تعب غير نافع وإجتهاد لايؤدى إلى غناء إجتهاد
تذكرت هذا البيت الشعرى لأبى العلاء المعرى وهو يصف لحظات يأسه الشديد ووجدته يلخص فى هذه الكلمات القليلة تعريف الإكتئاب، فالبيت هو الترجمة الفصحى للعبارة العامية الشهيرة التى يقولها كل المكتئبين "خلاص ماعادتش تفرق"، هذه الماعادتش تفرق هى مفتاح الإكتئاب وهى تبدأ من أول حلاقة الدقن وهندام الملبس الذى ماعادش يفرق، إلى الحياة نفسها فى مراحل الإكتئاب المتأخرة والتى من الممكن أن يضع نهايتها المكتئب بنفسه عندما ينتحر لأنها ماعادتش تفرق، مروراً برشاقة الجسم والحرص على العمل والإقبال على متع الحياة 000الخ كل هذا الشريط يمر أمامه بلاأدنى إهتمام أو حتى فضول، فالإهتمام قد تم إغتياله والفضول أودع أمانة فى ثلاجة المشرحة!!
تداعت إلى ذهنى كل هذه الصور بعد وفاة سعاد حسنى حين إحتدم النقاش مع صديقى الذى صرخ فى وجهى "كل الهيصه دى علشان سعاد حسنى، كل ده علشان واحده ماتت كافرة"!، أصابنى الفزع وتساءلت هل حقاً ماتت السندريللا كافرة ؟، وهل حقاً يعد إنتحار المكتئب من قبيل الكفر ؟، وتوصلت حينها إلى سر رفض الكثيرين من أصدقائها وأقاربها الإعتراف بإنتحارها، وعرفت أن كل هذا الرفض الشديد إنما يرجع لسبب واحد وهو دفع تهمة الكفر عن سعاد حسنى، كما حدث من قبل بالنسبة لأبيها الروحى صلاح جاهين حين إتفق الجميع على أن يبقى إنتحاره سراً دفيناً لايذيعه أحد حتى جاء نجيب محفوظ فى مذكراته وأخرج السر من مقبرة الصمت، وقررت أن أرد على صديقى وأمثاله وهم كثيرون بتقديم بورتريه عن الإكتئاب هذا الدراكيولا الذى ينشب أظافره ويغرز أنيابه فى روح الضحية حتى يجعلها كالخرقة المبللة، ويطيح بعصاه العمياء فى وجدانه فيجعله كشظايا الزجاج التى كلما حاولت الإلتئام يدوس بلدوزر الإكتئاب عليها أكثر وأكثر فيحول المكتئب إلى فتافيت إنسان وبودرة بنى آدم وروبابيكية بشر!!، قررت أن أعود إلى محاضرات ودروس أساتذتى عكاشه والرخاوى وشعلان وعبد الستار إبراهيم وغيرهم من عمالقة الطب النفسى وعلم النفس، وهم للأسف لم يناقشوا قصية هل إنتحار المكتئب كفر أم لا؟ ولكنهم علمونا أن نسأل العلم ونتسامح مع المريض النفسى، ونحاول فهمه قبل علاجه والطبطبة على روحه قبل بلبعة الأدوية، فكبسولة التعاطف أهم أحياناً من كبسولة الدواء، وحقنة التواصل أخطر تأثيراً من حقنة المهدئ، وجلسات الود تفوق فى تأثيرها جلسات الصدمات الكهربائية، ولكن دائماً يظل رأى العلم عندنا يتوارى فى الظل خافت الصوت مشلول الحركة والدليل أننا فى خلال كل هذه الضجة لم نر التليفزيون يعرض برنامجاً عماهو الإكتئاب حتى نتعرف على القاتل الحقيقى، ولم يستضف أياً من هؤلاء العمالقة الذين ذكرتهم، فسيد راضى عند أهل ماسبيرو أهم من أحمد عكاشة، وبواب عمارة الزمالك أخطر من شعلان، وأختها جانجاه بالقطع تفهم فى النفسية وماوراء النفسية لدرجة أنها فتحت علينا حنفية علمها الفياض وغرقتنا تحليل نفسى فشر الرخاوى!!