إن الحفاظ على كرامة الإنسان وتحقيق التنمية العادلة المتوازنة أمران متلازمان، حيث يواجه سكان منطقتنا جملة من التحديات غير المسبوقة والمتشابكة، تتضمن الصراعات الممتدة والحروب والنزوح البشري غير العادي.
إن تنمية الإنسان وبناء مقدراته يتطلبان عملا ومجهودا وإنفاقا من أي حكومة أو مؤسسة، والتعامل مع التنمية يتم ساعة بساعة خلال أيام السنة المالية الواحدة، وكيفية تحقيق التنمية محور جدل مستمر. فالتنمية لها مُختلف المدارس، وما يتبعها من مختلف المعادلات الكمية المعقدة، وما يرتبط بها من نماذج اقتصادية لها روّادها من مفكرين ومبدعين. لكن بعيدا عن التعقيد ماذا ستكون مخرجاتها وما هي توقعاتها عندما تكون المتغيّرات إمّا صفرا وإمّا سالبة لأننا اليوم في اقتصادنا العربي وفي مختلف الدول العربية نجد توقف عجلة التنمية بالكامل لأسباب صنعت بأيدينا.
في ظل هذا التوقف والتراجع الذي صنعناه بأيدينا، جاءت الطبيعة مرات عديدة لتذكرنا أين الدور العربي الإسلامي المنسّق والفاعل في مواجهة العديد من الكوارث والأزمات التي تلمّ بعالمنا؟ نحن نرى في الكوارث الطبيعية مثالاً للتلاحم الإنساني في مواجهتها، وتجلى ذلك في مواجهة إعصار مكونو حيث امتدت الأيادي العُمانية لتضم مساعيها في إنقاذ الأنفس البشرية فيها إخوة لها في اليمن. ويدخل في هذا الإطار التفكير الجاد، مرة أخرى، في إقامة فرق سلام بلا حدود، تسهم في التصدي لكثير من أشكال المعاناة الإنسانية التي نواجهها.
وخلال عملي في الثمانينات مع الهيئة المستقلة الخاصة بالقضايا الإنسانية الدولية طالبنا بمواجهة ثلاثة تحديات: الإنسان ضد أخيه الإنسان، الإنسان والطبيعة، والكوارث التي هي من صنع الإنسان.
إن العالم بحاجة إلى نهج جديد في التعامل مع التحديات في منطقتنا؛ يأخذ بالحسبان البيئة الطبيعية والبيئة الإنسانية. فإذا تحقق ذلك، نصل إلى الوحدة العضويّة المنشودة بين الإنسان والطبيعة وأخلاقيّات المسؤوليّة الكونيّة. فما نطلبه هو وضع الإنسان صلب معادلة الكرامة الإنسانية.
في ظل هذا الوضع علينا أن نتعاطى بشكل مغاير مع مثل هذا التحدي، وبالتالي تبرز ضرورة أن نؤسس اليوم وليس غدا نظرية اقتصادية تختص بالحالة التي نمر فيها، ونَدفع نحو التفكير، بشكل لا يرتبط بالأمس وبالنماذج المعتمدة سابقا في حل مختلف المعضلات، من تحديد أين كنّا، وأين وصلنا، وإلى أين سنصل، وتكلفة إعادة الإعمار ماليا وزمنيا وأثر التأخر على المجتمع والقرية والمدينة، وأن نتداعى بالسهر لإنقاذ جسدنا مما فيه. كما نحتاج إلى أن نتحرر من قيود أفكار الأمس، والتحرر بحاجة إلى فكر خلاق وفلسفة جديدة تجيب على الأسئلة التي تدور في فلك كيف سيتم بناء ابني في سوريا أو ابنتي في اليمن.
بناء على ما مضى على من يريد أن يصوغ خارطة طريق أن ينطلق من الأرقام التي تستطيع أن تضع أمامنا مُختلف المعادلات المعقدة والنماذج الرياضية التي يمكنها أن تتصور مستقبلنا في ظل مراجعة لأنفسنا؛ ولا بد أن يَضُم ذلك فكرا شاملا ماليا يستقطب أي إنسان شرقا وغربا ليشارك في إعادة الإعمار.
لنأخذ حالة الإنسان في اليمن الذي يُعاني وكرامته تُسحق وفقد الأمل. هذا الإنسان الذي صار يرى باطن الأرض خيرا له من ظاهرها لأنه فقد كل شيء ولا يرى أملا في تغيير واقعه خلال عقد أو عقدين في زمن من يتأخر فيه يوما تنحدر قدرته على المنافسة بشكل مضطرد.
في اليمن حوالي 75 بالمئة من السكان (22.2 مليون شخص) يحتاجون إلى مساعدات إنسانية. ما يُقدر بنحو 8.17 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ويعاني 4.8 ملايين شخص من انعدام الأمن الغذائي الشديد ومن خطر المجاعة.
16 مليون شخص يعانون من نقص في الحصول على المياه النظيفة والصرف الصحي، و4.16 مليون شخص لا يحصلون على الرعاية الصحية الكافية، والكوليرا والدفتيريا وغيرها من الأمراض المعدية قد أصابت الشعب اليمني وفَتكت به.
