منذ مطلع صباي الباكر كنت مولعاً باسم quot;ضياءquot; لأسباب تخصني، وفي كل خطوة حملتني إلى دروبها الأقدار، كانت هناك إرادة عليا تجعلني أزداد هياماً صاخباً حيناً، وصامتاً أحياناً ، بهذا المعنى والاسم بكافة مشتقاته وجذوره اللغوية، ولعل آخر تلك الترتيبات القدرية حين رأيت السيد ضياء الموسوي في أحدث حلقات البرنامج الأشهر عربياً quot;الاتجاه المعاكسquot;، الذي يقدمه الصديق النجم فيصل القاسم، عبر فضائية quot;الجزيرةquot; القطرية، ويعده quot;لهو خفيquot; يدعى معن الشريطي، بطل الكواليس المحترف ومهندس الظل الشرير
طاف بي ركب الخيال، حين رحت أتذكر تفاصيل لقائي الأول بالسيد ضياء، وكان ذلك على ضفاف بحيرة زيورخ السويسرية في ليلة صيف ناعمة، حين غادرت الفندق لأمارس هواية التسكع التي أدمنها، وهناك رأيت ضياء، لكن في سمت آخر يختلف تماماً عن ذلك الذي رأيته به في الصباح أثناء جلسات المؤتمر، إذ كان يعتمر عمامة آل البيت السوداء، ويرتدي زي الشيوخ، لكنه مع ذلك راح يتحدث لغة لم نعهدها من هؤلاء الذين لهم هيئته، ولم أكن وحدي المنبهر به، بل شاركني كل الحاضرين الانبهار بلغته ووضوح انحيازه الحاسم لكل ما هو إنساني، بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو جنسه أو عرقه أو أصله أو فصله .
في المساء كان السيد ضياء الموسوي يرتدي quot;البلو جينزquot;، ويجلس وحده على أريكة خشبية أمام البحيرة متأملاً ذلك المشهد الساحر، وما أن تلاقت عيوننا، حتى اندفع كلانا صوب الآخر في عناق حميم، كأننا أصدقاء منذ زمن، مع أنها المرة الأولى التي نلتقي فيها، وإن كنا تلاقينا عبر الورق وساحات الإنترنت .
لا أذكر ما تحدثنا عنه بالتحديد، لكن الانطباع الراسخ في مخيلتي أنه كان حواراً دافئاً حميماً، قطع سنوات من الاقتراب الحذر في ساعات مرت كسحابة صيف، حتى أدركنا الصباح فترجلنا معاً للفندق عبر شوارع نظيفة تفوح منها رائحة الياسمين والندى، وكان يتوقف بين الخطوة والأخرى متسائلاً باستنكار: لماذا لا نصنع أوطاناً كهذه، مع أننا نمتلك كافة المقومات المادية والمعنوية، ثم يستدرك مؤكداً أنه لا يتحدث بدافع الانبهار، فقد طاف أركان الدنيا، لكنه يتحسر غيرة على أمة تستحق حياة أفضل، لو أراد أبناؤها ذلك .
وبعد هذه المصادفة اليتيمة التي جمعتنا، ذهب كل منا إلى حال سبيله، لكن ظل هناك خيط رفيع وإن كان بالغ القوة، فرحت أتتبع مقالاته ومقابلاته المتلفزة وجميع أنشطته، وحتى الكتابات القاسية التي تتربص به وتكيل له أقبح التهم الجائرة، وغالبيتها ـ للأسف ـ تصدر من أبناء طائفته الشيعة، وهذا منطقي، فربما كان الرجل سيروق لهؤلاء أكثر، لو كان يلوك خطاباً طائفياً مازوخياً، يدغدغ به مشاعر المرارة التي تسكن وجدان بعض المأزومين، والتي أتفهم شخصياً دوافعها المتمثلة في تلك المظلمة التاريخية للشيعة العرب، لكن السيد ضياء تجاوز كل هذه المرارات، وقفز على جراح التاريخ لينطلق عبر فضاءات الله الواسعة، التي لا يجرؤ على التحليق فيها سوى أصحاب النفوس الكبيرة .. والقلوب الشجاعة .
شاركني في مشاهدة حلقة quot;الاتجاه المعاكسquot; صديقي د. سيد القمني، وبعين الفضول الصحافي، وزعت عينيي بين الشاشة التي تحمل للملايين صورة ذلك السيد الوسيم الأنيق، وقد بدا شديد الثقة بأن رحمة الله تتسع لكافة مخلوقاته، بينما كانت العين الأخرى تراقب بطرف خفي انفعالات القمني ـ وهو بالمناسبة أحد شيوخ العلمانيين ـ وقد بدا بدوره معجباً لحد الثمالة بمظهر السيد ضياء، وتدفقه في مواجهة شخص آخر اتضح لاحقاً من لغته وأدبياته أنه quot;إخوانجيquot; موريتاني، وكان يتحدث عن البنا وقطب ومشهور والقرضاوي وغيرهم من أقطاب quot;أم الجماعاتquot;، كأنهم من آل البيت أو الصحابة ممن شهدوا quot;يوم بدرquot; .
