كم هو مؤلم وعصي علي التعبير ما يجول في الخاطر وأنا أرى ما آلت إليه علاقة الأنا مع الآخر، وحجم الأمراض والآفات التي ابتليت به تعاملاتنا بين بعضنا البعض، حيث قيم الحق والخير والجمال شبه غائبة، وقد حلّت محلها "قيم" سلبية ومنفرة، لا يرضى بها الدين ولا يوافق عليها العقل ولا يقبلها الوجدان العام والحس المشترك. فيجول في خاطري السؤال الذي يعاد طرحه كلما اشتدت أزمات الأخلاق الاجتماعية: ما سبب كل هذا التناقض بين القيم السامية التي يحملها البشر، سواء بوعيهم أو إيمانهم، وبين سلوكهم المجافي لهذه القيم والأخلاق؟ وما السبيل إلى حل هذا التناقض بين القول والفعل؟ ثم ما طبيعة الحاجز الذي يحول بيننا وبين تمثل القيم التي نحملها؟ وما السبيل إلى تجاوزه وحلّ هذا التضّاد بين ما نقوله وما نفعله؟ وقد (كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).

والغريب في الأمر أن الناظر في أدياننا جميعها، بكافة فرقها ومذاهبها، لا يجد فيها إلا ما يحثنا على العمل الصالح والخلق الحسن، وحسن التعامل، ولكن غالبيتنا، ورغم ادعائهم بالتزام واجباتهم الدينية، والحفاظ على صلواتهم وعباداتهم بشتى أنواعها وصورها، ترى العجب العجاب في سلوكهم اليومي وتعاملاتهم فيما بينهم، وتُدهش من شدة نفاقهم، وجرأتهم على أذية بعضهم، واستسهالهم لمشاعر الكراهية والحسد وإلحاق الضرر بغيرهم، حتى لقد صدق القائل حين قال يصف مجتمعاتنا هذه (بأننا متدينون جداً، وفاسدون جداً).

فيا عجبي كيف استوى داخل نفوس أغلبنا هذا التناقض؟ وكيف اختل لدينا ميزان القيم السامية التي تدعونا إلى فعل الخير لكل الناس وفي كل الأوقات دون شرط، لصالح قيم أخرى من عالم التوحش والعدوان، حيث الكل متربص بالكل، ومستعد للمقاتلة والتسبب بالأذى، وكأننا حقاً كما وصفنا الفيلسوف الإنجليزي الشهير "توماس هوبز" حين قال: (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان) ولم يغتر بالمظاهر والادعاءات التي يكون عليها البشر، فاعتبرها مجرد جلود حِملان وديعة تخفي الطبيعة الذئبية الكامنة في أعماق البشرية. وبين مظر الحملان ومخبر الذئاب يمارس أشخاص كثيرون في المجتمع نوعاً من الفصام السيكولوجي في سلوكهم اليومي، فيعيشون بشخصيتين متناقضتين: الأولى ظاهرها الالتزام بالتدين والعبادة والحرص الشديد عليها، والثانية تخفي سوء المعاملة وأذية الناس وظلمهم وأكل حقوقهم.

ولأني أعتقد أن الدين جاء من الله بكليته وشموله، لا يؤخذ نصفه ويُترك نصفه الآخر، فإن جانبه التعبدي المتعلق بالتزام العبادات والصلوات لله عزّ وجل لا يغني عن التزام ما أمر الله به بين البشر أو سنّه الأنبياء في الإحسان للآخر وكف الأذى عنه ومنع ضرره أو الإساءة إليه، فالإسلام مثلاً جاء في جوهره حافظاً للضروريات الخمس للشريعة، والتي أقرّها وثبتها علماء الدين كالآتي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ العرض، وحفظ المال، وعليها بنى الإمام الشاطبي رأيه في أن الأحكام والتكاليف إنما شُرّعت لمصالح العباد ودنياهم، وليس فقط لإيمانهم وآخرتهم.

