونسيون على نبرة أكثر صرامة وتعامل أكثر جدية من رئيسهم، وهي إشارات طمأنة من الرئيس ربما، على أن لقياته البدنية وحالته الصحية والمعنوية بأحسن أحوالها، وأنه ما يزال الرجل القوي القادر على التحكم بالكامل، وعلى غرار العشرين عاما الماضية، في شؤون الحكم في بلده ومواجهة تحدياته المتناسلة.
خطاب الرئيس بن علي لم يخلو كذلك من نزعة عاطفية، أعلن من خلالها عن تكريم الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، وعن وقوف نظام الحكم التونسي إلى جانب الشعبين الفلسطيني والعراقي في سعيهما إلى التحرر من الاحتلال ونيل الحقوق المشروعة، وهي نزعة يدرك الرئيس التونسي ومستشاروه، مدى تأثيرها على شعب يشكل جزءا من محيط عربي إسلامي، تغلب على وجدانه الشعارات الكبرى، وتدغدغ مشاعره قصص حملات التضامن والوحدة، بصرف النظر عن كيفية تطبيقها أو تحقيقها على أرض الواقع.
ثمة إشارة لا مناص من ذكرها كذلك، تكتسي برأيي أهمية بالغة، خصوصا بالنسبة للتونسيين، وهي إقدام الرئيس بن علي على تأكيد المرجعية البورقيبية للدولة التونسية المعاصرة، حيث أتى على ذكر إسم الزعيم الرئيس بورقيبة مرتين في خطابه، الأولى في المقدمة والثانية في الخاتمة، وهي إشارة تتضمن بعض المراجعة لتوجه السياسي برغماتي أراد في البداية التميز عن عهد سابق فقد بعض بريقه وعد في حينها بائدا، لكنه عاد مجددا إلى الاستناد إليه بعد أن بينت السنوات اللاحقة أنه كان عهد بناء وخلق الأسس الكبرى للنظام والدولة، وأن ما أقيم وسيقام، لا يعدو أن يكون إلا إتماما لمسار وسيرا على خطى زعيم أمة استثنائي، هو الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جنانه.
وأظن مع كثير غيري من التونسيين، أن ميثاق السابع من نوفمبر 1987، الذي تضمن كثيرا من طموحات النخب التونسية، في إرساء حياة سياسية ديمقراطية ذات مصداقية، يمكن اعتباره مكملا للمرجعية البورقيبية، بما يجعل مساءلة عهد الرئيس بن علي حول مدى ما تحقق من هذه الطموحات المعلنة والموثقة فيه، مساءلة جدية وصارمة، فقد قيل قبل عشرين عاما أن لا مجال لرئاسة مدى الحياة، وأن لا مجال لنظام الحزب الواحد والشخص الواحد، كما قيل أيضا أن الشعب التونسي قد بلغ مستوى من النضج يؤهله لممارسة سياسية راقية، ولكي تتداول نخبه وأحزابه وزعماؤه على السلطة.
إن للاستقرار السياسي الذي عاشته تونس خلال العشريتين الماضيتين، فضلا عن نسب النمو الاقتصادي والاجتماعي المحترمة التي تراكمت باضطراد، دور في جعل التونسيين مؤهلين اليوم أكثر من غيرهم لحياة ديمقراطية متطورة، قائمة على قيم احترام القانون والولاء للوطن والقدرة على تحقيق التوافق حول الخيارات الكبرى. ولا شك أن رجلا قويا قادرا على تجنيب البلاد شرور المجهول والفتن، لو أنه قرر وضع قاطرة بلده أكثر على سكة الإصلاح السياسي الحقيقي، على نحو ما فعل رجال آخرون محترمون في دول أخرى مجاورة، لم ينصتوا إلى نصائح المنافقين والمطبلين والمزمرين الذين سيكونون أول المنفضين.
إن ما دفعني إلى توقيع هذه القراءة من تونس بالذات، ليس سوى رغبة شخصية في التعبير عن قناعة عميقة مزدوجة، مفادها أن ما أعلن عنه الرئيس بن علي في خطابه من إنجازات هو في مجمله حقائق ملموسة، يفتخر أي تونسي وطني بتحققها ولا ينكرها غير جاحد أو مزايد أو مكابر، في محيط عربي إسلامي مأزوم في غالبيته، ومفادها أيضا أن المسكوت عنه في خطاب الرئيس بن علي يشكل مجالات فشل وإخفاق، لا تنقص أبدا من قيمة المعترف بها، وقد كان بالمقدور التعامل معها بطرق أكثر نجاعة وأقل كلفة مادية ونفسية، لأن الاعتراف بوجود قضايا ومشكلات لا يشكل دليل ضعف نظام أو دولة، حتى وإن كانت هذه القضايا من قبيل سجناء رأي أو الترخيص لحزب إسلامي.
أدرك أن خطابا من هذا النوع قد لا يرضي أحدا، فيجلب على صاحبه على ما جرت عليه العادة نقمة هذا وذاك، في ظل عقل سياسي مانوي، جعل السياسة والإعلام مدحا مبالغا فيه، أو شتيمة لا حد لها، لكن رؤيتي الوسطية هي من تجعلني فخورا بإنجازات بلدي على كافة الأصعدة، الاستقرار والأمن والتقدمية التشريعية والاستمرارية التنموية ومكانة المرأة الرفيعة و جودة المرافق التعليمية والصحية والثقافية، و هي الرؤية نفسها التي تدفعني إلى تبني طموح أكبر في تصور وطن بلا تابوهات أو خطابات خشبية أو تقديس للأشخاص مبالغ فيه أو تجاهل لقضايا مصيرية، وهذه الرؤية ليست مفتعلة بغية التمايز، إنما هي رؤية أصيلة الهدف منها الحفاظ على المنجز وضمان مستقبل أفضل يسع التونسيين على مختلف تياراتهم ومشاربهم، ويجعل تونس كما قال الرئيس بن علي نفسه، لكل التونسيين، بعيدا عن أي إقصاء أو تهميش.
* كاتب تونسي
- آخر تحديث :
التعليقات