وتشير الأرقام إلى أن حوالي 8.1 مليون طفل و1.1 مليون امرأة حامل أو مرضعة يعانون من سوء التغذية الحاد بما في ذلك 400 ألف طفل دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية الحاد والشديد، وأُجبِر أكثر من 3 ملايين شخص على الفرار من ديارهم، وضِعفُ ذلك العدد ما بين غائب عن التعليم أو يعاني من تعليم غير منتظم. وتواجه المؤسسات العامة في اليمن صعوبات في تقديم الخدمات حتى على أبسط المستويات. علاوة على ذلك، يُعاني الاقتصاد اليمني من الصراع الطويل، ما حرم الملايين من مصادر رزقهم ووظائفهم، وحرَّك مستويات الفقر إلى أكثر من 80 بالمئة. وإذا قبلنا الأرقام التقديرية فالناتج المحلي للاقتصاد اليمني عاد إلى حجم قبل عام 2008. وانخفض متوسط الدخل السنوي للفرد إلى ما دون معدلات عام 1990.
هذا الإنسان في اليمن وفي سوريا وفي غزة وفي العراق وفي ليبيا صار منكوبا، والنكبة ستلاحقه وستلاحق إنسان اليوم وإنسان الغد. والسكون والجمود من المجموع العربي للتعاطي مع ذاك الإنسان سندفع ثمنه جميعا.
نحن بشر ويمكننا أن نعالج تحدياتنا بالتشارك والتكامل لأن هناك العديد من الخصال التي تجمعنا ومركَزُها إنسانيتنا؛ لذلك علينا ألاّ نحصر الحلول في أفراد ومؤسسات منطقتنا فقط، وعلينا أن ننطلق لنرسم خارطة طريق لإنسان لا يجمعني به عرق ولا لون ولا دين ولا مذهب، لكن يريد أن يشترك معي من هنا أو من هناك في بناء أخيه الإنسان من خلال ما يملكه من معرفة ومقدرات، أو تمويل ذلك البنيان. وهنا لا بد من بحث آلية التمويل، وهل يمكن أن تتدافع الشعوب نحو نصرة إنسانيتها؛ وكيف نربط زكاة المسلم في جاوة وصدقة المسيحي في برلين مع إنسان يعاني في اليمن وسوريا وغزة؛ وضرورة تسارع فكرنا التشريعي ليسبق وضعنا؛ وكيف نستخدم الوسائل التقنية الحديثة في تحريك ضمائر الملايين من البشر.
التباين السياسي في منطقتنا والصراع الذي نرى أثره العسكري والاقتصادي والاجتماعي يفتّ في جسدنا الواحد، ويفوت علينا الفرص لتنمية إنساننا العربي، والمتصارعون لا يتأثر قرارهم بالمعاناة الإنسانية ولن تتغير المواقف بسبب حجم المعاناة، والتخندق يضعنا أمام واقع لا يحتمل الانتظار، بل يتوجه نحو المزيد من الاختناق والتشرذم.
إن ما يزيد المشهد تعقيدا هو الاستمرار في التركيز على الحل العسكري لمواجهة القضايا، وضعف المؤسسات الإقليمية وغياب إستراتيجية إقليمية واضحة. ولا بد من العمل في مسارين: الأول يعزز الهوية العربية لحماية الأمن القومي العربي، وهنا أضيف الهوية الحميمية، والثاني لتعزيز كرامة الإنسان العربي من أجل تقوية مناعة الدول من الداخل.
لا يمكن أن نستمر في دور المشاهد لهذا الفيلم المرعب دقيقة تلو الدقيقة ونكتفي بالانتظار، وليس كل ما نشاهد يعكس حجم المصيبة أصلا، لأن هناك انتقائية في ما تختاره العدسة، وانتقائية في ما يبرز عند البحث في غوغل، وانتقائية في ما يصل إليك ولا يصل إليك من خلال تويتر أو فيسبوك، وانتقائية في الخبر، وفي ما يقوله المتحدث هذا أو ذاك، وانتقائية لدى المتكلم والكاتب، وتكلفة إيصال معاناة ملايين البشر لألف شخص فقط مكلفة، وإذا لم تكن لديك ميزانية تسويقية وإعلامية يكون الموت خلف الأضواء وبعيدا عن الجمهور هنا وهناك وفِي كل مكان.
ولا بد في هذه المرحلة من تعريف الأولويات والرجوع إلى الأساسيات. إن الحفاظ على كرامة الإنسان وتحقيق التنمية العادلة المتوازنة أمران متلازمان، حيث يواجه سكان منطقتنا جملة من التحديات غير المسبوقة والمتشابكة، تتضمن الصراعات الممتدة والحروب والنزوح البشري غير العادي، ولا شك في أن العلاقة بين الاستدامة الماديّة وسد فجوة الكرامة الإنسانيّة علاقة طرديّة.
وأرى أن العمل والتنسيق على المستوى الإقليمي أمرٌ ضروريّ وحيوي في إطار الاستجابة لهذه التحديات التي باتت انعكاساتها واضحة على التماسك الاجتماعي والكرامة الإنسانية.
نحتاج أن نبدأ الآن، اليوم، ونحتاج إلى خطوات مدروسة وعلمية بصياغة تتفق مع خصوصيتنا المؤلمة وتنطلق منها.
التعليقات