في أكبر دراسة من نوعها، كشف باحثون لأول مرة الإثنين أكتوبر أن الحمض النووي يضم جينات تؤثر في تحديد سن الإنسان عند إنجابه لمولوده الأول وفي تحديد عدد الأطفال الذين سيرزق بهم في حياته. نُشرت الدراسة في مجلة Nature Genetics وهي تفتح آفاقا جديدة في مجال دراسة الخصوبة وعلاج مشاكلها لدى الإنسان.
لا تريد التسرع في الإنجاب في حين لا تتوقف عائلتك أو عائلة شريكك عن الضغط عليك لترزق بالحفيد المنتظر؟ يمكنك منذ اليوم التذرع بمورثوك الجيني لمواجهة هذا الموقف! وقد تساعد هذه الذريعة أيضا في إقناع من يطالبونك بالإكثار من الأولاد.
فقد أظهرت دراسة علمية نشرت في مجلة Nature Genetics الأميركية أن الحمض النووي للإنسان (DNA) يضم 12 منطقة تؤثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في تحديد العمر الذي نرزق فيه بأول مولود وعدد الأطفال الذين سننجبهم. هذه النتائج هي سابقة عالمية، إذ كان العلماء يعتبرون أن السلوك الإنجابي لدى الإنسان مرتبط فقط باختيارات شخصية وبمؤثرات اجتماعية وبالبيئة المحيطة به.
وتمت الدراسة تحت إشراف جامعة أوكسفورد البريطانية وشارك فيها أكثر من 250 باحثا عبر العالم من علماء الأحياء والوراثة (الجينات) والاجتماع. ويقول الباحث التونسي حمدي مبارك من جامعة "في.يو" بأمستردام والذي ساهم في الدارسة لفرانس 24: «حتى الآن، وفي العقود الأخيرة كان تفسير التأخر في الإنجاب والحصول على عدد أقل من الأطفال مرتبطا بعوامل بيئية واجتماعية وثقافية كخصائص الأبوين ووضعهما الاجتماعي. ولم يتم الاهتمام إلا نادرا بالجذور الجينية والبيولوجية لهذا السلوك».
تأجيل سن الإنجاب تحول إلى ظاهرة عالمية
تشهد العديد من دول العالم ظاهرة تقدم سن الآباء والأمهات والتي تؤثر بدورها على عدد أطفالهم وعلى صحتهم الإنجابية. في الدول الصناعية، التأخر في الإنجاب زاد ما بين 4 إلى 6 سنوات منذ سبعينات القرن الماضي. من جهة أخرى انتقل متوسط السن الذي تنجب فيه النساء طفلهن الأول في تلك الدول من 24 سنة إلى 29 عاما(1). يقول العلماء إن القدرة الإنجابية للنساء تتراجع تدريجيا ابتداء من سن الخامسة والعشرين عاما، فقرابة نصف النساء يصبحن عاقرات عند بلوغهن سن 40 عاما(2).
ويؤدي التأخر في الإنجاب إلى ارتفاع في مشاكل الخصوبة لدى الرجال والنساء على السواء، فما بين 10 و15 في المئة من الأزواج يعانون من العقم في الدول الغربية، ويُقدر عددهم عبر العالم بـ48 مليون زوج عقير تقريبا(3). في أغلب الأحيان لا تعرف أسباب مشاكل الخصوبة، خاصة عند الرجال.
بادرت الدراسة الجديدة بإثارة هذه المسألة: هل من علاقة بين تأخر سن الإنجاب وضعف عدد الأولاد بموروثنا الجيني؟ انطلاقا من 62 بحثا أجري في السنوات الأخيرة عبر العالم، تم جمع معطيات أكثر من نصف مليون شخص (238 ألف رجل وامرأة بالنسبة للسن لدى المولود الأول و330 ألف رجل وامرأة بالنسبة لعدد الأولاد)، ما يجلعها أكبر دراسة على الإطلاق حول العلاقة بين الموروث الجيني والتناسل عند الإنسان.
بعد تحليل الحمض النووي والتركيز على المُعطييْن المراد دراستهما عبر تقنية *GWAS، تم تحديد 12 منطقة في الحمض النووي (أو ما يسمى في علم الوراثة بالموقع الكروموسومي « Locus » ) تحمل اختلافات بين الأشخاص. ودفعت النتائج الباحثين إلى التأكد من أن هذه المناطق تضم جينات تؤثر في تحديد العمر عند إنجاب المولود الأول وعدد الأطفال في حياة الرجال والنساء.
ويقول الدكتور حمدي مبارك لفرانس 24: «تحديد هذه الجينات التي تؤثر على سلوكنا الإنجابي (...) يساعدنا على فهم البناء الجيني والبيولوجي المعقد للتناسل عند الإنسان بشكل أفضل».
السن الأقصى للإنجاب عند المرأة
أظهرت الدراسة أن التغيرات الجينية المؤثرة على سننا عند إنجاب المولود الأول مرتبطة بخصائص أخرى على غرار النضج الجنسي وعمر الفتاة عند حيضها الأول ثم عند انقطاعه، وسن الصبي عند تحول صوته لدى البلوغ. وتقول عالمة الاجتماع في جامعة أوكسفورد ميليندا ميلز التي قادت الدراسة في بيان: «لقد لاحظنا أن النساء المُعرضات وراثيا للإنجاب في عمر متأخر لديهن أيضا أجزاء من الحمض النووي (DNA) تجعلهن مُعرضات أيضا لفترات حيض متأخرة وإياس متأخر (انقطاع الطمث). يمكننا في المستقبل جمع معطيات عبر التحليل الجيني قد تمكن الأطباء من الإجابة عن هذا السؤال: إلى أي حد يمكننا الانتظار حتى نرزق بطفل؟»
ولاحظ الباحثون أن المناطق الجينية المُكتشفة، ومن بينها 10 تم التعرف عليها لأول مرة، لها علاقة بمسار التخصيب عند الإنسان فهي تؤثر في نمو خلاياه الجنسية عبر هرمونات كالإستروجين والهرمون المنبه للجريب (FSH) وقد تساهم في أمراض كالانتباذ البطاني الرحمي (endometriosis) عند النساء.
الجينات لا تفسر كل شيء
لكن لا تفقدوا الأمل في أن تختاروا بنفسكم الوقت المناسب للإنجاب. فالمشرفون على الدراسة يشددون على أن العوامل الوراثية والجينية لا تؤثر إلا بشكل بسيط في تحديد سن الإنسان لدى إنجابه مولوده الأول وعدد الأطفال الذين سينجبهم. إذ تبقى العوامل البيئية والاجتماعية والاختيارات الشخصية الأكثر تأثيرا في اختيار توقيت الإنجاب وحجم العائلة.
غير أن البحث الأخير، وبإشراكه عددا كبيرا من العلماء، يبني جسورا بين تخصصات مختلفة، كعلم الاجتماع والديموغرافيا والطب والوراثة وغيرها، قد تساعد على فهم جديد للتوازنات التي تدخل في تحديد السلوك الإنجابي لدى الإنسان وإيجاد حلول جديدة لمشاكل الخصوبة. ويضيف العالم حمدي مبارك «نتوقع أن يدفع عملنا هذا نحو تحديد أبحاث وتجارب جديدة يتوجب القيام بها وإعطاءها الأولوية في المستقبل القريب».
التعليقات