من جهة أخرى، ومن منظور الحاجة للدين واستحالة الاستغناء عنه، فقد نظّر كثيرون من فلاسفة الطبيعة البشرية وعلماء النفس من أجل تعريف الإنسان وتحليل عوالمه الداخلية الخبيئة، فكادوا أن يُجمعوا على وجود منظومة معقدة داخل النفس البشرية، تشبه في بنيانها الاستراتيجية الكاملة الموجهة، وتتكون من مجموعة الرغبات والدوافع والحاجات التي يؤدي إطلاقها دون قيد أو شرط إلى أذية الآخرين، فإذا استمرت هذه الأذية فإنها ستكون كالنار المحرقة المتعاظمة، لا تتوقف حتى تأتي على الجنس البشري كله، لذلك أرسل الله في الأديان ما يحفظ الناس من أنفسهم، ويحقق للمجتمعات توازنها، وللجماعات البشرية أمنها وبقاءها.

بناء على ذلك، يرى المتمعن في نشأة المجتمعات وتطورها، منذ فجر الهداية الإلهية وحتى يومنا الحاضر، كيف تمكن الاجتماع والعمران البشري (بحسب تعبير ابن خلدون) بواسطة الإنسان وعبر تاريخه الإيماني، من صياغة نسق قيمي أخلاقي مستمد من عنصرين أساسيين، الأول هو الدين الذي جاء من عند الله، أما الثاني فهو العقل الذي امتاز به الإنسان عن سائر المخلوقات، فصار أهلاً للتكليف والحرية والمسؤولية.
ومن جدلية الدين والعقل هذه، صيغت على مر العصور المبادئ الأساسية للحقوق والواجبات، وبنيت الدساتير والقوانين والتشريعات، والتي كان أكثرها صلاحاً تلك التي راعت التوازن بين النزعة الفردية وحقوقها، والمصلحة العامة وواجباتها، وذلك بما يكفل حرية الفرد والحفاظ عليه، ويضمن في الوقت ذاته ضبط نوازعه الذئبية ودوافعه العدوانية. وبذلك هدفت هذه المنظومة إلى جعل المجتمع وحدة واحدة منضبطة بقيم عامة ناظمة، يمكن عبرها حل التناقض بين النزعة الفردانية الفطرية والخير العام المنتدب.

إن منظومة الضبط الأخلاقية هذه، سواء من جهة قيمها أو أدواتها، أو من جهة إجراءاتها وسلطتها في الحفاظ على المجتمع، هي الفضاء الأوسع لمجمل أخلاقياتنا التي ربما لم يتضمن الدين بعضها صراحة، لكن الالتزام بها يبقى ركناً أساسياً في ما دعى له الدين وحضّ عليه، لأنها الدليل العملي للحفاظ على الضروريات الخمس السابقة، لذلك تدخل قيمنا الدنيوية، مثل احترام فكر الآخر ومعتقده، والحفاظ على العهود والمواعيد والمواثيق، والتزام النظافة والحفاظ على البيئة، واحترام حقوق الطفل، والحفاظ على الملكيات العامة، والرأفة بالحيوان، تدخل هذه القيم وما شابهها، في باب العمل الصالح الذي يشكل صمام أمان المجتمعات وسبيل وقايتها من الانجراف إلى حافة التوحش وسلوك ما لا يرضى الله عنه ولا يأمن الإنسان إليه.

خلاصة ما أود قوله أن أهمم سبب وراء الأزمة القيمية التي تعاني منها بعض مجتمعاتنا، وتختلف المعاناة بالدرجة في ما بينها، إنما يعود لسبب يرتبط بالهوة السحيقة التي تفصل بين ممارساتنا لإيماننا وتديننا من جهة، وبين معاملاتنا البينية من جهة أخرى، حيث نجد أفراداً كثيرين يفصلون بين علاقتهم بالله وبين علاقتهم بخلقه، وكأنما اتخذوا من صلاتهم وصيامهم ماسحة ذنوب تكفر عنهم سيئاتهم مع الآخرين، وقد نسوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخلق كلهم عيال الله وأحب خلقه إليه انفعهم لعياله).