يعاني سكان الصحراء الجزائرية سرطانات بالجملة، بسبب التجارب النووية التي نفذتها فرنسا هناك في ستينات القرن الماضي، وتبعا لاستنشاقهم الغبار الإشعاعي، يشكو السكان المحليون أيضا أمراض العيون وتراجع الولادات وتشوهات خلقية مسّت أيضا أبناءهم وتهدد بالامتداد إلى أجيال قادمة، بحكم بقاء آثار الإشعاعات لآلاف السنين القادمة بحسب الدراسات. ويبرز أخصائيون وباحثون في تصريحات خاصة بـquot;إيلافquot;، حيثيات هذه الأمراض، وسبل مواجهتها والحد من تفاقمها، في وقت يروي ضحايا أحياء فصولا عن مآسيهم.
_____________________________________________________________________________________
تحصي quot;آسيا موسايquot; 18 نوعا سرطانيا ناجما عن الإشعاعات النووية، أبرزها سرطانات الجلد والدم والرئة والكبد والقولون والعظام، إضافة إلى الثدي والغدد الدرقية والكدرية والتناسلية والنخامية، كما تلفت إلى أنّ استنشاق الغبار النووي أفضى كذلك إلى تشوهات خلقية لمواطنيها الكبار والصغار وحتى الأجنة، وبرزت ظاهرة صغر حجم جماجم المواليد الجدد، وهو ما يصطلح عليه طبيا ''ميكرو سيفالي'' أو تضخمها ''ماكرو سيفاليquot;، وسيستمر الأمر وراثيا مهما كانت نسبة تعرض المعنيين للإشعاعات.
كما تشير موساي المختصة في الأورام الناجمة عن الإشعاعات النووية، إلى انتشار أمراض العيون والعمى في مناطق رقان، إينكر وتمنراست أقصى الجنوب الجزائري، نظرا إلى إصابات كثيرة بالمياه البيضاء، وتراجع الولادات بفعل محدودية الإخصاب، بجانب تفاقم الوفيات منذ أول تفجير نووي دون أعراض مرضية معروفة، وكثرة الحساسية الجلدية عند السكان المحليين، وفقدان البصر والسمع والأمراض التنفسية، وظهور أعراض غريبة على المرضى، منها ظاهرة صعوبة تخثر الدم عند الجرحى، كما لوحظت حساسية مفرطة عند الأطفال بعد إجراء بعض التلقيحات، وغالبا ما تلاحظ مضاعفات عقب تلقي المرضى جرعات أو حقن المضادات الحيوية.
بدوره، يسجل أحمد عبيد الأخصائي في الجراحة بأنّ الجولة الميدانية التي قام بها رفقة عدد من الأطباء إلى منطقة رقان (1600 كلم جنوبي غرب الجزائر)، كشفت عدم توفر سجلات طبية لمن طالتهم الاشعاعات هناك، ويلاحظ عبيد انتشار عدة أمراض بينها تلك المتصلة بالغدة الدرقية وسرطان الثدي إضافة إلى الانخفاض المحسوس في نسبة الولادات مقارنة بالمناطق الأخرى.
من جانبه، يقرع عمر هامل أجراس الإنذار بشأن جزائريين يصارعون الموت جراء استنشاقهم الغبار الإشعاعي الناجم عن التفجيرات النووية الفرنسية، وبشأن جدلية العلاقة بين الأمراض والإشعاعات النووية، يؤكد quot;مصطفى أوسيدهمquot; من مستشفى رقان، الصلات بين الإشعاعات وانتشار عدة أمراض في أوساط سكان المنطقة.