بعنفوان النهر البكر، وبلحيته المهذبة كمفرداته المنتقاة بعناية، وروحه المتوثبة حتى كادت أن تقفز عبر موجات الأثير، والعمامة التي زانها رأسه، أطل السيد ضياء بخطاب مفعم بالمحبة وبراح المشاعر الناضجة وسعة الأفق، خاصة حين راح يعلن بثقة العارفين وفاة ما يسمى quot;الإسلام السياسيquot;، ويؤبن هذا الفقيد غير المأسوف عليه عبر فضائية quot;الجزيرةquot;، ويبشر الأمة بمولود جميل له عيون زرقاء ـ بالطبع يقصد الإسلام الوسطي السمح ـ الذي يدعو إلى الحداثة باعتبارها quot;فرض عينquot;، ويحرض على التنوير والتسامح بين الأديان والشعوب سعياً للحاق بركب الأمم المتقدمة، ويؤصل فكرياً وفقهيا لدوافع استماتته في الدفاع عن رؤية الإسلام الكونية الرحبة، في وجوه المغيبين والمزايدين، ممن وصفهم الله تعالى في محكم كتابه الكريم بكونهم quot;الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاquot; .
يختصر السيد ضياء الطريق على كلٍ من المعجبين به والمصدومين فيه معاً، حين يكشف في مقال له عن مدى إيمانه الراسخ بحكمة التنوع الكونية قائلاً: quot;مَن ولد في النجف سيكون شيعياً، ومَن ولد في السعودية سيكون سلفياً، ومن ولد في روما سيكون مسيحياً، وما أجمل أن نلتقي على مائدة الإنسانيةquot;rlm;، rlm;ثم يتساءل مستنكراً: quot;هل يمكن أن أرفض إديسون لأنه مسيحي وغاندي لأنه بوذي والأم تريزا لأنها مسيحيةrlm;؟quot; .
ثم يمضي مبشراً بلغة تفيض رقة وعذوبة حين يدعو إلى quot;غيمة تمطر فرحا، لا غيمة تقطر دماًquot;، ويحلم بمواطن يزرع الورد في حديقة الإنسانية ولا يزرع رمحا في رقاب المخالفين، وينثر الزنابق على الشعوب لا يوزع البنادق على الأطفال، فلله دُرّك أيها الرائع ضياء حين يثبت بصلابة أنه من نسل آل البيت الأطهار الذين طالما ضربوا المثل للمسلمين في قدرتهم على التصدي لكلمة الحق مهما كانت ثقيلة وكلفتها هائلة .
باختصار أرى أن السيد ضياء حالة استثنائية وسط مناخ عنوانه الصخب، وفي ساحة عبثية يتمدد فيها الشر كما يتمدد ثعبان في الرمل، وأعتقد جازماً أن الرجل بهذا المثل الحي للتسامح، إنما يقدم خدمة هائلة للإسلام والمسلمين، بضميره اليقظ، وأسلوبه العفّ، وإنسانيته الفياضة، ورفضه الرضوخ للابتزاز .
هاهو السيد الشيعي المعمم يؤكد للجميع بلغة قاطعة أن الإسلام لا يعرف الكهانة ولا الكهنوت، وأن كلاً يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب ذلك القبر، وبالتالي فهو دين ليبرالي بطبيعته، ومن هنا لا يجد الرجل أدنى حرج في أن يزور الكنائس كي يلقي المحاضرات بها عن التسامح والمحبة، ويدافع عن حقوق الأقباط المصريين ويشارك في مؤتمراتهم، ولا يخشى انتقاد بدعة quot;ولاية الفقيهquot;، لأنها من اجتهادات الإمام الخوميني، وليست فريضة أو من المعلوم بالدين بالضرورة، وبالتالي فهي اجتهاد بشري ليس فوق النقد .
ومن دون أدنى مبالغة، فإن لديّ مخاوف مبررة على حياة السيد ضياء الموسوي، من أن تناله يد آثمة في لحظة تفقد فيها صوابها، أو يستغلها شرير محترف، لم يفقد عقله بالتأكيد، لكن ضميره في حالة موت سريري، وعلينا أن نساند هذا النموذج الاستثنائي الرائع بكل ما أوتينا من قدرة على الدعم، لأن التاريخ لن يتسامح معنا لو تركنا أمثال هذا الرجل فريسة سهلة للمأزومين والمتاجرين بالأديان والأوطان، بينما هم في واقع الحال من أكثر الناس عداوة لتلك المعاني النبيلة، ومع ذلك quot;يحسبون أنهم يحسنون صنعاquot; .
والله المستعان
[email protected]