نعم، من كان يتوقع ذلك؛ أن تكون غزة حاضرة في الجامعات الأميركية، وأن يرتفع صوت الطلبة الأميركيين في دعم أهالي غزة والمطالبة بايقاف العدوان عليهم.. الصورة لا تكذب وغزة حاضرة بقوة بالرغم من الرد الأمني العنيف.
سنان أنطون، الروائي والكاتب وعضو هيئة التدريس في جامعة نيويورك واحد من أسماء كثيرة اعتقلتهم الشرطة الأميركية على خلفية الاحتجاجات الطلابية المستمرة في عدد من الجامعات الأميركية، التي انتفضت ضد الصمت الأميركي على حرب الإبادة المستمرة في غزة مطالبة بحظر السلاح على الاحتلال وإنهاء العدوان الإسرائيلي المستمر في قطاع غزة مع دخوله الشهر الثامن على التوالي، واستمرار ارتفاع حصيلة الضحايا والمصابين التي سجلت عشرات الآلاف دون اعتبار لحجم الخراب والدمار.
في مشهد بات يعيد إلى الأذهان ما شهدته الجامعات الأميركية خلال حرب فيتنام قبل ستين عاماً، مع اختلاف مهم هو أن المواقع الاجتماعية في زمن حرب فيتنام لم تكن شاهداً على الفظاعات المرتكبة في تلك الحرب، لكن عدسات المصورين لم تفوت اللقطة التاريخية لطفلة النابالم وهي تهرب عارية من الشظايا التي تلاحقها... وبعيداً عن الانسياق وراء الأوهام بأنَّ المجتمع الدولي صحا أخيراً وبات مستعداً لتحمل مسؤولياته ووضع حد للحرب الهمجية على غزة خلال الساعات القادمة، نقول إنَّ المد التضامني في الجامعات الغربية مع القضية الفلسطينية ومع ضحايا غزة وتحرك النخب أمور بدأت تزعج السلطات الرسمية مع انتشار العدوى في رحاب الجامعات الأميركية بعد الجامعات البريطانية، الأمر الذي استنفر اللوبيات اليهودية ودفعها للتحريض على المشاركين في الاحتجاجات بدعوى معاداة السامية وتعريض حياة الطلبة اليهود للخطر، وهو ما برر لاحقاً دخول قوات الأمن إلى الحرم الجامعي في خطوة غير مسبوقة، وفض تجمعات الطلبة الذين انضموا للنخب الأميركية التي تحركت لرفض ما يحدث في غزة من مجازر في حق الأطفال والنساء والشيوخ وفي حق المرضى والمصابين والأساتذة والباحثين والفنانين والإعلاميين في غزة.. وقد دفع ما حدث الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والمرشح الرئاسي الجمهوري، لوصف ما يحدث بالعار، واعتبار أنه لو كان رئيساً لما سمح بذلك، وهو موقف مشترك بينه وبين الرئيس الحالي جو بايدن، الذي لم يدخر جهداً في الكشف عن دعمه اللامحدود وانحيازه المطلق للحليف الإسرائيلي باعتماد سلاح الفيتو في مجلس الأمن لرفض إيقاف الحرب وإجهاض قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ولكن أيضاً بمواصلة تمويله بالسلاح والذخيرة وكل أسباب الدمار والخراب والتجويع الحاصل في غزة.
المثير أنه تم، وعلى وقع الاحتجاجات الطلابية، إغلاق جامعة هارفارد يارد بواباتها، والمشهد ذاته سيتكرر في في جامعتي ييل وكولومبيا وغيرهما من الكليات. ومن الواضح أنَّ سلاح المقاطعة الأكاديمية، الذي ارتبط في السابق بمنظمة "بي دي اس"، بدأ يثمر، وأن الدعوات لمقاطعة الجامعات الإسرائيلية على خلفية الحرب المستمرة منذ أكثر من ستة أشهر في قطاع غزة، والأزمة الإنسانية الكارثية التي تسببت بها، بدأت تحرج السلطات الرسمية الأميركية.
ليس من الواضح ما إذا كانت هذه التحركات إشارة إلى أن اللوبيات العربية والجاليات الإسلامية في أميركا وغيرها من الدول الغربية بدأت تتحرك لمواجهة اللوبيات الصهيونية المتنفذة، وما تروج له من روايات مزيفة لتصفية القضية الفلسطينية ومحوها من الخارطة، أو كذلك لفرض صوتها في الانتخابات القادمة، ولكن الواضح أن هناك بداية وعي يتشكل، وأن هناك أسلحة بديلة أثبتت فعاليتها، ولا يريد لها كيان الاحتلال أن تجد طريقها لمساندة المقاومة، ومنها سلاح المقاطعة الاقتصادية والاكاديمية والرياضية وغيرها، وقد بدأت العديد من المطاعم والماركات المسجلة تسجل خسائر غير مسبوقة في عائداتها منذ بداية العدوان قبل سبعة أشهر... وبدأت نتائج الحملات المستمرة تتجسد على الأرض، ومن ذلك إعلان كندا وبلجيكا التوقف عن تسليح جيش الاحتلال تحت ضغط الشارع والاحتجاجات اليومية، كما أقدمت إيرلندا على سحب استثماراتها وأموالها من البنوك الإسرائيلية، فضلاً عن توجه أكاديميين وجامعيين إلى مقاطعة الجامعات الاسرائيلية.. ومع كل يوم، يُعلَن عن اعتراف مزيد من العواصم بالدولة الفلسطينية، في مؤشر على رفض ظلم الاحتلال وجور الفيتو الأميركي، كما حدث مع باربادوس وجامايكا وغيرها. ومع كل يوم تسقط المزيد من الغشاوات عن الأنظار، وتزول معها الكثير من العقد التي ارتبطت بعقدة الذنب الأوروبية بسبب المحرقة، وتتكشف للعالم مزاعم الاحتلال وانهيار السردية الإسرائيلية...
طبعاً هذا ليس نهاية المطاف، ولكن يسجل للتحركات والاحتجاجات الشعبية في مختلف أنحاء العالم أنها حولت الأنظار إلى المحرقة المستمرة في غزة، وأوجدت إجماعاً على التعجيل بايقاف الحرب التي يقودها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في محاولة لتجنب السقوط وانطلاق المحاسبة... وسيتعين استحضار أن جنوب أفريقيا لم تتخلص من نظام التمييز العنصري إلا عندما جرى استخدام حملات المقاطعة التي أقدم عليها المجتمع الدولي لمحاصرة نظام بريتوريا وقطع الرحلات إلى جنوب أفريقيا ومنعها من المشاركة في الفعاليات الرياضية والثقافية والعلمية، الأمر الذي أفقد جنوب أفريقيا العنصرية في نهاية المطاف السند الإسرائيلي والأميركي.
التعليقات