ويوضح أوسيدهم أنّ المسألة بحاجة إلى تدقيق علمي لتأكيد العلاقة، محيلا على أن مستشفى رقان يتعامل مع مجموعة من الحالات المرضية كأمراض السرطان والعيون، ويشهد حالات مثيرة لإجهاضات والضغط الشرياني والتشوهات الخلقية. وبلغة الأرقام، تشير نصيرة ملوي إلى اكتشاف 85 حالة مؤكدة للإصابة بداء السرطان في الأعوام الأخيرة، بمعدل 5 إلى 10 حالات سنويا معظمها فوق سن الخامسة عشرة، وهي إحصائيات لا تكشف الأرقام الحقيقية للمصابين في منطقة انتشرت بها الإشعاعات النووية، والمعدل مرشح للارتفاع إذا ما جرى زيادة عمليات التشخيص، ويلّح ملوي على ضرورة القيام بدراسات وتحاليل علمية لتشخيص هذه الإصابات من حيث النوع والعدد ومقارنتها بمناطق أخرى.
ويؤكد عبيد أنّ تأثير الإشعاعات النووية لا يقتصر على الذين عايشوا تلك الفترة أو ممن عملوا في حقل التفجيرات فحسب بل يتعدى ذلك ليشمل الأبناء والأجيال اللاحقة والمحيط ككل، وذاك راجع بحسب الباحث عمار منصوري إلى قوة القصف النووي التي بلغت آنذاك 30 كيلوطنًا، ورغم انقضاء عشرات السنين على تلك التجارب النووية، إلاّ أنّ قطر المنطقة المحيطة، لا يزال مُشّعا بصفة حادة ما دفع السلطات إلى حظر الدخول إليها، كما أنّ المساحات التي استهدفها الإشعاع كانت شاسعة وأكبر من المتوقع ومتداخلة التأثيرات، في صورة ما أكدته أبحاث بشأن مادة البلوتونيوم الأكثر تسميما وتلويثا.
كما يربط محمد عفيان هاجس السرطانات النووية بترك المحتل الفرنسي القديم الفضلات النووية والعتاد الملوث بالإشعاعات بعين المكان مدفونا في أماكن مجهولة إلى غاية الآن، وهو ما يؤيده أحمد بن ديب المختص في علاج السرطان، الذي يوقن بصعوبة إجراء تحاليل حول المناطق التي تعرضت للغبار المشعّ في الصحراء، لأنّ الردم تمّ بحسبه في أماكن مجهولة.
وبحسب عمر هامل رئيس جمعية ضحايا التجارب النووية، فإنّ الجانب الفرنسي لم يبق أي سجلات صحية يمكن استغلالها، وعليه يدعو quot;محمد عفيانquot; إلى ضرورة وضع بيانات دقيقة للأمراض السرطانية والتشوهات الخلقية، حتى وإن كان يعترف بالصعوبة العلمية في إثبات العلاقة بين الأمراض السرطانية المسجلة والإشعاعات الناجمة عن التجارب النووية.
لذا يوصي عفيان بإجراء سلسلة دراسات على مدار سنوات بغية إحصاء حالات الإصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية، إضافة إلى إعداد دراسات مقارنة يتم فيها تحديد أنواع وفئات الأشخاص المعنيين بهذه الإشعاعات ومدى تأثيرها عليهم، والقيام بتحقيقات تسمح بحصر التأثيرات الصحية للتجارب النووية على سكان الصحراء، بالإضافة إلى quot;تحديد عددهمquot; وكذا quot;قائمة الأمراضquot; الناجمة عن هذه الإشعاعات النووية.
ويرفض quot;خير الدين خلفاتيquot; الرأي القائل باقتصار التأثيرات الآنية والطويلة المدى للإشعاعات في الجزائر، على الأمراض السرطانية فحسب، إذ يركّز على أمراض أخرى مرتبطة بالعمى، جرّاء 13 تجربة نووية فرنسية أرضية وأربع تجارب جوية. ويجمع عبيد وعفيان وأوسيدهم وخليفاتي عند حتمية تكوين أطباء محليين للكشف عن الأمراض الناجمة عن الإشعاعات النووية، وإعداد سجلات للمصابين بداء السرطان بمختلف أنواعه، طالما أنّ انعدام هذه السجلات يؤثر بشكل سلبي في المتابعة الطبية للمرضى.
