ليس للأيدولوجيا من عينيْن. وإن كان لها، فعينانِ عوراوانِ، في أحسن الأحوال. (كي لا نقول: عمياوان). ولمَ هذا المدخل؟ وما هي مناسبته؟ أنا مثلكم لا أعرف، لا أعرف الآن على وجه التحديد. وإن كنت أعرف، على الأقلّ، المناسبة. هو مدخلٌ جاءني هكذا، فكتبته. ثم توقفتُ. لم أستطع إضافة كلمة واحدة طوال ساعة من الزمن. وكل ما استطعته فقط، هو السَّرَحَان، ثم المزيد من السرحان حدَّ الغوص في ذكريات أليمة، هي آخر ما تبقى لي من سفرة قديمة إلى العراق.
آنها، في 1998، كان العراق في أوج حصاره الظالم. الأوضاع كئيبة وأغلب العراقيين في فقر مدقع. قبل السفرة، نبهني أحد الزملاء إلى عدم تلبية أية دعوة لزيارة بيت أديب عراقي. استهجنت، أإلى هذه الدرجة! قال: نعم، وغداً ترى وتحسّ وتعرف. وقد كان. رأيت وأحسست وتعرّفت، كما لم أتمنَّ لأحدٍ أن يحذو حذوي.
كان أول مَن نبهني إلى عمق المأساة، بعد وصولنا، مثقف عراقي نبيل وصامت، هو القاص: زعيم الطائي. أذكر كلماته إلى اليوم: لن تعرف حقيقة البلد من نوافذ الفندق، فكل شيء ههنا يلمع ويبرق. إذا أردتها، فانزل إلى الأزقة والحواري الخلفية في بغداد.
ونزلت، وكانت عشرة أيام كافية لأحمل وزر وعبء المعرفة. ولأعرف، لا حقيقة أوضاع العراقيين فحسب، بل حقيقة _ وهذا هو الأهم _ نظام البعث الحاكم، وما جرّه على العباد والبلاد من سواد.
رأيت أدباء محترمين، تتلمذنا ذات يوم على أيديهم، وكنا نتمنى رؤيتهم، وهم يشترون سجائرهم بالسيجارة لا العلبة. فمن هو القادر على ثمن العلبة وثمنها أكثر من راتب شهر كامل؟ ورأيت مدرّسين قضوا في الخدمة ثلاثة عقود، وراتبهم الشهري لا يشتري قميصاً ولا رطل موز.
ورأيت ورأيت حتى بكيت على جُملة لإبراهيم أصلان تذكّرتها في واحدة من قصصه [.. إنني أرى تماماً، وهذا هو الشيء الوحيد الذي يؤلمني). فإذا حانت ساعة العودة لبلدي، عدتُ وقد تلّبستني نوبةُ اكتئاب واعتزال دامت ثلاثة شهور.
لمَ هذا الكلام الآن؟
لأنّ حاضرنا الغزي في هذه الأيام أشبه ما يكون ببارحة العراق. ولأنّ التاريخ، كما يقول ماركس، حين تتشابه أحداثه، فهو يأتي بها مرة على شكل تراجيديا وأخرى على شكل ملهاة.
غزة محاصرة، ذلك الحصار الغاشم، كما كان العراق محاصراً وأكثر. محاصرة، حتى لتبدو وكأنها قفص دجاج بين يديْ جلاّدها الإسرائيلي.
ومحاصرة كما كان العراق بالضبط: أي شعباً لا قيادة. فالذي يعاني الآن هم بالتأكيد غالبية الغزيين، لا قادة حماس. فهؤلاء يأكلون ويشربون ولا شيء ينقصهم. بل هم في أزهى أوقاتهم، حيث تحققَ لهم أخيراً حلمُ عمرهم الكبير بالحُكم والحكم المُطلق.
ومثلما كان نظام طالبان يعتاش على الأفيون، ونظام صدام يهرّب النفط، ويصرف ثمنه على حاشيته: ها هي حماس تدير شبكة واسعة من الأنفاق لتهريب البضائع وأشياء أخرى، من مصر إلى القطاع.
إنها تعمل، كما كان صدام، لا بعقلية رجل الدولة، وإنما بعقلية التنظيم السرّي. تبيع المُهرّبَات بخمسة أضعاف سعرها الأصلي (كونها المحتكر الوحيد لها في السوق)، ومن هذا المدخول الكبير تصرف على قواتها.
فإذا ارتفع ثمن سلعة، في بلادٍ هرطوقية كبلادنا، فلا بد أن تلحقها بقية السلع، في متوالية جهنمية لا أحد يعرف نهايتها. وهذا هو الحادث بالتمام والكمال في هذه الرقعة الصغيرة من العالم: كل شيء ارتفع سعره: من صحن الفول إلى بلاطة الضريح.
لقد ضجّت الناس، لكنّ أذن حماس من طين وعجين. فهي لا ترى غير ما تريد. وإن رأت فبعين عوراء وغالباً عمياء: عين الأيدولوجيا الدينية. إنهم يضعون الحق كله على الحصار الإسرائيلي. وأما هم فلا دخل لهم.
يُقال لهم، ومن عدة أطراف في الداخل والخارج، بأنهم يخسرون من رصيدهم الجماهيري، يوماً بعد يوم. ويوماً بعد يوم، يحشرون أنفسهم، ويحشرون معهم شعبهم في الزاوية، فلا يأبهون.
