كامل الشيرازي من الجزائر:
استرجعت الجزائر اليوم الدفعة الأولى من أرشيفها الذي ظلت فرنسا ترفض إرجاعه إلى مستعمرتها القديمة منذ استقلال الجزائر في سيتينيات القرن الماضي، وشملت الدفعة الأولى من الأرشيف السمعي البصري، صورا محفوظة من طرف المؤسسة الفرنسية (إينا)، تتعلق أساسا بتاريخ الجزائر في الفترة ما بين الحرب العالمية الثانية (1940) إلى غاية إسترجاع السيادة الوطنية تموز/يوليو 1962، ويبلغ حجم الوثائق المسلمة نحو 1975 وثيقة بما يعادل 102 ساعة من البرامج، وأتت الخطوة تبعا للإتفاق المبرم بين الجزائر وفرنسا مؤخرا، بعد سنوات طويلة من مطالبات جزائرية باسترداد كامل أرشيفها التاريخى الذي استحوذت عليه العام 1830 ويغطي حقبة تزيد عن 132 عام.
وفي أولى ردود الفعل الرسمية، علّق وزير المجاهدين القدمى الجزائريين محمد الشريف عباس، انّ بلاده تثمّن الإجراء، وتمنى أن يكون فحوى الأرشيف المسترجع مٌفيدا، بينما استهجن خبراء جزائريون في التاريخ وفاعلين في المجتمع المدني استمرار ما سموه quot;التعنت الفرنسيquot; وإقراره جزء يسير فقط من ذاكرة تاريخية لا تزال مجهولة المصير، في وقت برّر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، لدى زيارته الجزائر أول شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، التعاطي الباهت لباريس مع المسألة برغبتها تلافي كل مقاربة إيديولوجية وأى استخدام سياسي للموضوع، رغم دلالة ورمزية هذا الأرشيف الذي يعدّ تاريخ الأمة وشهادة ميلاد الدولة الجزائرية وتطورها عبر التاريخ، ما سيسمح للمؤرخين والباحثين بإنجاز عدة دراسات حول التاريخ الجزائري بمختلف تجلياته تنظيميا، اقتصاديا، سياسيا، اجتماعيا وإداريا.
وتطالب جهات جزائرية مسؤولة الطرف الفرنسي بفتح الأرشيف النووي، على ضوء ما تسبّبت به 17 تفجيرا نوويا نفذتها فرنسا بين 13 فيفري/شباط 1960 و16 نوفمبر/تشرين الثاني 1966، وأسفرت عن مقتل نحو24 ألف شخص من مواطنيها، ناهيك عن 42 ألف جزائري استخدمتهم فرنسا كـ quot; فئران تجاربquot;، وأصيبوا بإشعاعات وأضرار في تجارب نووية فاقت قوتها التفجيرية خمسة أضعاف قنبلة هيروشيما، ولا يزال آلاف الضحايا وسكان المنطقة يطالبون بمعرفة حقيقة ما جرى، في وقت تبقى فرنسا مصرة على تحديد مكان دفن النفايات السامة والمواد المشعة التي تشكل تهديدا خطيرا للإنسان والبيئة في الجزائر، تماما مثل معضلة الألغام الفرنسية التي زرعتها فرنسا في الجزائر، حيث تسبّب 11 مليون لغم زرعها الجيش الفرنسي في الجزائر خلال ثورة التحررية (1954-1962)، في مقتل ما لا يقل عن 12 ألف شخص، بينهم 7328 جزائريا خلال السنوات العشر الأخيرة، ناهيك عن تسببها في إعاقات وعاهات مستديمة لمئات الآخرين، وهي أرقام مخيفة برأي الخبراء، علما إنّ بيانات رسمية تؤكد إنّ ثلاثة ملايين لغم مضاد للأفراد، ما تزال مطمورة على طول الحدود الغربية والشرقية للجزائر شرقا وغربا بطول 1160 كلم، بعدما نجح جيشها في إتلاف ثمانية ملايين لغم خلال السنين الماضية.
من جانبه، صرّح عبد القادر بوسلهام الدبلوماسي الجزائري السابق :quot;إنه من العار أن لا نستطيع الاطلاع على أرشيفنا الموجود في مدن غربية عديدة، على غرار فرانكفورت، جنيف، واشنطن، باريس وأنقرة، إضافة إلى مقر الصليب الأحمر الدولي، فيما استبعد عبد المجيد شيخي المدير العام للمركز الجزائري للأرشيف، أن تسلم فرنسا الأرشيف الجزائري الكامل الذي تستحوذ عليه، وقال شيخي إنّ فرنسا لن تتجاوب طالما أنّها تعتبر هذا الأرشيف quot;سرا دفاعيا فرنسياquot;، ورأى المؤرخ الجزائري المعروف محمد القورصو، أنّ استعادة الأرشيف مرهون بزوال نفوذ الأقدام السوداء (قدماء المستوطنين الفرنسيين في الجزائر)، وقد هدّد بعض من هؤلاء بحرق مقر الأرشيف بمنطقة quot;أكس أون بروفنسquot; جنوب فرنسا.
ويقول باحثون لـquot;إيلافquot; إنّ الأرشيف المصادر من طرف فرنسا، يغطي زمن التواجد العثماني بالجزائر، إذ يعود إلى سنة 1516 بالإضافة إلى وثائق هامة سبقت الغزو الفرنسي للجزائر، ووثائق أخرى تتعلق بكل الممارسات التي قام بها النظام الكولونيالي الفرنسي بالجزائر، من مراسلات رسمية وأوامر بالقتل والاعتقال، وإحصائيات موثقة لكل ضحايا الممارسات الفرنسية البشعة، ولائحة بأسماء الذين خانوا بلادهم، ووثائق أخرى هامة حول فترات دقيقة من تاريخ الجزائر، تتوزع بين مداولات الجهاز القضائي الفرنسي في الجزائر، ومراسلات رسمية لثوار جزائريين، وما طبع حكاية (فصل صحراء الجزائر عن الشمال)، وقد وضع المشرّع الفرنسي شروطا تعجيزية تقضي بانقضاء مائة سنة للاطلاع عليه.
في غضون ذلك، كشفت المحامية الجزائرية فاطمة الزهراء بن براهم، أنّ معظم الأرشيف الجزائري بين القرن الخامس عشر إلى التاسع عشر، لا يزال مبعثرا بالخارج، سيما بفرنسا وتركيا والولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا ودول اسكندنافية أخرى، وأضافت أن قضية المطالبة به باتت صعبة جدا، سيما لدى السلطات الفرنسية، كونها وضعت قوانين مشددة للاطلاع عليه، وتنظر بن براهم كما حقوقيين آخرين بأنّ الفيتو الفرنسي مردّه خشية ساستها من استخدام الأرشيف لإدانة باريس بجرائم الحرب التي ارتكبتها، والمصنفة في خانة quot;إبادة عامة ضد الإنسانيةquot;، وعلى هذا وضع الإليزيه وتوابعه قيودا مدروسة.
التعليقات