وينوّه الأخصائيون الثلاثة بأهمية هذه السجلات التي تدون بها مختلف المعلومات الطبية وتعتبر مرجعا علميا وطبيا في غاية الأهمية يساعد الأخصائيين على متابعة درجة تطور الأمراض النووية، ويساعد على إعداد الأبحاث الطبية اللازمة، حيث لم تكلل جهود الفترة الماضية بالنتائج المرجوة لانعدام المعطيات العلمية المطلوبة.
وضع كارثي لضحايا الاشعاعات
يقول محمد شنافي الذي احتجزه الفرنسيون في شتاء سنة 1960، وأجبرته على العمل لمدة ثلاثة أشهر في قاعدة عسكرية في منطقة رقان، إنّه كان موضوع تجريب وهو يعاني عدة أمراض مزمنة. كما يشير عمار بوجلال إلى معاناته من أربعة أنواع سرطانية (الغدد النخامية والدرقية والكدرية والتناسلية)، وأمراض القلب والعيون والكوليسترول، إضافة الى شلل نصفي عندما كان مجنّدا في الجيش الجزائري في منطقة رقان.
ومن الضحايا أيضا، محمد الرقاني (74 عاما) الذي كان يعمل منذ خمسينات القرن الماضي في مجال الرعاية الصحية في هذه المنطقة، ويذكر هذا الشاهد أنّ التفجيرات النووية كانت أشبه بأهوال يوم القيامة، وأفرزت غبارا كثيفا وإشعاعا امتد إلى حدود دولة مالي ومنطقة بشار التي تبعد عن ضاحية رقان بـ650 كلم.
ويذكر الرقاني quot;بعد تلك التفجيرات، انتشرت سحابة من الدخان في سماء المنطقة تشبه إلى حد ما نبات الفطر، وقمت رفقة طبيب فرنسي بتفقد السكان عبر مختلف القصور القديمة وهنا كانت الكارثة حيث وجدت نحو 30 إمرأة أسقطن مواليدهن وقد تعرضن لحالات من الغيبوبة والارتجاف وخفقان القلب.
ويستطرد الرقاني:quot;بعد حدوث التفجيرات، تغيّر الوضع حيث بدأت تظهر حالات مرضية جديدة غير معروفة من قبل، بينها أمراض القلب والعيون وضغط الدم والتشوهات الخلقية لدى المولودين الجدد، ويوضح الرقاني أنه بين ضحايا تلك التفجيرات هناك من لا يزال على قيد الحياة وقد فقد بصره نتيجة تعرضه لإشعاعات تلك التجارب النووية، ملاحظا أنّ الأمهات أصبحن عاجزات فيما بعد على القيام بالرضاعة الطبيعية، كما أنّ معظم الولادات كانت تتم بعد التفجيرات بالطريقة القيصرية على مستوى مستشفى رقان.
والزائر اليوم للجنوب الجزائري ولا سيما منطقتي quot;رقانquot; وquot;تمنراستquot; والبلدات التابعة لهما، يقف على خطورة الإشعاعات الناجمة عن النفايات النووية التي خلفتها سبع عشرة تجربة أجراها الفرنسيون هناك ما بين 13 شباط/فبراير 1960 و16 تشرين الثاني/نوفمبر 1966، وتسببت بمقتل 42 ألف جزائري وإصابة آلاف الآخرين بإشعاعات.
ويبرز مختصون في الاشعاع النووي عدم اقتصار الآثار المأسوية لتلك التجارب عندما عايشته منطقتا رقان وتمنراست على مدار الخمسين سنة المنقضية، بل ستتواصل تهديداتها إلى حدود 24 ألف وأربعمائة سنة قادمة، وسط الافتقاد إلى دراسات وبائية من شأنها تحديد درجة العدوى.
التعليقات