يُقال لهم إنّ الأوضاع، في قطاع غزة،، تتراجع بسرعة الصاروخ. ويُقصد بالأوضاع، معيشة الناس ومستواهم. إذ ما من مرة، منذ حزيران السابع والستين، وصلت الناس إلى هذا المستوى من الضنك والتقتير والهوان. فالغلاء الفاحش، والحصار، وشُح السلع، بدأت تفعل مفاعيلها. والقيمة الشرائية للشيكل، تهاوت إلى النصف وربما أكثر. بمعنى أن مَن كان راتبه ألفي شيكل، مثلاً، قبل الانقلاب، أصبح راتبه الآن بقيمة ألف شيكل فقط. ما يعني دخول جماهير غفيرة من سكان القطاع، إلى نادي الفقر. وهو دخولٌ مرشّح لمزيدٍ من الاتساع في المستقبل. ذلك أنّ إسرائيل، بحصارها المُحكم، وبغباء حماس الذي مكّن لها، آلت على نفسها، كما قال أحد قادتها، أن تحوّل معظم أهل القطاع، إلى معدمين (لا نقول فقراء، بل معدمين، ونقصد الدقة في التعبير والتوصيف).
إننا الآن نشهد إنزياحات في التراتب الاجتماعي والاقتصادي، حيث تكاد تهبط شريحة صغار الموظفين، وهي أكبر وأوسع شريحة في غزة، إلى ما هو متاخم لخط الفقر. فإذا أضفنا لهؤلاء، شريحة أخرى مركزية، هي شريحة العمال، التي لا تجد ما يقيم الأود، منذ بدء انتفاضة الأقصى عام 2000، نعرف مقدار وحجم الكارثة التي تنتظرنا في الأفق!
إنّ قطاع غزة كله، سيتحوّل، في مدى زمني قصير أو متوسط، إلى منطقة كفاف: منطقة منكوبة في رزقها ولقمة عيشها، كما في مئات التفاصيل اليومية الصغيرة. ما يُحيل حياة مواطنها البسيط، كل صباح، إلى جحيم.
هذا من ناحية العيش، فماذا عن نواح أخرى، كالشلل التامّ في حركة العمران وبوار المنتوج الزراعي وبطالة خريجي الجامعات ومنع السفر عن الطلبة ونفوق المرضى على الحواجز، وسوى ذلك مما نعرف وتعرف حماس.
وماذا هي فاعلة وماذا فعلت للتخفيف عن الغالبية العظمى من الشعب؟ للأسف، لم تفعل حتى الحدّ الأدنى المستطاع، ولو من قبيل مراقبة الأسعار لدى التجار، وتعميم سعر واحد للسلعة ذاتها في مختلف الأماكن. وليس هذا فحسب، بل هي ساهمت في الكثير من معاناة الناس، وبخاصة حين دخلت كطرف رئيسي شبه وحيد، في عمليات التهريب عبر الأنفاق. فالسجائر التي تشرف على تجارتها، مثلاً، ارتفع ثمنها إلى خمسة أضعاف وأحياناً عشرة. حتى صارت السيجارة في يد المواطن، رمزاً للمباهاة والزهو، فمن هو القادر على شراء التبغ المصنوع؟ إنهم قلّة فقط. أما الأغلبية فعادوا إلى تقاليد آبائهم وأجدادهم، في تدخين التبغ اليدوي، بنوعيه الشامي والعربي (بلغ سعر الأوقية من النوع الأول قرابة العشرين دولاراً، ومن الثاني قرابة العشرة) أي عادوا إلى زمن السيجارة اللّف! فإذا أشحنا النظر عن هذه السلعة التي تبدو ترفاً للبعض، في حين أنها من الضروريات لغالبية المدخنين، وهم كُثر وكثر جداً في القطاع، ونظرنا إلى جوانب أخرى من حياة الغزي فماذا نرى؟ نرى عودة شبه جماعية إلى نمط الحياة في خمسينات القرن الماضي: النمط البدائي الزراعي للاجئين والقرويين. فالناس، وبأعداد لا يستهان بها، عادت ههنا إلى فرن الطابون ذي الخشب والحطب. والناس ههنا، عادت إلى ترقيع الملابس القديمة والأحذية القديمة. والبعض منهم عاد للتسوّل والنبش في المزابل.
كل هذا يحدث، وحماس ترى وتغضّ النظر. فهمّها الأول هو الحكم والسيطرة. أما أن يعاني الناس معاناة مجانية هكذا، فلا بأس. لديها ترسانات من التبرير والتعزيز الديني. وكلها ترسانات لا تمت للغة السياسة المعاصرة بصلة!
فإلى متى؟ ونحن من يسألها هذه المرة: إلى متى المكابرة وإلى متى الهروب إلى الأمام؟ إذا كان كل هذا الخراب قد حصل في ستة شهور، فماذا لو يستمرّ الحصار لسنوات؟
أما آن الأوان حقاً، للمراجعة والنقد الذاتي؟ أما آن الأوان للتيار العقلاني في صفوفكم أن يقول كلمته؟ ستة شهور مضت على انقلابكم، مسستم خلالها مصالحَ الناس في العصب. وحين تخسر الناس مصالحها، لن تغفر لكم.
إنّ إسرائيل ذاهبة في حصارها إلى درجة الخنق والسحق. وأنتم ليست لديكم من أوراق ضغط عليها، لكي تتصدّوا لها، فماذا أنتم فاعلون؟
ماذا أنتم فاعلون غير ترديد معزوفة quot; الصمود quot; و quot; صبر ساعة quot;؟
وغير الارتهان إلى صقوركم من أمثال الزهار وسعيد صيام؟
حقاً: ليس للأيدولوجيا من عينيْن. وإن كان لها، فعينان عوراوان، في أحسن الأحوال. (كي لا نقول: عمياوان). ولمَ هذه الخاتمة؟ أنا مثلكم أعرف، وأعرف الآن على وجه التحديد!
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات