ماذا لو زارت الموناليزا لبنان؟ .. هذه واحدة من النكت الكلاسيكية التي تنتشر بشكل كبير عبر مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، فحتى سيدة اللوحة الأشهر في العالم لها صور بشفاه منتفخة وصدر منفوخ ووجه مشدود.
المقصود هو إظهار مدى انتشار التدخلات التجميلية في المجتمع ولا سيما لدى النساء اللواتي يسعين لتحسين المظهر بحسب معايير معينة أو إخفاء علامات التقدم بالعمر.
هذه التدخلات المكلفة لا يبدو أن الأزمة الاقتصادية الأكبر في تاريخ البلاد قد منعتها من التمدد أكثر فأكثر.
قد تكون المؤشرات والتقارير تتحدث عن انهيار وإفلاس، لكن بالنسبة لبعضهم تبقى للجمال الأولوية.
"على عكس ما قد يظن بعضهم نحن نعمل أكثر في وقت الحرب والأزمات، ففي هذه الظروف يسعى الإنسان لتحسين نفسه نفسيا ونصف التأثير التجميلي هو تأثير نفسي"، هكذا يقول جراح التجميل د. طوني نصار وهو يشرح أن مع خسارة الناس مدخراتهم وقيمة أموالهم فإن كثيرا منهم يرون أن الاستثمار الوحيد المجدي هو الاستثمار بالذات.
في عيادته المزدحمة، شأنها شأن معظم العيادات التجميلية في البلاد والتي تحجز فيها المواعيد قبل أسابيع، التقينا بأماندا نوفل التي تواظب على إجراء حقن الفيلر والبوتكس منذ سنوات رغم أنها تبلغ من العمر خمسا وثلاثين سنة فقط.
هي تقول إن زوجها – ككثير من الرجال - لا يحبذ هذه العمليات، ولكنها تقوم بذلك من أجلها هي، لأن أي تجاعيد في وجهها تزعجها.
أماندا كانت تقوم بإجراء يسمى ب : 1،2،3. وهو عبارة عن إبرة بوتكس يحقنها الطبيب على ثلاث مراحل في ثلاثة أماكن في الوجه. يستغرق الإجراء اقل من ثلاثين ثانية.
أما تكلفته عند هذا الطبيب فهي نحو مائتي دولار.
حقيقة الجمال القبيحة: تجاوزات في عيادات حقن البوتوكس والفيلر في مصر
فوضى التجميل في الإمارات .. شفاه ومؤخرات "مثالية" دمرت حياة أصحابها
لماذا يُقبل الرجال على جراحات التجميل رغم التحذير من مخاطرها؟
"المبلغ يساوي ما قد يدفعه المرء ثمن عشاء أو في يوم تسوق"٫ يقول د. نصار في إشارة إلى أن التكلفة البسيطة – برأيه- للبوتكس أو الفيلر قد تفسر سهولة الإقبال على هذه الإجراءات.
طبعا هذا لا يعكس الحالة العامة في البلاد، فالحد الأدنى للأجور في لبنان هو مائة دولار شهريا فقط- وقيمة الأجور تدنت بشكل مهول في السنوات الثلاث الماضية مع فقدان العملة المحلية لأكثر من ثمانين في المائة من قيمتها.
خلف الحدود
صحيح أن جزءا كبيرا من الذين يقبلون على هذه الإجراءات هم من المغتربين اللبنانيين الذين يزورون بلدهم بشكل دوري وقد تكون هذه التكلفة غير باهظة بالنسبة لهم مقارنة مع كلفة هذه الإجراءات في للدول التي يعملون فيها، لكن ذلك لا يعني أن عمليات التجميل محصورة ضمن الميسورين من سكان ومغتربين.
"ادخرت على مدى أشهر لأقوم ببعض التدخلات في وجهي"، تقول نسرين جابر التي تدرّس صفوف الروضة في مدرسة خاصة وأجرها الشهري لا يتعدى 300 دولار أمريكي.
لكنها لم تكن لتحرم نفسها من هذه اللفتة التجميلية قبل زفافها.
"كان إجراء هذه العمليات جزءا من التحضيرات ليوم زفافي، تماما كالفستان والشعر والتبرّج. وطبعا كلّفني الموضوع مبلغا كبيرا بالنسبة لي ولكني اعتبرت الأمر أولوية".
لدى سؤال نسرين عن الأسباب التي دفعتها لإجراء هذه التدخلات، أجابت في البداية أنها رائجة والجميع يقوم بذلك،ما جعل الأمر يبدو بالنسبة لها طبيعيا.
قبل الأزمة الحالية كانت المصارف تقدم قروضا خاصة بعمليات التجميل، كما أن هناك من يلجأ إلى عيادات غير مرخصة بحثا عن أسعار أرخص وإن كانت الدولة غالبا ما تعمل على إقفال عيادات من هذا النوع، ولا سيما عند انتشار أخبار عن تشوهات بين الحين والآخر.
في المقابل يلجأ بعضهم إلى ما وراء الحدود .. إلى دمشق لإجراء عمليات تجميل بربع التكلفة في سوريا.
حتى في عز الحرب في سوريا، عندما كانت الدول تحذر من السفر إليها باعتبارها من أخطر المناطق أمنيا، كانت سيدات لبنيات يذهبن إلى دمشق طلبا للتجميل.
في عام 2018 استقلت يارا سيارة أجرة الى دمشق حيث أجرت عملية تجميل لأنفها كلفتها 400$ بينما كانت ستدفع ألفي دولار على الأقل في لبنان من أجل العملية نفسها.
"دفعتُ هذا المبلغ لأنني قصدت جراحا مشهورا جدا. كان يمكن أن أجري العملية بنصف التكلفة عند طبيب عادي".
لم تعتبر يارا يومها أنها تقوم بأي مجازفة. "كان هناك كثير من الناس الذين يقومون بذلك يوميا وأنا ذهبت الى دمشق حيث لم تكن هناك معارك".
أي لبنان؟
هل كل هذا يعني فعلا أن الجميع في لبنان يلجأ إلى التجميل؟
طبعا لا. لكن من السهل رصد سبب التعميم. فبالإضافة إلى الناس الذين يلتقي بهم المرء في أماكن متعددة في البلاد والذين يبدو واضحا عليهم أثر التدخلات التجميلي، ولا سيما في الشفاه أو الخدود أو العين - بالإضافة إلى هؤلاء٬ فإن الصور التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي تُبيّن أن تلك الإجراءات منتشرة بشكل كبير.
وهو أصلا ما أشار اليه د. نصار عندما قال إن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورا كبيرا في انتشار هذه الإجراءات، مشيرا إلى انخفاض ملحوظ لما يُسمى بالعمر التجميلي، أي العمر الذي يبدأ فيه الشخص الخوض في مجال التجميل.
إذا ما وصلتم الى هذه النقطة من المقال وكنتم متابعين لأخبار لبنان، قد لا تُلامون اذا ما شعرتم ببعض التشويش.
فالصورة التي تخرج عن التقارير والأرقام والبيانات تظهر لبنان في حالة فقر وانهيار اقتصادي وتراجع حاد بالمستوى المعيشي وغياب للأساسيات.
أما الصورة التي قد ترونها لدى تصفح منصات التواصل الاجتماعي- وربما عندما تقرأون هذا المقال فهي تدل على لبنان جميل وأجواءه أجواء سهر وانبساط الدائم وجمال.
في الحقيقة، كلتا الصورتين حقيقية، وفهم لبنان عبر واحدة منهما دون الأخرى قد يقود إلى مغالطات جمة.
التعليقات