، ولو كنا قد إستمعنا لهؤلاء الأساتذه لعرفنا أن حكاية إنتحار المكتئب مسألة واردة جداً، وقراره سهل جداً على مريض الإكتئاب ومن الممكن أن يتم فى ثوان وأحياناً وهو فى مرحلة العلاج وبأى وسيلة كانت أقراص أو حرق بالنار أو قطع شرايين يد أو طلقة مسدس، أو حتى ولو كانت القفز من البلكونة والتى إستنكر البعض حدوثها وتساءلوا لماذا لم تستبدلها بالحبوب المهدئة وكأن الإنتحار لابد أن يكون تفصيل على مقاس مزاج هؤلاء السادة !!، والمدهش أنه فى اليوم التالى جاء الرد المفحم وقرأنا عن شقيقتين إنتحرا بالقفز من البلكونة ثم عن زوجة إنتحرت بنفس الطريقة، ولم تثر حولهن الظنون ولم يطالبهن أحد بتناول الحبوب، ولذلك سنرسم البورتريه لنحاول فك شفرة هذا اللغز المسمى الإكتئاب، وتتبع مسارات ودروب خريطته المعقدة الملتوية المليئة بكهوف الخفافيش وبيوت العنكبوت وأعشاش الدبابير.
نستطيع ببساطة تعريف الإنسان بأنه الحيوان الوحيد الذى يصيبه الإكتئاب وبالتالى فهو الحيوان الوحيد القابل للإنتحار، وهو المعنى الذى عبر عنه صلاح جاهين فى رباعيته الشهيرة التى تقول:
الدنيا أوده كبيره للإنتظار
فيها إبن آدم زيه زى الحمار
الهم واحد000والملل مشترك
ومفيش حمار بيحاول الإنتحار
عجبى!!
ومصر بها حسب إحصائية د.أحمد عكاشة أكثر من 2 مليون مريض بالإكتئاب وهو عدد خطير ومفزع ولكنه لايصيب الحكومة بالفزع لأنها تحكم 65 مليون مكتئب أصلاً قابلين فى أى لحظة للإنضمام لطابور المرضى تحت الظروف الخانقة والضغوط الشديدة والقهر الذى أصبح كالظل وتعدى منطقة الصديق الحميم ليصبح التوأم اللصيق!، ولأن الحكومة كل يوم فى عيد تطبيقاً لنظرية الفنانة شادية فقد قلصت المستشفيات النفسية وقررت أن تصبح حدود مصر محمية طبيعية للمكتئبين يسرحون فى شوارعها تحت عين وسمع الدولة كجزء من الحفاظ على الآثار وعدم التعدى على البيئة، وإنظر حولك تستطيع أن تتعرف ببساطة على جارك أو صديقك المريض بالإكتئاب، أو حتى أنت عزيزى القارئ إذا عرفت ماهى أعراض هذا المرض الذى هو بالطبع مختلف عن تعكر المزاج أو الإكتئاب الخفيف الوقتى الذى لاينجو منه أحد منا نتيجة ضغوط عمل أو فقد حبيب أو صديق 000الخ، ولكن ماذا يميز هذا الإكتئاب المرضى عن هذا التعكر المزاجى ؟، إنها أربعة خصائص رئيسية هى أنه أكثر حدة، ويستمر لفترات طويلة، ويعوق الفرد بشكل خطير عن أداء واجباته المعتاده، وأخيراً أسبابه قد لاتكون واضحة جلية نستطيع الإمساك بها والإشارة إليها بأصبع الإتهام
ومن الممكن أن تكون بذرة الإكتئاب مرتبطة بحادث مأساوى معين وهنا نطلق عليه الإكتئاب التفاعلى، أما إذا إستمر بعد زوال السبب مدة طويلة بحد أدنى أسبوعين وأصبح يتردد كالضيف الثقيل كل فترة بلاسبب واضح ومفهوم فهنا نسميه الإكتئاب العصابى، وأنا أفضل تسمية د.الرخاوى الإكتئاب اللزج أو الرخم الذى يزحف كالسحلية على السلوك والوجدان ببطء فى منحنى متصاعد وفيه يبدو الشخص إعتمادياً سلبياً كثير الشكوى ناعياً حظه ومتفنناً فى إكتشاف أخطائه والإعلان عن جوانب ضعفه، وأحياناً يكون هذا الإكتئاب موسمياً يهاجمه فى فصل معين، وسنحاول أن نعرض لأعراض الإكتئاب ببعض التفصيل لأنه مجموعة أعراض وليس عرضاً واحداً دقيقاً واضحاً يسهل تشخيصه، وسنحاول للتسهيل أن نلخصها على هيئة جمل إقتبسناها من على لسان المكتئب ومن خلال سلوكياته :
1-الDYSPHORIA أو الإحساس بعدم البهجة، يقول المكتئب "الدنيا ماعدش فيها حاجة تبسط والواحد بقى غبى و فاشل فى كل حاجه"
2-الكسل والخمول: يجلس المكتئب طوال النهار والليل أمام التليفزيون وبالطبع هنا فى مصر يساهم التليفزيون فى زيادة إكتئابه فيكفى عليه ليالى التليفزيون!!، و نجد السيدة المكتئبة تقول"وحتى الطبيخ ماعدش ليا نفس أعمله"، والرجل يقول"حتى القعده على القهوه ماعدش لها طعم".
3-الشعور بثقل الأعباء:فيقول "الطالب الواجبات كتيره قوى "، ويشكو الموظف من إضطهاد مديره الذى يحمله كافة ملفات الإدارة، وتصرخ ربة البيت فى نوبة بكاء ونحيب "كل حاجة عليا حرام عليك إنت وعيالك".
4-الأمراض النفسجسميه:يلف المريض كعب داير على الأطباء بلاعلاج ناجح وفعال ويعانى من عدة شكاوى جسديه هى فى الحقيقة إنعكاسات نفسية منها الصداع الدائم، والطنين فى الأذن، والضيق فى التنفس، وصعوبة فى الهضم، الدوار، ألم فى الأطراف، حكة فى الجلد 000الخ
5-عدم الرضا عن العلاقات الإجتماعية والميل للإنعزال والإنسحاب من الحياة لدرجة أنه لايستطيع حتى الرد على الإهانات الموجهة إليه وبالتالى يفقد دعم الآخرين له
6-تضخم وتورم مشاعر الذنب واللوم لديه والميل للتفكير السلبى والإنهزامى :وكما يلخص د.أحمد عكاشة هذه الأعراض من حصيلة شكاوى مرضاه فيقول" يصرخ المريض لماذا لايأتى الموت وأستريح _أخاف من الموت بسبب هذه السيارات التى تمرق فى الشارع -لاأريد التوقيع على هذه الورقة فأكيد هناك عقوبة تنتظرنى -إبنى خرج أكيد عربية حتخبطه-أنا ملوث وعملت معاصى كتير قوى فى حياتى ماتتعبش نفسك يادكتور فى علاجى أولادى أحق بتمن العلاج ماتعرفش طريقة تخلصنى بها من حياتى-أنا عندى ستين سنة بس مش قادر أسامح نفسى على اللى عملته فى البنت اللى خطبتها من تلاتين سنه -مش عارف أنام بأنام ساعتين تلاته بالليل وبعدين أفضل صاحى لحد الصبح -مش قادر أقرب لمراتى خلاص زيى زيها فى السرير!!!!
الإكتئاب أخطر من السرطان هكذا تقول الأعراض فالألم فى الروح وليس فى الجسد، والتآكل ليس فى الخلايا بل هو فى قيمة وجدوى الحياة نفسها، فالقليل من مرضى السرطان ينتحرون لكن من 10 إلى 15% من مرضى الإكتئاب ينتحرون بل أن 70% من حالات الإنتحار الناجحة وراءها الإكتئاب، فهو السبب الرئيسى والمجرم الحقيقى في أكثر من 800 ألف حالة إنتحار سنوياً حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، وإذا طبقنا قاعدة ليس على المريض حرج فى حالة الإكتئاب من المؤكد ان الكثيرين سيحتجون ويعترضون لأنهم يتخيلون أن الإكتئاب قرار شخصى أو رفاهية عقلية إرادية وكذلك الإنتحار الناتج عنه، والحقيقة غير ذلك فكيمياء المخ عند المكتئب مشوشة وغير متوازنة وبإختصار ملخبطة، فكيف نحاسب هذا المسكين على تلك اللخبطة اللاإرادية، وكيف نحاسب شخص جيناته الوراثية مطبوع عليها بصمة الإكتئاب، هل نحن نسأل مريض السكر ونحاسبه لماذا جاء له هذا المرض ؟، بالطبع لا فالشخص المريض بالإكتئاب كيميائه مختلة كما إختلت كيمياء البنكرياس فى مرض السكر، فبعض الأبحاث المبكرة أشارت إلى الإختلال مابين عنصرى الصوديوم والبوتاسيوم داخل الخلايا العصبية، والآن أصبح مستقراً أن الموصلات العصبية فى المخ والتى وظيفتها توصيل الرسائل القادمة والعائدة من الأعصاب المختلفة هى التى تؤثر فى الحالة المزاجية وهو ماإعتمد عليه الباحثون فيما بعد فى علاج الإكتئاب وهو إحداث التوازن فى هذه الموصلات العصبية مثل الدوبامين والسيروتونين والنورإبينفرين، وهى المواد التى تقوم بدور البوسطجى الذى من الممكن أن يحمل إليك رسالة فرح وبهجة أو يسلمك بعلم الوصول جواب عكننة ويأس، وإذا شبهنا المخ بجهاز الترانزيستور فهذه الموصلات هى المؤشر الذى يضبط الموجة فإذا حدث به خلل تشوش الصوت وتوقف البث وتداخلت المحطات، وبالطبع لاتتحرك هذه الكيمياء فى فراغ ولكنها لاتحدث إلا فى شخصيات مهيأة مسبقاً موضوعة فى ظروف تحفز وتثير هذا الخلل، إذن نخرج بنتيجة مؤداها أن المنتحر المكتئب ضحية وليس قاتلاً، مجنياً عليه وليس جانياً، تعيساً وليس كافراً
والتعاسة تختلف عن الضيق، فالتعاسة إحساس مزمن وخانق أما الضيق فهو وقتى ومن الممكن التخلص منه، وبعض الضيق وقليل من الإكتئاب مطلوب ومسموح به ويمكن تجاوزه وغفرانه أما التعاسة فهى يأس مطبق يودى بكل ماهو جميل فى حياتنا ويساوى بين الفرح والحزن والحياة والموت، ومن أهم أسباب التعاسة إفتقاد الدعم النفسى والذى عانت منه سعاد حسنى حينما عاشت فى بلاد الضباب وحيدة تجتر ألامها وأحزانها وتكبر وتشيخ منفردة كزرع يذبل فى أرض جرداء، ومفتاح مأساة سعاد حسنى من الممكن تلخيصه فى رسالتها المسجلة على الموبايل والتى تقول "أنا زوزو النوزو كوالنوزو من فضلك إترك رسالة وسأتصل بك فيما بعد "، فهى تصر على أن ترجع لمصر زوزو والجسد يخونها والكل ينتظرها والنتيجة تغلب الواقع والضغوط على مقاومتها، فالدعم النفسى عندما تكبر وسط أهلك وأصدقائك يجعلك تعبر النفق المظلم بسلام، أما أن تخلق نموذجاً لن يتحقق فهذا هو المستحيل، وساعتها الحل هو تدمير ذلك الجسد الذى غدر بك وتحطيمه، وأعتقد أن هذا هو السبب فى إنتحارها بتلك الطريقة المدمرة وعدم إختيارها للحل السهل عن طريق تناول المهدئات.
[ وحتى نفهم أسباب تلك التعاسة تعالوا معاً نفتح الشباك الموارب فى عقل أهل الإكتئاب المساكين لنعرف كيف يفكرون ويتفاعلون مع الواقع، ويجعل منهم شخصيات هشة سلبية التعامل والتصرف، كمن يتعامل مع النار التى شبت فى بيته بتركها تلتهم أثاث البيت لينزوى فى حجرته ويجهش بالبكاء .
وأول أساليب تفكير المكتئبين هو مانطلق عليه أسلوب التهويل والتهوين، فالمكتئب يبالغ فى إدراك الأشياء فيهول عيوبه ويهون من مزاياه، والمدهش أن المكتئب هو أشد البشر موضوعية وصدقاً ولكن التوازن النفسى للأسف يتطلب قدراً قليلاً من الزيف و"المماينة"، فالمكتئب يتعامل مع الحياة ويقتحم معركتها بلادروع أو بلا مايسميه علماء النفس ميكانيزمات الدفاع مثل الجملة الخالدة "هو أنا الغلطان الوحيد ماالكل بيغلط يعنى هى جت عليا"!!.
ثانياً: التعميم الذى هو أسلوب مرضى فى التفكير يجعلك مشلولاً بعد أى خبرة فاشلة فى الحياة، وهو يجعلك لاتثق بالنساء لأن واحدة رفضتك، ولاتثق بعملك لأن مديرك أنذرك، ولاتثق بنفسك لأن فلاناً إنتقدك
ثالثا:ً الظاهرة التى يطلق عليها د.عبد الستار إبراهيم الكل أو لاشئ أو كما قال عادل إمام ياأبيض ياأسود وهذا يورث التصلب ومن ثم الإنكسار بسهولة، فالبحث عن الكمال بطريقة مرضية موسوسة تؤدى إلى الإحباط السريع .
رابعا:عزل الأشياء عن سياقها كأن يعود الإنسان من عمله لايتذكر إلا من تجهم فى وجهه أو وجه له اللوم، ولايتذكر من تودد إليه أو وجه إليه التحية.
خامساً:التفسير السلبى لما هو إيجابى، وتحويل كل النقاط المضيئة فى حياته إلى ستائر سميكة سوداء تحجب الرؤية والحكم السليم، فيصبح الأطفال مصدر إزعاج، والفلوس مثاراً للقلق، والزوج الطيب راجل بارد و"برطه "، والشقة الواسعة تعب وهدة حيل فى التنضيف 000الخ، فالمنظار أسود غطيس ونصف الكوب الفراغ هو مايجذب النظر .
سادساً:القفز إلى الإستنتاجات فيقرأ المكتئب أفكار الآخرين ويترجمها خطأ والمصيبة أنه يتصرف على أساسها، فعندما يرد عليه الأنسر ماشين يشك فى أن صديقه يكرهه ولايريده، وعندما يعزم عليه أحد بسيجارة غالية وفخمة فهو يريد إهانته وتذكيره بأنه فقير 00الخ
سابعاً:التفكير بطريقة المنجم وقارئ البخت، فالمكتئب يتوقع السلب دائماً ويحول هذا المستقبل الأسود إلى يقين ويتصرف على أساسه حتى مع الطبيب نفسه، فيتوقع فشل العلاج ويستكمله وكأنه تحصيل حاصل.
ثامناً:التأويل الشخصى للأمور كأن يدور حديث داخل غرفة المدير فى وجودك يتطور إلى مشاجرة فتفسر كل هذه المعركة على أنها بسبب وجودك النحس فى هذا التوقيت وأنك لو كنت غائباً ماكان حصل اللى حصل !!!
والإكتئاب ليس وليد اليوم، من الممكن أن يكون قد إنتشر وزادت حدته، ولكنه قديم منذ أن خلق الإنسان فقد تحدث عنه أمنحتب أبو الطب المصرى القديم، وأبقراط أبو الطب الإغريقى، وتحدث أفلاطون فى جمهوريته عن حقوق المرضى النفسيين، وورد فى كتب العهد القديم قصة شاؤول الذى أصابته الأرواح الشريرة بحالة إكتئاب عقلى دفعه إلى أن يطلب من خادمه أن يقتله، وعندما رفض الخادم الإنصياع لأمره أقدم هو على الإنتحار، ومن يقرأ مسرحية هاملت لشيكسبير يقرأ وصف والد أوفيليا لهاملت عندما صدته إبنته التى كان يهيم بها البطل الدنماركى، يقول شيكسبير: "فلما صدته عن نفسها، أصابه الأسى، ثم إمتنع عن الأكل، ثم حرم النوم، ثم أصيب بالضعف، ثم إبتلى بالخفة، وبهذا التردى والهبوط بلغ درك الجنون الذى يهذى الآن فيه ويبكينا جميعاً عليه"، أما تشرشل السياسى الإنجليزى الداهية فقد أطلق على إكتئابه الكلب الأسود !!، وعانى منه سياسيون كثيرون غير تشرشل منهم أبراهام لينكولن وروزفلت، أما الفنانون والمبدعون فلايحصى عددهم فمنهم كافكا وكيتس وجوته وفان جوخ وإزرا باوند وهيمنجواى وفيرجينياوولف وشومان ومى زياده وصلاح عبد الصبور وصلاح جاهين وتشايكوفسكى وألبير كامى ومارلين مونرو وغيرهم ممن لاتتسع لهم الصفحة، ولكن المهم لماذا يتسلط الإكتئاب أكثر على المبدعين ؟، وهو السؤال الذى عندما طرحته فى عدد سابق لتفسير حالات الإنتحار عند بعض المبدعين، فسره البعض على أنه دعوة للإنتحار أو أننى أقصد أن المبدع الذى لم ينتحر هو فاشل فنياً، وهو بالطبع تفسير عبيط لايصدر إلا عن حانوتى!!، ولكنى كنت أقصد أن المبدع هو أسهل فريسة لضبع الإكتئاب، فالمبدع جهاز رادار حساس، أعصابه عارية فوق جلده، جهازه العصبى والنفسى مستفز-بفتح الفاء- على الدوام، فى صراع دائم مع واقعه وخصام مزمن مع مجتمعه لأنه يطمح دائماً إلى المثالى، هو كالموج إذا سكن مات، لايستقر على شاطئ ، مسافر على الدوام بتذكرة أبدية مفتوحة وليست له محطة وصول، ويمثل هذا الضغط النفسى عبئاً جسيماً على جهازه العصبى، فتطرف أحلامه يجعله مكتئباً عندما يكتشف تكسر كل هذه الأحلام على شاطئ الواقع كما حدث لصلاح جاهين مثلاً عندما إكتشف أن شعارات الثورة التى روج لها فى أغانيه وأشعاره مجرد سراب فسقط فى هوة الإكتئاب، وكما حدث لسعاد حسنى التى إرتدت ثوب الثورية والناس تنتظر منها البنت الأمورة الشقية، أرادت أن تنضم إلى ذوى النظارات السميكة والياقات البيضاء من مثقفى الستينات والسبعينات وهى التى لم تتعلم الكتابة إلا وهى فى السادسة عشرة، كان رصيدها فى بنك الثقافة قليلاً فبدأت السحب على المكشوف حتى تم الحجز عليها فى سجن الإكتئاب المزمن .
الفنان لايعرف الحلول الوسط ولايتقن فن إرضاء جميع الأطراف، فهو متطرف فى مشاعره وهذا سر تألقه، نرجسى إلى حد كبير وهذا شئ مشروع لخدمة إبداعه، إستعراضى وطاووسى فى معظم الأحيان ولابد من مسامحته والصفح عنه حتى لايتحول إلى دجاجة لاهم لها إلا إلتقاط حبات القمح المتناثرة التى يجود بها الراعى أو السلطة، حالم بدرجة مزعجة وهذا مايجعل إبداعاته نبؤة وفنه مرآة للمستقبل، ولأنه صادق فإن إكتئابه يسقط عنه كل حصونه النفسية فيخرج عارى الصدر مثخناً بالجراح حتى يسقط، ولانستطيع أن نقول عن إنتحار بعض المبدعين المرسوم المجبرين عليه إلا أنه لحظة صدق ومواجهة حارة وحميمة وصريحة إلى حد النزف، إنها أعلى لحظات الصدق المطلق ولكن من منا يحتمل الصدق المطلق.
التعليقات